إيلاف في مخيم للاجئين في النروج
طالبو اللجوء: أوروبا لم تعد تريد أبناء العالم الثالث


ركان الفقيه من أوسلو: يمر الوقت بطيئًا جدًا على quot;أحمدquot; اللاجئ العراقي المقيم في مخيم للاجئين وسطالنروج، ويزداد إحساسه بالعزلة والكآبة، بعدما تحولت الغرفة الصغيرة التي يسكنها، إلى صالة إستقبال وغرفة نوم وطعام، حيث يمضي معظم أوقاته داخل جدرانها الأربعة، متسقطًا أخبار الأهل في بغداد وحالمًا كل مساء بمنحه حق الإقامة والعمل للخروج من أسر المخيم، وهو الذي يشعر بالتناقض الهائل بين طبيعة الحياة داخله والخارج، حيث كل شيء مختلف تمامًا وينضح بالغواية والإغراء للنزهة والعمل.


من داخل مخيم ليرا في النرويج
تبدو الحياة قاسية داخل مخيم quot;leira quot;، ولا يخفف وطأة لحظاتها المتثاقلة، مشهد الغابات والحقول الخضراء المحيطة بالمكان، والعدد الكبير لقاطنيها من العائلات والأفراد، وقد بات يتجاوز المئة وعشرين شخصًا، تعج بهم غرف المخيم وردهاته، وهم لاجئون إلى النروج هربًا من الأوضاع المعيشية المأسوية والحروب الأهلية في العراق، الصومال، أفغانستان، السودان، فلسطين... وغيرها من البلدان الأخرى التي تمزقها النزاعات الطائفية والمذهبية، وترزح تحت نير الأزمات الاقتصادية والمعيشية الخانقة.


لا تتوقف صعوبة الحياة في أرجاء المخيم لدى quot;أحمدquot; على الشروط السيئة للسكن والطعام، الذي يكاد يقتصر على الخبز والزبدة وبعض أنواع مربيات الفاكهة، التي لا يستطيع شراء سواها بمبلغ 1500 كرونة نروجية، تقدمها له دائرة اللجوء والهجرة كل أسبوعين، في بلد تقدر كلفة معيشة الفرد فيه، بما يزيد على 300 كرونة في اليوم.


وتمتد أسباب المعاناة، لتشمل الكم الهائل للمشاكل التي تحكم حياة اللاجئين، وعلاقات بعضهم ببعض، وهم الوافدون من دول شتى، ومناطق وشرائح اجتماعية مختلفة، وحّدهم اللجوء وباعد بينهم كل شيء، بدءًا باللغة وانتهاء بالتقاليد والعادات والآعراف المتناقضة، فلا يجمعهم سوى تبادل الخبرات حول وسائل الهروب والاحتيال على دوائر الأمن والشرطة للحصول على اللجوء والإقامة.


يقول quot;لؤيquot; الشاب الآتي حديثًا من غزة، والشريك الآخر لـ quot;أحمدquot; في الغرفة، إن رحلة اللجوء تبدأ بالفكرة المسبقة حول طبيعة الحياة في دول الغرب، وتصورها أشبه بـ quot;الجنة على الأرضquot; وفي مقدمها النروج التي لا تبرح الأرقام الخيالية حول دخلها القومي، تتردد في وسائل الإعلام، وباتت تفوق 300 مليار دولار أميركي سنويًا، وتصنيفها في مصافي الدول الأولى في العالم، الأكثر استقرارًا سياسيًا وأمنًا وارتفاعًا في مستوى المعيشة، ولا تلبث الفكرة أن تتحول إلى رحلة داخل صندوق شاحنة، تنقل البضائع عبر القارة الأوروبية، وصولاً إلى أقصى زاويتها الشمالية، أو على متن رحلة جوية تحط في إحدى المطارات القريبة من النروج، وتاليًا عبر الغابات والجبال التي تنتهي بطالب اللجوء في أقرب مركز للشرطة، ينقل بعدها إلى مركز اللجوء في العاصمة أوسلو، حيث يمكث أسابيع عدة، ريثما ينتهي التحقيق معه للتأكد من هويته والظروف التي دفعته إلى طلب اللجوء، ويرسل بعد ذلك إلى أحد المخيمات الخاصة باللاجئين، والموزعة في أنحاء النروج في انتظار القرار النهائي، إما إقامة وإما ترحيلا. وقد يستغرق صدور القرار سنوات، يتحول خلالها اللاجئ إلى سجين عالق بين عدم السماح له بالعودة من حيث أتى، وعدم منحه الحق في الإقامة، وتصبح حياته مجرد روايات متكررة حول اجتياز المسافات، وأهوال الوصول إلى المخيم، والأحاديث عن المساعدات الحكومية، ومدة البقاء في المخيم، وأساليب الهرب والتعجيل في الحصول على الإقامة . أحاديث غالبًا ما تنتهي بالعراك والتضارب بين اللاجئين الذين كثيرًا ما يعيشون مجموعة في الغرفة الواحدة.


ويختم quot;لؤيquot; حديثه بالقول:quot;كنت أعتقد أن التشرد يقتصر علينا نحن الفلسطينين، لكنني بعد قدومي إلى النروج والعيش في المخيم، شعرت بأننا لسنا وحدنا في العالم نلنا هذا الإمتياز منذ ما يزيد على النصف قرن ولا نزالquot;.


ويوضح أحد المسؤولين الإداريين في المخيم، أن اللجوء في النروج يستند إلى نص في القانون، يقضي بحماية ضحايا التهديد الطائفي والمذهبي وخطر الموت بسبب الفقر والمرض، وينقسم إلى سياسي يعطى للأشخاص المعرضين للقمع والاضطهاد، من جراء اعتناقهم رأيًا أو عقيدة تخالف السلطات القائمة في بلادهم، أو إنساني لدواعي الجوع والأمراض والحروب.


ويلفت quot;أبو محمدquot; وهو الحاصل على الجنسية النروجية بعد رحلة طويلة امتدت سنوات بين مخيم quot;leira quot; والإقامة في النروج، والذي بات أحد رموز الجالية العربية ومرجعًا يعود إليه أفرادها للاستيضاح عما يواجههم في ما يتعلق بكل شؤون اللجوء والإقامة، إلىquot; أن العصر الذهبي للإستفادة من قانون الهجرة واللجوء في النروج، بدأ يتلاشى إلى غير رجعة، في ظل التوجه الذي شرعت في اعتماده حكومات الدول الغربية وفي مقدمها النروج، والهادف إلى الحد من تدفق اللاجئين الوافدين إليها، وخصوصًا الآتين من البلاد العربية والإسلامية، بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وتفاقم ما يسمى بظاهرة الإرهاب الأصولي الإسلامي، وصعود نجم اليمين، المعتدل منه والمتطرف في دول أوروبا وأميركا الشمالية، والمستفيد من تفاقم الأزمة الإقتصادية التي تجتاح العالم، أزمة تستثمرها تلك القوى عبر تحميل المسؤولية عنها للأجانب اللاجئين في تلك البلدان، تحت عناوين شتى من العنصرية والتمييز على أساس اللون والعرق أو الدين والقومية، على ما بات واضحًا للعيان، وملموسًا في عدد من الدول التي تولت الحكومات اليمينية إدارة دفة شؤونها السياسية والإقتصادية ، مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا ...وغيرها بما فيها النروج، التي لا يتوانى المسؤولون فيها يمينًا ويسارًا عن الإدلاء بالتصريحات الداعية إلى الحد من تدفق اللاجئين إليها. وتترجم هذه المواقف والدعوات إقفالاً للعديد من مخيمات اللجوء، وتعقيدا في الإجراءات الإدارية المطلوبة لمنح الإقامة والجنسية، وتقليصًا مستمرًا للمساعدات والخدمات المقدمة للاجئينquot;.


وتؤكد المناقشات التي تدور داخل المؤسسات القانونية والسياسية للإتحاد الأوروبي، ما ذهب إليه quot;أبو محمدquot; . إذ انتهى الجدل المثار حول القضية إلى وضع قانون بات جاهزًا للإقرار في برلمان الإتحاد الأوروبي، وهو يتضمن كل عناصر التشدد في مراقبة حدود دول الإتحاد، وترحيل أكبر عدد ممكن من اللاجئين. ورغم كل ذلك، ما زال كثيرون في دول العالم الثالث، بدءًا بإفريقيا ومرورًا بالشرق الأوسط وانتهاءً بدول جنوب شرق آسيا، يحلمون بالحياة في الغرب، حيث التطور والعمران والتعليم الراقي والمساعدات الحكومية وحرية الرأي والتعبير، ويبحثون في تأمين طرق للوصول إلى quot;الجنة الموعودةquot; ، حتى لو اقتضى الأمر مخاطرة قد تنتهي بهم غرقًا في مياه البحر، أو العيش في مخيم للجوء سنوات عدة، أو حتى إعادة الترحيل قسرًا في طائرة إلى أرض الولادة الأولى.