نسرين عجب من بيروت: صباح الثلاثاء، تشهد ضفاف نهر الحاصباني حركة غير اعتيادية. طابور طويل من السيارات، هذا يضغط على بوق السيارة بشكل متواصل، وذاك يصرخ بأعلى صوته quot;تقدم قليلاً كي أتمكن من المرورquot;. ووسط هذا الازدحام تفوح رائحة اللحم المشوي على الفحم وتضاربها رائحة فلافل أم فادي المنهمكة بلف السندويشات. واحد من هنا quot;أريد أثنينquot;، وآخر من هناك quot;أعطني أربعةquot;.
ولا يفوتك صوت الباعة الذين يتلون أسعار بضائعهم على مكبرات الصوت، ويعلق أحدهم: quot;مكبر الصوت أقوى ويجلب الزبائنquot;. وفي ظل هذه الضوضاء يلفتك منظر شاب وفتاة يتحدثان بلغة العيون وكأنهما ماريوس وكوزيت خارجان لتوهما من رواية quot;البؤساءquot; لفيكتور هيغو.

سوق الخان بعيون أهله

هذا المشهد ألفه أبناء حاصبيا وجوارها في سوق الخان. ذلك السوق الذي ينتظرونه كل اسبوع ويحضّر له الباعة من الساعة السادسة صباحاً، اذ بات يشكل جزءاً مميزاً من تراثهم. quot;هو مركز عملية سياحية محدودة ضمن المنطقةquot;. يشرح فايز (من بلدة الفرديس)، ويتابع: quot;زيارته غدت جزء من عاداتناquot;. وتؤيده نورما التي تعمل في بيروت وتأتي أيام العطلة الى قريتها الفرديس: quot;مميز ولذته طابعه التراثيquot;. وبابتسامة عريضة كثيراً ما يردد الزوار: quot;سوق الخان رائع جداًquot;.
يبدو أن سوق الخان عنصر جذب للجميع نساء ورجالاً وشباباً وأطفالاً. وبلهجة طفولية يقول مكرم (6 سنوات): quot;كل أسبوع أطلب من والدي أن يأتي بنا الى السوق، لأننا نستمتع كثيراً هناquot;. والحال لا يختلف عند رنا ابنة الثامنة عشرة: quot;أحياناً نتغيب عن المدرسة لنأتي الى هناquot;. وترفع يدها مشيرة الى أشجار الكينا في الجهة الشمالية وتقول: quot;بعد انتهاء السوق على الساعة الثالثة، نقصد ذلك المكان للتنزهquot;.
والسوق ليس فقط للتسلية اذ يعتمد عليه الكثيرون ويحسبون له الحساب. وتشرح نادياًquot; quot;احتفظ بالمال للتبضع من السوق لأن المنتجات فيه أرخص ثمناًquot;.
الظاهر أن السوق ببضائعه المتنوعة من أدوات منزلية وألبسة وأحذية ومأكولات وألعاب على بسطاته الكثيرة، أصبح معتمداً ليس من أبناء حاصبيا وجوارها فحسب، بل يستقطب زواراً من النبطية وصور وحتى من راشيا والبقاع اللتان تقعان على بعد كيلومترات من حاصبيا. وتشير أم علي الى أن ميزة السوق هي في تعدد بسطاته: quot;اذا لم تعجبني البضاعة في واحدة أقصد أخرىquot;.

والحب له حصة

يبدو أن الحركة موسمية في السوق. وتقول فاديا ان الحركة معدومة شتاء وتنشط في فصل الربيع فيبدأ الباعة بالتدفق. الا أن حسين يعتبر أن الوضع مقبول شتاء ويتحسن كثيراً في الصيف.
وعلى الرغم من تأفف بعض الباعة فإن بعضهم الآخر يجد السوق مشجعاً على غرار ساري. ويشرف ابن الثالثة عشرة ربيعاً على بسطة والده أيام العطلة. ويؤكد أن السوق فرصة جيدة جداً لاستقطاب الناس، مشيراً الى أن العائد المادي منه كبيراً. أما وائل فوجد في السوق ملاذاً: quot;كنت أملك معملاً للأحذية وخسرته، والآن أقصد السوق علّني أعوّض خسارتيquot;.
اذا كان السوق مصدر رزق للباعة وتوفير للأهل فهو أيضاً ملقى للشباب والفتيات، ويجدون فيه فرصة للتعارف وبناء قصص حبهم.

في النتيجة، يبدو أن شعبية سوق الخان هي في بساطته، وجماله في الالفة التي يخلقها بين أبناء المنطقة وجوراها الذين تعلقوا به لدرجة أنه أصبح جزءاً من حياتهم. ويبقى السؤال هل يحافظ السوق على وجوده أو سيخّف تدريجياً كخيم شواء اللحم فيه، والتي تقلصت الى واحدة بعد أن كان مشهوراً فيها؟

السوق عبر التاريخ

يعتبر سوق الخان من أقدم الأسواق الشعبية في لبنان والشرق. سمي كذلك نسبة الى الخان الكبير الذي بناه الأمير أبو بكر الشهابي عام 1350 م. يتوسط السوق منطقة العرقوب ndash; حاصبيا ومرجعيون. كان يقصده قديماً أبناء الحولة والجليل وفلسطين والجولان وحوران وجبل عامل وسهل البقاع ومناطق لبنانية أخرى، لمقايضة بضائعهم، وأهمها المواشي والمصنوعات المحلية كالفخار، بسلع أخرى كالمنتوجات الزراعية (الليمون والموز والزيتون). السوق مستمر منذ سنة 1365 م ولم يتوقف سوى خلال فترة الاجتياح الاسرائيلي للمنطقة في آذار 1978، اذ تأثر نسبياً لكنه سرعان ما عاود نشاطه بعد انتشار قوات الطوارىء الدولية. كذلك تأثر بالعدوان الاسرائيلي الكبير صيف 1982، ليعود وينطلق من جديد بفضل ارادة أبناء المنطقة الذين يعتبرونه من أهم مجالاتهم الاقتصادية.