إبراهيم أحمد من الأنبار- غرب بغداد: حين زرت الأنبار قبل أكثر من خمس سنوات محاولاً استطلاع وضعها وما اعتراها إثر سقوط نظام الحكم، وانتشار الدبابات الأمريكية في مدنها وطرقاتها، كنت مع الناس حذراً من ألغام كثيرة تدفن كل يوم وكل ساعة على جوانب الشوارع والمنعطفات، ولكني كنت حذراً بشكل إضافي من ألغام فكرية ونفسية ولغوية أعرف بحكم نشأتي في هذه الأرض أن سكانها قد اعتادوا ببداوتهم وتمدنهم معاً غرسها في كلامهم لتنفجر فجأة، تحت ملامحهم القاسية، وتقذف شظاياها الجارحة،ولو على شكل نكتة أو كلمة هازئة أو جادة بوجه من يتملكه الفضول ويأتي لاستطلاع أمرهم أو محاورتهم أو محاولة استجلاء أوضاعهم، بل كثيراً ما يزرعونها وبكل براعتهم وامتثالهم للأقدار أيضاً لأنفسهم وفي أعماق عقولهم وأرواحهم حتى لو فجرت كل الجسور التي يمكن أن تربطهم بأنفسهم وبمستقبلهم أو بالعالم!


لذلك كانت حصيلتي الاستطلاعية آنذاك من تنقلات متفرقة بين الرمادي والفلوجة وهيت هي ذات الخطوط العريضة التي استهلكها الإعلام المرئي والمكتوب، مع خزين خاص من خلجات وجدانية وعاطفية هي ذات طابع أدبي يصعب إدراجه سياسياً!


اليوم قل زرع الألغام والعبوات الناسفة وبشكل كبير في الشوارع والساحات ومداخل مدن الأنبار، لكن الألغام الفكرية والنفسية داخل كلام الناس أو حتى صمتهم أو تأملاتهم ما زالت، وربما تكاثرت بقدر ما جعل التحول التاريخي الجاري اليوم الصراع يشتد أكثر فأكثر بين بداوتهم وتحضرهم، ريفهم ومدنهم، ماضيهم وحاضرهم،أغنيائهم وفقرائهم، ساستهم وناسهم،مثقفيهم وجهلتهم،نزعتهم للزعامة والمشيخة والاستقلالية، وبين هيمنة الدولة وتمركزها، دينهم الروحي كماعرفوه وألفوه، والدين السياسي الرهيب كما أراد أن يدخلهم فيه الوافدون أصحاب اللحى والسكاكين والأحزمة الناسفة، وبين من لا يزال يدعو للصراع مع الأمريكيين سياسياً أو قتالياً، وبين من حول الصراع مع الأمريكيين إلى صراع على الأمريكيين، أو إنه بفطنة بدوية أو حضرية جعلهم غنيمة وأسلاباً! أو إنه أدرك أن الأمريكيين يمكن أن يكونوا حلفاءه كما هم حلفاء الآخرين الذين يتهالكون عليهم سراً، ويتظاهرون أمام الناس بعكسه!


انحصرت أهمية الأنبار في نظر العهد الملكي ( وكانت تسمى آنذاك لواء الدليم ) بالقاعدة العسكرية البريطانية في سن الذبان ( الحبانية ) و محطة النفط في الحقلانية، وقد ظلت أهميتها كذلك ولم تحظ بأي اهتمام رغم غنى أرضها بالثروات وكثافة سكانها وحيويتهم! وباستثناء مصنع الفوسفات في عكاشات قرب القائم،ومعمل الزجاج المعطل تقريبا في الرمادي وسكة الحديد المتعثرة من بغداد حتى القائم وبعض معامل الإسمنت، لم تحظ باهتمام تحديثي أو تطوير اقتصادي جاد! على عكس ما يشاع ويروج عن تفوقها أو تميزها أو حصولها على الرعاية الخاصة كمنطقة خرج منها رجال حكم وقادة عسكريون وحزبيون ذوو نفوذ وسطوة ! بعضهم يقول جاداً أن أحمد حسن البكر،والذي كان معلماً فاشلاً في الأنبار لم يتحمس لإنشاء سد حديثة إلا بعد أن تأكد أنه سيغرق مدينة عانة انتقاما من أهلها حيث كان يكن لهم كرهاً غامضاً، وكان بالإمكان إنشائه دون التضحية بمدينتهم التاريخية الجميلة!

فمدن الأنبار كشقيقاتها في الجنوب والوسط والشمال تعاني من نفس المشكلات الخطيرة المزمنة: تهالك البنية الاقتصادية وتشوهها، وتدنى النمو الزراعي والصناعي والسكني والتعليمي، البطالة الواسعة والعوز المعيشي الواضح، تردي الوضع الصحي والافتقار للماء النظيف و الكهرباء وعدم وجود مجاري الصرف، وكون أغلب طرقها و شوارعها الداخلية غير معبدة،وأحياؤها السكنية غارقة بالمياه الآسنة، وتتدفق إلى النهر القاذورات والنفايات المتراكمة فتزيد في تلوثه وغيرها من مشكلات يقول الناس إنهم عجزوا ويأسوا من الحديث عنها لمسؤلين يأتونهم بالوعود الخلابة أيام الحملات الانتخابية ثم ينسونهم ما أن يجلسوا على كراسيهم الوثيرة!
قبل أكثر من عامين سقطت الأنبار في يد الإرهابيين،وسيرت القاعدة موكباً من السيارات والدراجات النارية المسروقة في شوارع مدينة الرمادي محتفلة بانضمامها لما أسمته : دولة العراق الإسلامية، وقد شاركتها قناة الجزيرة القطرية هذا النصر (العظيم) ونقلت للعالم،تلويحات الإرهابيين بأعلامهم، وقد غطت الأقنعة السوداء وجوههم! مؤكدين أن زحفهم سيتواصل إلى بلاد الإسلام الأخرى،وفسطاط الكفر في العالم كله!


مرت فترة حالكة على أهل الأنبار ذاقوا فيها كيف يكون الظلام بديلاً عن نور النهار في ظل دولة الإسلام الوهمية والتي لا وجود لها إلا على شفرات سيوف أجبروا حدادين على صنعها على غرار سيوف معارك المسلمين الأولى في بدر وأحد! اليوم تلاشى ذلك الكابوس المقيت، وعادت الأنبار تنعم بهدوء وسلام واضحين يغمران طبيعتها الخلابة، وسجية الناس المحبة للحياة والانطلاق،ولكنها ما تزال مكبلة بالكثير من الأوامر والنواهي،قديمة وجديدة !
ولا يسعك إلا أن تستعيد الأسئلة الكثيرة التي رددها المراقبون عن بعد : لم صارت هذه الأرض الشاسعة حافظة دافئة للإرهابيين طيلة هذه الفترة؟ وهل صحيح أن ضمائر أهلها المعروفين بطيبتهم لم تتحرك ضد جرائمهم اليومية في القتل والخطف والتعذيب والاغتصاب؟


يتحدث العارفون المتابعون لأوضاع منطقتهم ( غير راغبين بذكر أسمائهم ) أن ضمائر الناس هنا لم تغب يوماً ولم تمت،كانوا يتمزقون في أعماقهم لمرأى الإرهابين يمرقون كالأشباح بين بيوتهم وشوارعهم،وللجثث التي تلقى في الطرقات وراءهم، ويتألمون كثيراً لما اعتراهم من عجز حيال رجال ملثمين ما كانوا يتورعون عن نسف بيوتهم لشك بسيط فيهم، ولكن ثورة الصحوات والتي هي ثورة الناس في الانبار لم تحصل إلا بعد تراكمات طويلة وتكون ظروف موضوعية حاسمة، فمن اسموا أنفسهم بالمجاهدين انتهكوا في هذه المحافظة ثلاثة ثوابت حساسة حد التقديس، فهم أولاً : بنشاطهم الإرهابي الفتاك عطلوا الحياة الاقتصادية والحياتية، منعوا التجار والمقاولين والبنائين عموماً من العمل بحجة أن عملهم مرتبط بالأمريكان أو يتلاقي معه (يسمحون به لمن يقتسم معهم حصة كبيرة من أموال الأمريكيين )،وحطموا ما تبقى من شبكات الكهرباء والماء ومراكز الوقود والتلفونات وحتى المستشفيات ومنعوا وصول مواد الحصة التموينية إلى المحافظة،وأغلقوا الدوائر والمدارس ومرافق العمل وأجهزوا على كل مصدر للعيش أو للبقاء،ومسكوا بمخالبهم عصب الحياة وكرسوه للموت فقط! وثانياً إنهم مسوا مقدسات الناس وتراثهم الروحي العام والشخصي،فهم لم يتورعوا عن اقتحام المساجد على المصلين والعباد الخاشعين ليفرضوا عليهم طقوس مذهبهم الوهابي في الصلاة أو الأذان والوضوء أو تأدية الشعائر الدينية المتوارثة،وهدموا أضرحة أئمة ورجال مبجلين لدى الناس،وتزخر بها الأنبار،كمتصوفة أو أصحاب كرامات،بل حملوا معاولهم إلى المقابر وهدموا كل قبة أو شاهدة فوق قبر،ما أجج غضب الناس ولم يعودوا قادرين على كظمه ! وثالثاً إنهم تجرأوا على شرف عوائل كثيرة، حين انتزعوا منها فتيات ونساء ليتخذوهن زوجات ومحظيات لما يسمون بأمراء القاعدة وهم عادة من العرب الوافدين من سوريا والسعودية واليمن وليبيا والمغرب والصومال وغيرها من البلدان التي اختصت بتصدير الإرهاببيين للعراق في هذه الفترة العصيبة،كانت ثمة طرق خاصة ومسارب عديدة غير النقاط الحدوية مع سوريا مفتوحة لتدفقهم قبل أن يسيطر عليها شرطة الحدود العراقيين مظهرين كفاءة وإخلاصاً عاليين! هذه الانتهاكات الثلاث الرئيسية جعلت الثورة تغلي في صدور الناس وقد تصاعدت أكثر بعد أن عرفوا بالحدس و بالأدلة القاطعة أن الحكومة الإيرانية وبمختلف أجهزتها مع السلطات السورية وبقايا المخابرات العراقية القديمة هم من يمول هؤلاء الإرهابيين ويرسم لهم مخططاتهم وأهدافهم في القتل والتدمير! وإنهم يوغلون بهذا الثالوث المرعب مادين جذورهم بين الناس بالتخويف و الابتزاز والإغراء المالي مستغلين عوزهم وفقرهم، خاصة وإن كثير ممن التحق بهم هم من منتسبي الجيش الذي حل بقرار متسرع خاطئ!


صار الناس ينكمشون عنهم تدريجياً ولم يعودوا حاضنتهم المجبرة المستسلمة،وأخذت نقمتهم تتصاعد وأصواتهم ترتفع ضدهم شيئا فشيئاً، ولكن ظل هذا الجيشان الشعبي والثورة الكامنة تبحثان عن مفجر لها، أو بطل منقذ،وقد التقط الشيخ الشاب عبد الستار أبو ريشه هذا النبض الإنساني الملتاع والمتصاعد وأحاله مع رجاله الذين تكاثروا بسرعة إلى نار حامية تصدوا بها لإرهابي القاعدة وهدموا معاقلهم فوق رؤوسهم،بينما فر بعضهم إلى ديالى والموصل وآخرون عادوا إلى سوريا،ومنها إلى بلدانهم أو بلدان أخرى ليستأنفوا دورة الإرهاب!


بذلك طرحت الصحوات مفهوم الوطنية في العراق بحقيقته الإنسانية البسيطة بعيداً عن الشعارات الخلابة الهشة المغرقة في تهويماتها الفارغة، لا يمكن اختصار الوطنية بالآربيجي والهاونات والعبوات الناسفة المنطلقة من بين بيوت الناس والتي تقتل العراقيين عادة أكثر من الأمريكان، ثم لماذا فقط أهل الأنبار يحسون بالوطنية ويتحملون أعباءها؟ ما هذه المزايدة المجحفة؟ هل غيرهم من العراقيين من لا يمارسون ذلك تنقصهم الوطنية؟ ومن قال إن الوطنية تقتضي تدمير الحياة بينما الطريق سالكة إليها عبر بناء الحياة و الحوار والعمل السياسي والصراع وفق قواعد السلم والقوانين الدولية،وإذا لم يجد ذلك،واقتضى الأمر حمل السلاح، فليكن بقرار وطني عام، وليس بانفراد واستئثار فئة صغيرة بمزاج الناس ومقدراتهم تدعى الإفتاء دون حصافة ولا ثقافة بأمور الدين أو الدنيا؟

ثمة صعوبة في محاولة تفهم قضايا الأنبار أو طبيعة أهلها،ولكن من الصعب جداً تجاهل ثقل الأنبار أو مزاج أهلها، قوتهم أو ضعفهم، الكامن أو الظاهر،يأسهم المختفي وراء نبراتهم الحزينة أو النزقة، ثقتهم الكبيرة بأنفسهم،فهم يعرفون امتداد مدن عريقة جداً لديهم في التحضر كعانة وهيت ( مصدر القار لبابل، وعاصمة العراق في عهد الحثيين) وراوة وآلوس، (مركزي تصوف سني قديمين ). ومدن تكونت حديثاً واستطاعت امتصاص جحافل كبيرة من البدو الرحل أو الريفيين أنصاف البدو كالرمادي والفلوجة وحديثة ( قاعدة ضخ النفط الغربية ) مدركين أن جذورهم في القبائل العربية وكونهم يقطنون أرضاً تشكل أكثر من ربع مساحة العراق وهي بوابة العراق الغربية. بل يقولون بثقة أن الأنبار هي مفتاح استقرار وأمن العراق، ولا يمكن للعراق أن يستقر ما لم تستقر الأنبار،كما لا يمكن للأنبار أن تحس بطعم الاستقرار إذا ظل أي جزء من العراق غير مستقر أو غير آمن ! بل يتحدثون إن أمنها يؤثر في أمن ثلاث دول مجاورة هي الأردن وسوريا والسعودية،والعكس صحيح!


الزعيم العشائري أبو ريشة مؤسس قوات الصحوة بالانبار والرئيس الاميركي بوشويتحدث بعضهم وعيونهم تسرح في الأفق بحزن أن المصالحة الوطنية التي طال وكثر الحديث عنها دون نتيجة مفيدة يعتد بها على الأرض، تبدأ من الانبار ومن شيوخها ذوي التداخل والعلاقات المؤثرة مع شيوخ الموصل وتكريت وديالى،وإنهم الآن في مزاج طيب واستعداد لبحث الأمور بكل هدوء وروية فقد هدأت الأرض الآن، وتلاشى الدخان وباتت كثير من الأمور واضحة جلية. وهم إذا يأخذون على المالكي وحكومته عدم تواضعهما،واصرارهما على طرح قضية المصالحة بلغة المنابر المتعالية،وافتقادها لدفء الحالة الإنسانية التي تقتضي الجلوس معاً كأهل في الهم الوطني الكبير حول مشروع للمصالحة مفعم بالرحابة والمرونة وروح التسامح والامتثال لمصالح البلاد العليا، والنظر البعيد للمستقبل وتقديم تنازلات متبادلة من أجل شعب تعذب طويلاً،يأخذون على الطرف الآخر وخاصة حزب البعث بشقيه عدم المرونة بل والتحجر والإصرار على نرجسية قديمة بالية،وعدم مراجعتهم للذات بوضوح وعمق وشجاعة،والتمسك بالصدامية وعدم الإقرار بجرائمها وآثامها واستهتارها الذي قاد البلاد إلى الكارثة والضعف ثم الاحتلال!


كما لم يعد يخفي الناس سخطهم على حارث الضاري وهيئته : علماء المسلمين، ويرون أنهم صنعوا من أنفسهم مرجعية للسنة تطفلاً وانتحالاً، إذ السنة اعتادوا أن تكون مرجعيتهم القرآن والسنة النبوية (أحاديثاً وسلوكاً ) صافية دون وسيط،وبدلاً من جعل هذه الهيئة على علاتها مركزاً روحياً أحالوها إلى دائرة سياسية ملتبسة،لذلك هم ينظرون إليها وأتباعها الآخذين بالتناقص إما كرجال يمتلكون حسن النية وسوء التصرف، أو كرجال لا يمتلكون حسن النية ولا حسن التصرف بانجرارهم للعنف ومساهمتهم في اذكاء فتنة طائفية ووطنية لم يدركوا مداها ومصائبها ونتائجها الكارثية، لقد كان الناس ينتظرون منهم هدايتهم إلى طريق جنة الله لكنهم زجوهم في صراعات جحيم السياسة الخاطئة بينما هم يتمتعون برغد العيش في عمان أو دمشق!،يقول الكثيرون (لقد تجاوزهم الناس و ركنهم التطور التاريخي جانباً رغم إصرار بعض الفضائيات على استعمالهم لملأ الفراغ، أو جرياً على خلق أطراف للصراع كلما مالت الأوضاع في العراق إلى الاستقرار والهدوء!


يمكن القول أن انقلاباً حقيقيا في الوعي قد حصل لدى أهل الأنبار ضد فكر القاعدة والجماعات الإرهابية الأخرى،وإنهم يتحدثون بثقة عن أن أيام الإرهاب السوداء قد ولت إلى غير رجعة، رغم أن آخرين لديهم قلوق وشك عن احتمال عوددتها إذ الوضع السياسي مايزال تكتنفه مشكلات كثيرة لم تحل،والأمن لا يتحقق بقوة السلاح فقط! ولكن هل لدى الناس وعي بنفس القوة أو حتى بنفس القلق بضرورة التغيير والبناء؟ وهل يشغل عقولهم وأفئدتهم شكل هذا التغيير ومداه ولو على سبيل الانسراح مع الخيال أو الأمل الملهم؟


حين تدخل مدن الأنبار يطالعك التنوع السياسي الذي بزغ بقوة وسعة وزخم واضح، فتجد مقرات الصحوات والعشائر وهي تتطلع للتحول إلى أحزاب سياسية وقوى اجتماعية فاعلة،مقر الحزب الشيوعي قبالة مقر الحزب الإسلامي،الحزب الدستوري قبالة مقرات صالح المطلك، أو إياد علاوي والقائمة العراقية،وكل من شاء أو وجد في نفسه القدرة على النشاط السياسي وفي جيبه المال لدفع إيجار مقر يستطيع أن يضع لافتة ويدعو الناس إلى قهوة التعارف دون أن ينبري له شرطي أو جندي ويمنعه من نشاطه ما دام لم يلوح بسلاح،أو يحرض على فتنة!


كما إن الناس صاروا يتحدثون عن العلمانية والعلمانيين بتفهم وتقدير ولم تعد العلمانية كالسابق ترتبط في أذهان البعض منهم بفكرة الإلحاد أو ازدراء الدين! صار الكثيرون يعتقدون بوجوب الأخذ بالعلمانية، وضرورة أن يتولى شئون الحكم رجال علمانيون،ولم تعد كلمات ومصطلحات كثيرة كالعولمة والقرية الكونية والفدرالية والكونفدرالية،والشرق الأوسط الكبير ومشروع إيران النووي، وثورة المعلومات رطانة سياسية أو ثقافية غير مفهومة!


تطالعك كثرة من يحملون الهواتف النقالة، أو يتمتعون بنعم ومباهج الإنترنيت،من بيوتهم أو في المقاهي الخاصة أو يضعون على سطوح بيوتهم العامرة أو الفقيرة الصحون الفضائية، بل ثمة شبان طموحون أخذوا يكونون جمعيات ومنتديات ثقافية،و نواد تعمل على تقديم عروض مسرحية أو سينمائية رغم إن بعضهم يتحدث بأسف عن أن السينما الوحيدة في الرمادي قد أغلقت منذ سنوات طويلة، وتحولت الآن إلى مخزن أخشاب، وإن النوادي الجميلة التي كانت تطل على ضفاف الفرات في الخمسينات وتقدم المشروبات الروحية بما فيها الويسكي الاسكتلندي، والترفيهات البريئة، قد عطلت وانطوت وتحولت إلى أطلال، وهم اليوم لا يستطيعون تقديم شيء من ذلك، مما يدفع بمن يريدون نسيان همومهم بالخمرة إلى الانزواء تحت أشجار على ضفاف النهر،يحتسونها ممزوجة باغتراب ونبذ مضاعفين!


ولكن هل هذه البناءات الحضارية أو السياسية المتقدمة تنم عن تقدم حضاري حقيقي؟ أو انعطافة ثابتة للالتحاق بركب المدنية الإنسانية؟ أو حتى عن وعي جديد راسخ؟ يصعب الجزم بذلك، فلا يسع المتأمل إلا أن يجد إنها بناءات فوقية سريعة، لا توجد قواعد تحتية راسخة ترتكز عليها، فليس ثمة بنى اقتصادية واجتماعية وثقافية عميقة وواسعة تستطيع أن تكون حوامل مضمونة لها أو لغيرها من الهياكل الحديثة الجذابة والبراقة،بشكل لا يخلو من فجاجة!


ثمة أسئلة تطرح نفسها بقوة،إذا كانت العشائر قد لعبت دورا ايجابيا في تفكيك القاعدة والمنظمات الإرهابية فهل ستظل تلعب هذا الدور الإيجابي في عملية بناء وتطوير هذه المحافظة التي ما تزال غارقة في التخلف الذي كان هو حاضنة القاعدة؟ أي نشاط حقيقي ستقوم به صحوات العشائر للمستقبل في عالم يتجه نحو تذويب البنى القديمة وينصهر في العلاقات المنتجة للمجتمعات الكبيرة،ويمتثل لروح المواطنة وسطوة القوانين العامة؟ خاصة وإن العراق يزداد ارتباطاً بالعالم وحضارته عبر الانترنيت والفضائيات والموبايل ويتأثر شاء أم أبى بمفاهيم وعلاقات جديدة ومتفجرة كل يوم؟


هل ستبقى العشيرة نفسها،كما هي؟أم إنها ستدخل مرحلة الأفول والتلاشي ذائبة في أنوار المدنية؟ هل العشيرة من الغفلة والسذاجة أنها ستشجع تحضر الناس ليتجمعوا حول محاور ثقافية وسياسية واقتصادية وبالتالي انتماءهم الوطني الأكبر فينسونها وتكون قد ألغت نفسها أو نفتها تماماً؟ أم أنها ستشيد قصراً كبيراً لمدنية تبنيها هي كما نفهم المدنية حتى ولو كانت في لباب بدوي قبلي وثياب عصرية وتظل هي محورها المركزي المرن والقوي ملتحمة بالناس وأفراحهم لا متصادمة معهم صانعة لمآتمهم أو كآبتهم العامة؟


ويمضي متفائلون محبون للصحوات أو مكبرون لدورها دون ارتباط تنظيمي بها للقول أن الصحوات أثبتت حيوية وحصافة متقدمة في التفكير لم تكن متوقعة من رجالها المعروفين بلبس العقال والعباءات المذهبة، وملازمة دواوينهم متفاخرين بنحر الذبائح لضيوفهم أو تأدية الدبكات بالسيوف،فالشيخ أحمد أبو ريشه الذي تبوء قيادة الصحوة والمشيخة العشائرية بعد استشهاد أخيه عبد الستار،لم يكتف بدحر فكر القاعدة وأوكاره في الأنبار و القائم على مفاهيم مشوهة بشعة للدين،بل طرح مشاريع سياسة تحديثية وعلمانية تتجاوز برامج الحزب الإسلامي المتخرج من مدرسة الأخوان المسلمين،والمعروفين بسعيهم للدولة الدينية،أو شعار الإسلام هو الحل، دون أن يقدموا فكر سياسياً أو فقهياً، أو مشروعاً واضحاً لهذا الوعد الضخم!

هذه الوقائع والأحوال تجعل مفاهيم ابن خلدون،وعلى الوردي حول صراع الحضارة والبداوة على محك غريب!إذ تبدو المدينة في حالة ركود وذهول وهيئة عتيقة وبالية بحكم ظروف حروب وحصارات وعزلة طويلة بينما أبناء العشائر،أحفاد رجال القبائل القديمة أو البدو الريفيون هم من يطرح مفاهيم مدنية،ويستدعي المدينة إلى حضيرته،وليس العكس ( حيث جاذبية وإغراء أنوار المدن وشهواتها ) ليمنحها أو يفرض عليها مفاهيم حداثية طارحاً معها أوضار الريف وبداوته وإن بمستوى محدود!
قال رجل مسن من هيت لماذا تلومون الناس في انتمائهم للعشائر؟،هنا لا قوة للفرد ولا وجود له دون عشيرة ينتمي إليها، مثلما لا تجد للفرد في العراق كله قوة أو وجود دون حزب ينتمي إليه، إليست الأحزاب في العراق اليوم عشائر حديثة معاصرة؟ ولا يسعك إلا أن تتذكر الصور المفزعة التي يعكسها التاريخ عن مستقبل مجتمعات يسحق فيها الفرد باسم الجماعة !


طيلة سنوات الدورة السابقة كان الحزب الإسلامي هو الذي يحكم الأنبار، لم يستطع أن يحظى بحب الناس وثقتهم والتفافهم حوله! على العكس كانت النقمة تتصاعد ضد ممثليه، كانت أهم مآخذ الناس على هذا الحزب أنه لم ينبثق من مخاض الواقع وآلامه، ولم بدفع ثمناً حقيقياً لما استحوذ عليه من مراكز عليا ووجاهة في الدولة والمجتمع، وإنما جاء بموجة طارئة استغل فيها غياب شعب الأنبار وانكماشه تحت سيف الإرهاب،وبعض قادة العشائر لا يبرأون الحزب الإسلامي من احتضانه بعض شراذم الإرهابيين أو تبرير منطلقاتم وشعاراتهم،وإنه طيلة حكمه الأنبار ظل يجتر وعوده ولم يحقق منها شيئاً أو حقق القليل منها وبشكل سيء ومبتسر، وإنه قدم إلى مراكز المسؤولية والوظائف العامة فاسدين وطفيليين ومستفيدين ومبتلعين بشراهة للسحت الحرام!
لذلك حين أعلنت المفوضية العليا للانتخابات أسماء اللجنة المشرفة على الانتخابات في الأنبار وكانت أكثريتها من الحزب الإسلامي،بحكم كونه عبر المحاصصة الطائفية يمتلك نفوذا معيناً في المفوضية العليا، استشاط الشيخ حميد الهايس غضباً و،وصرح لراديو سوا قائلاً : إن العشائر ستحرق شوارع الرمادي تحت أقدام الحزب الإسلامي في حال إعلان فوزه في انتخابات مجلس المحافظة، وإذا حصل هذا يعني أن مفوضة الإنتخابات قامت بتزوير النتائج مضيفا،أن الحزب الإسلامي إذا فاز سيحول الأنبار إلى نظام يشبه طالبان! كما هدد أحمد أبوريشة بحمل السلاح بوجه الحزب الإسلامي إذا فاز في هذه الانتخابات!
أثار هذا قلق الناس كثيراً وصاروا متخوفين من مواجهات دامية في محافظتهم وانتكاس خطير في الوضع الأمني،الذي لم يستتب إلا بشق الأنفس!


لكن الانتخابات جرت واعلنت نتائجها بهدوء وسلام،ولم تحدث مصادمات أو حتى حالة قتل واحدة، لقد تحلت جميع الأطراف في النهاية بضبط النفس،كما التزم الشرطة والجنود بالانضباط والحيادية بين جميع الكيانات السياسية مما عزز التفاؤل بمستقبل الديمقراطية في ديار ناس عرفوا بحمل السلاح حتى في نومهم وأحلامهم!
في الحملة الانتخابية وضعت مشكلات واحتياجات الأنبار الكثيرة على بساط المزايدات والوعود المغرية وبعضهم رسم في الأفق حلولاً سحرية لها! بين 520 مرشحاً ينتمون لحوالي خمسين كياناً سياسيا! يتصارعون على 29 مقعد ينبغي أن يكون ربعه من النساء!
رأى البعض أن نزول هذا العدد الضخم للتنافس الانتخابي نكتة سياسية هائلة! إلا أن الكثيرين نظروا إليه كدليل على شغف أهل الأنبار بممارسة حريتهم الجديدة، وعلى رضاهم أو قناعتهم بديمقراطية حرموا منها منذ سقوط الحكم الملكي!


لم تكن الانتخابات مجرد امتحان قاس للكيانات السياسة لكي تكشف عن قوتها الحقيقية بل كانت بمثابة ساعة الحقيقة،أو الصبغة الكاشفة لنوايا الكثيرين،لقد كان صندوق الانتخاب كما قال أحدهم هو الموشور الذي تحلل من خلاله الوضع في الأنبار إلى ألوانه الحقيقية، لكن كثيرين من شعب الأنبار قابلوا برامج ودعوات وإغراءات كل الأحزاب والكيانات الانتخابية بمزيد من الانكماش والعزلة أو الاعتصام في البيوت والامتثال لروح مشبعة بالحزن والمزيد من صدمات الخيبة! فلم يذهب للانتخابات سوى ما هو أقل من ثلاثين بالمائة وقيل أقل من ذلك وكان :تبريرهم لذلك أنهم فجعوا بالفائزين سابقاً في محافظتهم، كما إنهم فجعوا بمن انتخب على مستوى العراق سابقاً! ثم إنهم يتضامنون مع من لم يذهب للانتخابات في أي مدينة في العراق احتجاجاً على كذب الكثير ممن انتخبوهم ونكثهم للوعود! كما إنهم لا يعرفون من هم هؤلاء المرشحون الذين أخذت صورهم الملونة على الجدران والأعمدة تحدق بهم كأنها تترصدهم وتحصي أنفاسهم منذ الآن!


يأمل كثيرون أن لا يتكرر ذلك في الانتخابات القادمة، وأن تكون الانتخابات الحالية بمثابة بروفة أو تمرين انتخابي للجولة السياسية الحاسمة والمقبلة !وإنهم تعلموا كمتفرجين مما يؤمل منهم أن يدخلوها في المرة القدمة كمشاركين فاعلين!
بعض الكتل أرادت التأثير على الناس بالمال لشراء أصواتهم، وإحدى الكيانات استخدمت المساعدات المقدمة لها من الهلال الأحمر والمنظمات الإنسانية العالمية فوزعت البطانيات والملابس والأغذية على الناخبين طالبة منهم انتخاب ممثليها! مما جعل أحدهم يتندر: (أن سبب عدم مجيء الناس للمراكز الانتخابية هي بقاءهم نائمين مستدفئين ببطانيات الهلال الأحمر! )
كما إن بعض المرشحين اعلنوا صراحة أنهم لا يؤمنون بحق المرأة في الانتخاب، حتى إنهم منعوا نساءهم من الذهاب للمراكز الانتخابية حتى ولو من أجل انتخابهم هم لا غيرهم!
وكما حدث للأحزاب الدينية في محافظات العراق من فشل وتراجع واضحين، تراجع الحزب الإسلامي في الانبار رغم الدعاية الواسعة التي ضخها خاصة عبر فضائية الأنبار التي احتكرها لنفسه! وقد برزت في المقدمة قائمة مؤتمر صحوة العراق، تليها قائمة المشروع الوطني، ويتوقع البعض أن القائمتين ستتحالفان مع قوائم أخرى بينها القائمة العراقية لتكوين مجلس المحافظة وعزل ممثلي الحزب الإسلامي!

واليوم يتساءل المراقبون :إذا أدرك الحزب الإسلامي أن هذه النتائج هي مقدمة لنتائج مماثلة في الجولة السياسية القادمة، ترى هل سيتلمس الحزب الإسلامي أبعاد أزمته أو مأزقه الحالي؟ هل سيعيد النظر بفكره وممارساته ومشروعه المكرر؟ هل سيعيد صناعة نفسه على غرار الأحزاب المسيحية في أوربا؟ أم سيظل متأرجحاً بين نموذج الأخوان المسلمين في مصر، والحزب الإسلامي كثير التحولات في تركيا؟


لم يكن صعود قائمة المشروع الوطني مفاجئاً فزعيم القائمة صالح المطلك تميز بديناميكة واضحة،وحرص على الحضور بنفسه إلى المحافل التي تشكل نقاط دعاية وانطلاق لمسيرة حزبه الانتخابية، وهو كإياد علاوي أدرك بوقت مبكر ان البعثين قوة كبيرة لا يمكن أن تتلاشى بإرادة فوقية مهما كان مصدرها،وهم يمتلكون قدرات جيدة وضرورية بحكم إدارتهم السابقة للدولة وتمتعهم بفرص الدراسة والبعثات العلمية،وانتمائهم لوطنهم كعراقيين، فعمل على استقطابهم ولم شتاتهم وتحويلهم إلى قاعدة وكوادر متقدمة في تنظيمه. لكن ما يجب الانتباه له:هو أن على البعثيين أن يطلقوا سراح أنفسهم من أنفسهم،،وإن لا يظلوا اسرى الماضي وصور صدام وشعاراته وأوهامه وعليهم إذا أرادوا الاعتداد ببراءتهم أن يخرجوا إلى الشمس بفكر جديد وروح جديدة وأمل جديد! وما داموا مولعين ومهتمين بالعمل العام،فلينفضوا أيديهم من أطرهم القديمة ويعملوا وراء أية واجهة جديدة سواء كانت قائمة المشروع الوطني أو القائمة العراقية أو إية قائمة يرونها تستوعب تحولاتهم الضروية والإيجابية!


ومع أن الكثيرين يقرون بإن الانتخابات جرت بسلاسة وانسيابية ولم يداخلها التزوير،إلا أنهم وخاصة الكيانات التي لم تفز بمقعد يقولون أن التلاعب والتزوير قد طال النتائج، وإنها رتبت في الليالي بعيداً عن أنظار المراقبين ممثلي القوائم!
ومع أن الناس لاحظت غياب الأمريكيين عن صناديق الاقتراع! إلا أن البعض يقول أنهم يمسكون طرف السنارة من بعيد، وإن السمكة الكبيرة من حصتهم! لكن كثيرين أيضاً يؤكدون أن الانتخابات كانت عراقية مئة بالمئة وأنها اتسمت بوطنية ونزاهة وشعور عال بالمسؤولية!


أهم ما ظل يأخذه الكثيرون على النتائج هو أن الفائزين كانت أكثريتهم من الرمادي مركز المحافظة، مع قليل من الفلوجة ولم يصل إلى المجلس أي مرشح من هيت أو حديثة أو راوة أو غيرها من الأقضية والنواحي!


وبالطبع لم يكن ممكناً للمرأة أن تصل إلى مجلس المحافظة لولا نظام الكوتة الذي فرضه بول بريمر، وقد تقبلها بعض قادة القوائم على مضض،واستفادت منه قائمة أو أخرى حيث لم تحتج المرأة للوصول إلى المجلس سوى لبضعة عشرات من الأصوات بحكم التراتب النسبي! ويقول بعض من يعرف هاته النسوة الفائزات أنهن بثقافة وخبرة جيدة وأنهن جديرات بمواقعهن وينتظر منهن الكثير!
لم يحصل الحزب الدستوري على مقعد في المحافظة ولدى ممثليه شكوك واتهامات تطال المشرفين على إعداد وترتيب النتائج، لكنهم مع ذلك مستبشرين بما حصلوا عليه من أصوات كثيرة رغم إنهم حزب جديد،وكان ممثلو الحزب مثابرين في عملهم واستطاعوا تكوين شبكة علاقات محلية جيدة! والكثيرون من أهل الأنبار يذكرون لجواد البولاني زعيم الحزب دعمه للصحوات ووقوفه معهم في دحر الإرهاب،وإنه ذو نزعة وطنية واضحة، ويقف على مسافة واحدة من الطوائف والقوميات واستطاع تطهير وزارة الداخلية من ميليشيات الخطف والقتل والمتسترين عليها. وما يزال يعمل لجعلها وزارة للعراقيين كلهم وليست لطائفة أو حزب معين.
يلاحظ لدى الإنباريين الآن استبشارهم بقدوم قوائم يتزعمها رجال من غير طائفتهم إلى محافظتهم. قال لي أحدهم : لو أن المالكي نزل بقائمته في الأنبار لحصل على أصوات تؤهله لأكثر من مقعد !


وتساءل كثيرون لماذا لم تكن لمثال الآلوسي قائمة في الأنبار وجذوره العائلية من هذه المحافظة؟ ويرد بعضهم أن مجتمع الأنبار ما يزال غير قادر على تفهم خطوات أو مواقف سياسية له تتسم بالجرأة أو التطرف. لكني حين طرحت هذا التساؤل في مكتب الآلوسي أجابوني أنهم سوف لن يفوتوا فرصة وجودهم ونشاطهم في الانبار في الانتخابات البرلمانية المقبلة!


ويبرز في الأنبار شباب شيوعيون ومخضرمون يتطلعون للعمل الواسع وخوض الحياة السياسية بحيوية أعمق بعد طول غياب. وقد حصلوا على أصوات قليلة لا تتناسب مع طموحهم أو معاناتهم الطويلة، ورغم أن لمجتمع الأنبار حساسية خاصة من الشيوعيين (عدا هيت وعانه ) إلا أن للمتبعين لنشاط الشيوعيين يشيرون إلى ظرورة أن ينبري الشيوعيون أيضاً لتجديد خطابهم ومسارهم وبرامجهم ويتحروا من ربط أنفسهم ببرامج وشعارات أحزاب أخرى!


محافظ الأنبار ينتمي لعشيرة البوعلوان وهي عشيرة كبيرة ومؤثرة، لكنه ينتمي للحزب الإسلامي، وبعد ظهور الننتائج صار ينفي انتماءه للحزب الإسلامي، وأخذ يمسك العصا من الوسط، فهو يريد أن يبقى محافظاً، ومجلس المحافظة لم يحسم أمره بعد، ويقول البعض أن المجلس قد يبقيه لأنه امتلك خبرات وعلاقات ربما تفيد المحافظة،بينما يقول آخرون مطلعون على خفايا الأمور إنه سيستبدل برجل خبير وقادر على احداث نقلة نوعية في وضع المحافظة!


ويتحدث أحد المتشائمين بأسى : أن نتائج الانتخابات لن تحدث تغييراً نوعياً في الأنبار،فالمجلس الجديد سيكرر نفس أخطاء وخطايا المجلس القديم،دورة التخلف ستعيد نفسها، نفس لعبة الفساد والتطفل على مقدرات الناس، المال العام سيبتلعه فساد آخر،وتبذير آخر وسيتواصل عدم الشعور بآلام الناس وعذاباتهم، و كل شيء سيظل في مكانه القديم، ولن يتغير إلا القليل والذي لا يتناسب وحاجات محافظة هجرتها يد الإعمار طويلاً،وعموما سيظل الوعي العام راكداً،يساير المجرى الكسول والضيق لنهر الفرات، و ستظل الأنبار مقبرة المواهب، ومدفن الأحلام،فهي لا تقدر عالماً ولا مفكراً ولا مبدعاً،ألم يدفن في أرضها قبل فترة مفكر كبير ( مدني صالح ) وطبيب كبير ( تحرير الكيلاني ) ولم يكلف قائم مقام هيت نفسه حتى في حضور مجلس الفاتحة؟ هكذا هي هذه الأرض: قلبها صخري وشمسها لاهبة، و،ستبقى الآمال فيها محطمة والمرأة حبيسة البيت وستظل ترتدي كفنها الأسود حتى يلبسوها كفنها الأبيض،وسيظل مجتمع الأنبار ذكورياً قامعاً،لا رائحة ورد في شعابه ولا نسمة منعشة!


بينما يتحدث متفائلون بقوة وثقة : أن الأنبار ستكون ورشة عمل وبناء كبرى، وستستعيد قوتها وروحها،والفساد إن لم يجف فإنه سيتقلص حتماً،وروح الحضارة تدخل اليوم كل ناحية وكل قرية!وكل شيء يتغير الآن ويتحرك دون أن نحس بحركته، هناك مشاريع كبرى في الأدراج وهناك أموال ترصد لتنفيذها، المرأة تشارك في ميادين كثيرة،ألم تصل إلى مجلس المحافظة؟ ونسبة الطالبات في جامعة الأنبار آخذة بالتزايد وكثير من الفتيات صرن يلقين الحجاب ويظهرن بثياب محتشمة وعصرية ولبعضهن نشاط أدبي وفني، وطبقة المثقفين في الأنبار تتسع ويبرز منهم علماء وأطباء وشعراء ومفكرون،هناك ثورة تحت السطح وسواء قادها شيوخ عشائر أو مثقفون مدنيون فهي في النهاية ستصب في هذه الأرض، الأنبار اليوم ملتحمة بنبض العراق وإيقاع العالم الذي صار أقرب إليها من ذي قبل،وطالما ثمة نجوم تتراقص في سمائة فهم سيسمرون ويحلمون!


في الليلة السابقة هبت عاصفة ترابية حمراء وخيمت على الأنبار، اغتنمنا في اليوم التالي هبوطها وتحقق رؤية كافية واتجهنا عائدين إلى بغداد، توقفت سيارتنا عند نقطة تفتيش يقف عليها رجال من الصحوة والشرطة،وزع علينا أحدهم جريدة (صوت الأنبار) وعلى وجهه ضحكة لم نعتدها من شرطي في السنين الخوالي،غير بعيد عنا البناء الذي يضم قبر عبد الستار أبو ريشة،نظرات الناس إليه فيها حزن أو إكبار وتساؤل عما سيأتي، لحظات لم تطل وصرنا على باب بغداد الغربي، ما لاحقنا من ريح الأنبار وغبارها اختلط بالهواء الراكد في بغداد، قيل لنا كانت زخات مطر قد هطلت، الضجيج في العاصمة يحتدم تحت الصمت والترقب، وثمة التماعات كثيرة في الأفق!