إذا كان قياس الحقائق يؤول إلى الوجود الفعلي فمن الضروري أن يكون لتجرداتها سلوكاً آخر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنشأة الأولى ثم ما يلبث أن يفارقها إلى حيث المشيئة المقدرة، ونظراً لهذا التحليل تصبح جميع الموجودات آخذة بالمفهوم السلبي الطارئ على بقائها، ولتوضيح هذا البيان يمكن القول إن بطلان ما على هذه الأرض لم يكن تالياً لإيجادها وإنما هو الأصل الذي بدأت منه، وهذا ما يثبت عدميتها في نفسها وهلاكها شكلاً ومضموناً. فإن قيل: إذا اعتمدنا هذا الوجه تكون الحياة الدنيا بعيدة عن المفاهيم الصادقة أو نستطيع القول إنها ولدت عن طريق غير شرعي؟ أقول: التباين بين الموجودات ينذر بعدم شرعيتها إذا كان اتجاهها ملازماً للعدمية المطلقة وهذا لا يتقارب مع ما نحن بصدده إذا أخرجنا الاستثناء الذي لا يعتريه الهلاك، وإن شئت فقل إذا أخرجنا الأشياء التي تنتمي إلى التعدد الموجب، واستناداً لهذا الفهم يمكن أن يظهر الفرق بين النسب المقدرة لتلك الأشياء وبين واجب الوجود سبحانه، ومن هنا نعلم أن العندية الإلهية هي التي تمد الموجودات جميعها بالاتحاد الجزئي دون التكلف المنظور الذي يفضي بها إلى المباينة، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر 21.

وتجسيداً لهذا المعنى نرى أن إطلاق القرآن الكريم لمصطلح الهلاك على ما في هذه النشأة قد أخذ مساحة واسعة في متفرقاته، ومنها قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) يونس 24. وكذا قوله: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) العنكبوت 64. وقوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) آل عمران 185. وهنالك آيات أخرى بهذا الصدد مما يدل على بطلان جميع الأشياء في هذه النشأة وإن كانت مشاهدة لدى الناظر الذي لا يميز بين الرؤية الحقيقية وبين ما يقابلها من الفناء، وقد بين الحق سبحانه هذه النظرة التي لا تصدق بقوله: (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) الأعراف 198. وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون) القصص 88.
والآية آنفة الذكر صريحة في نسبة الفناء والهلاك إلى كل شيء ما عدا الذات الإلهية التي عبر عنها بالوجه وهذا يثبت أن جميع الموجودات تستمد فيضها من عطاء الله الدائم، وتأسيسا لهذا المفهوم يمكن الإشارة إلى التغيير المستمر للأشياء باعتبار ذاتها نسبة إلى حركتها التي لا تتوقف، وهذا يدل بكل وضوح على بطلان استمرارها منذ لحظة ولادتها إذا ما أخرجنا الأشياء الثابتة التي أضافها تعالى إلى العندية التي لا يعتريها الهلاك، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم) الأنعام 13. والتعبير بالليل والنهار يراد منه الاستمرار، وهذا يتقارب مع معنى الدوام المعبر عنه بالسماوات والأرض في قوله جل شأنه: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق... خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) هود 106- 107.

ومما تقدم نعلم أن كل شيء مصيره إلى الهلاك والبطلان إلا ما كان مستثنى من قبل الحق سبحانه كون هذه الأشياء تستمد وجودها الفعلي من العندية الإلهية كما ذكرنا آنفاً، وقد بين تعالى هذا الفرق بقوله: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) النحل 96. ويتفرع على هذا البقاء جميع ما عند الله تعالى من جنة ونار وعرش وكرسي وما إلى ذلك، ولهذا وصف الجنة بأنها أعدت للمتقين في قوله: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين) آل عمران 133. وقريب منه الحديد 21. أي هي عند الله تعالى لا يعتريها الفناء، ويمكن أن يستدل على بقاء الجنة العندي بصورة أكثر وضوحاً في قوله تعالى: (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون) الأنعام 127. ويقابل هذا المعنى ما ذكره سبحانه بحق النار في قوله: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) البقرة 24. وقريب منه آل عمران 131. والدليل على عندية النار يظهر جلياً في قوله تعالى: (سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) الأنعام 124. 

من هنا نصل إلى أن الوجود الفعلي في هذه النشأة لا يتم له البقاء والاستمرار إلا بالتوجه الحقيقي لله تعالى من أجل أن يحصل الإنسان على التعريف الأمثل لأسباب خلقه المشار إليه في قوله سبحانه: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات 56. ولا موجب لهذه العبادة إلا إذا كان الإنسان متوجهاً إلى الجهة التي أرادها الله تعالى دون النظر إلى المكان المقرر الذي يتجه إليه الناس عادة، وهذا ما بينه سبحانه في قوله: (فأينما تولوا فثم وجه الله) البقرة 115. وسيمر عليك تفصيل هذا الجزء من الآية في المساحة المخصصة للتفسير.

تفسير آية البحث:
قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم) البقرة 115. التعبير بالمشرق والمغرب كناية عن جميع الجهات كون ما يقصده الإنسان إنما يتعين بشروق الشمس أو غروبها ولذلك ورد هذا المعنى في آيات أخرى كقوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) البقرة 177. وكذا قوله: (فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون) المعارج 40. وقوله: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) الأعراف 137. وهنالك آيات كثيرة بهذا المعنى.

وقوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله) من آية البحث. أي ليس هناك جهة أهم من جهة بمعنى أن التولية لا تختص بمكان دون آخر، ولهذا علل سبحانه التوجه بقوله: (إن الله واسع عليم) من آية البحث. وارتباط الآية بما قبلها فيه إشارة لا تقبل اللبس على أن منع ذكر الله تعالى في المساجد لا يكون عثرة في طريق الناس الذين يكون توجههم إليه سبحانه بغض النظر عن الجهة المعلومة لديهم، وهذا ما يظهر من مفهوم الآية أو من خلال تعلقها بما قبلها كما بينا. 

فإن قيل: ما الفرق بين ثم وهناك؟ أقول: كلاهما بمعنى أي ظرف مكان كما في آية البحث، وكما في قوله تعالى: (وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً) الإنسان 20. وكذا قوله: (وأزلفنا ثم الآخرين) الشعراء 64. وقوله: (مطاع ثم أمين) التكوير 21.
فإن قيل: التولي: يعني الإدبار فكيف يصح اعتماده الملازمة في آية البحث؟ أقول: ولى من أسماء الأضداد وهو يفيد كلا المعنيين أي الإقبال والإدبار، وقد تكلمنا عن هذا الموضوع في مناسبات سابقة. 

فإن قيل: ورد لفظ هنالك في القرآن دون هناك فهل يمكن أن يكون الثاني صحيحاً؟ أقول: عدم ورود اللفظ في القرآن الكريم لا يعني عدم صحته وهنالك شواهد كثيرة لتبيان ما ذهبنا إليه، منها الأرض التي لم تجمع على أرضين، ولهذا قال تعالى: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن) الطلاق 12. علماً أن الأرضين لغة صحيحة وقد وردت في الأدعية المعتبرة... فتأمل ذلك بلطف.

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن