كل الأمم التي صممت أن ترتقي في مدارج الحضارة الإنسانية قامت بمراجعة نقدية لتاريخها، ووضعت يدها على عيوبها وفضائلها، وأسباب تأخرها وتقدمها، وغربلت عاداتها ومفاهيمها و(قيمها)، ونبذت ما يعيقها ويضرها، وأحاطت بالعناية والرعاية ما يفيدها وينفعها.
والأمة التي تدفن رأسها في التراب، ولا تعيد تقويم ماضيها وأسلوب حياتها وتفكيرها، وتتعامى عن عيوبها وعللها، ولا تصف الأشياء بأوصافها، فتسمي هزائمها انتصارات، ومفاسدها مكارم، لا يمكنها بناء ذاتها، وتنمية قدراتها، وستبقى أبدا خارج الحياة الخلاقة، وخارج الزمان والمكان، تعيش في سراديبها وأنفاقها، تجتر خرافاتها وأوهامها وتوهماتها، دون أن تقر أن لكل زمان أخلاقه وقيمه، ولكل عصر شروطه ومقاييسه، خاصة في عصر حقوق الإنسان، وإحساس المرء والمجتمعات بقيمتهم وحقهم في الحرية والحياة والمعتقدات والاختيار، وأن كثيرا من المعاني والمفاهيم والأخلاق والقيم قد تغيرت، فالذي كان بطولة وحقا، صار اعتداء وظلما، وما كان فخرا أصبح عيبا، وعدد من الأمم والمؤسسات أعادت النظر في أفعال صنفتها كحق وواجب، فالحروب الصليبية التي زعم أصحابها أنها في خدمة (الدين والرب) لاستعادة وتحرير حق مسلوب، اعتذر ممثلو (الدين وال...) عنها، وكذلك الدول التي سيرتها وقادتها ومولتها. وقنبلة هيروشيما التي شكلت نصرا حاسما في الحرب وأنهتها، أصبحت وصمة عار على أهلها، وفعلا شنيعا ترفضه الإنسانية جمعاء.
لكن مما يؤسف له أن بعض الأشخاص والجماعات ترفض أن ترى وتقر بأي نشاز في التاريخ ورجاله وأحداثه، وبالثقافة والعادات و(القيم)، فتتستر عليه، وتطليه بالمساحيق والألوان، وتصبغه وتزوقه وتبهرجه، وتضيف إليه، وتحذف منه، لتجمّل في أعين الآخرين، ما قبح فيه، وعاب منه، ليسهل بعد ذلك ترويجه وتسويقه.
إن من يريد التعريف بالتاريخ عليه أن يرويه كما هو، بعجره وبجره، بخصبه وجدبه، دون أي زيادة أو حذف أو تزويق أو طلاء، ويترك للناس مهمة تقويمه، ومعرفة حسنات وعيوبه، ومن ثم الحكم عليه، فتزوير التاريخ والتوهم والإيهام، من أشد الأمراض والأخطار فتكا بالأمم والمجتمعات، تعمي عيونها، وتحرف اتجاهها، وتفقدها عزيمتها ورغبتها في التقدم والتجديد، فتسبح في فضاء غريب مخادع يلقي بها خارج معادلة الحياة.
فمن هم بني هلال؟ وأبو زيد الهلالي؟ الذي لم يجد القيمون على المسلسل شيئا آخر في تاريخ العرب أجدر بالعرض!!
أبو زيد الهلالي واحد من مقاتلي بني هلال عُرف عنه – كما روت السيرة الشعبية – المكر والخداع والدهاء والشدة في الغزو والسبي والقتل. وبني هلال قبيلة من البدو الرحل الذين أطلق العرب عليهم وأمثالهم صفة الأعراب، لجهلهم ومكرهم، وقد وصفهم القرآن الكريم بأنهم أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله. ولهذا كان الأعرابي يفرح إن قيل له يا عربي، بينما العربي (الحضري) يأنف ويغضب إن قيل له أعرابي. وبنو هلال من الذين عبدوا الوثن ذا الخلصة، سكنوا نجد، قاتلوا الازد وحالفوا هوزان في حرب الفجار، هاجموا مكة بعد ما فتحها النبي (ص)، ثم هاجروا إلى مصر غازين وأقاموا في الصعيد، وفي منتصف القرن الحادي عشر غزوا شمال أفريقيا، وتحديدا القيروان في تونس وأقاموا هناك.
وهم في غزوهم لصعيد مصر أو لتونس قتلوا وشردوا أهل المناطق التي أقاموا فيها وسبوا نساءهم، واستولوا على أراضيهم وأموالهم وأرزاقهم.
وعلى الرغم من أنهم كانوا أعرابا فقد جعلهم القيمون على المسلسل يلعبون الشطرنج، وجعلوا من نسائهم تفاوض شيوخ القبائل في المعارك، وتشترط، وتتحدث نيابة عن الرجال، وتنطق باسمهم، في محاولة يائسة للإيهام بأن المرأة كانت تملك كامل حقوقها، وأن ثقافة العربان تساوي بين الجنسين، وأن الرجل والمرأة على قدم المساواة، وأنها يمكن أن تكون ناطقة باسم القبيلة، ونائبة ومفاوضة عنها، أي (ولية للأمر). وأن البدوي الأب يتقبل عشق ابنته لرجل ما، بكل صدر رحب وطيبة خاطر، فالأمر عادي وطبيعي!! وأن هذه القبيلة من العدل والأخلاق بحيث لا تأخذ ثأرها ألا من القاتل بالذات، وكأنه ليس من عاداتهم أن يفجعوا قلب غريمهم بأغلى ما لديه.
ثم ما علاقة كليب وسيف كليب (بطل حرب البسوس) الذي عاش في نهاية القرن الخامس وبداية السادس، ببني هلال وأبي زيد الذين عاشوا في القرن العاشر والحادي عشر، وكيف واتت القيمين على المسلسل الجرأة أن يفبركوا قصة بل أسطورة سيف كليب ويلصقوها بأبي زيد وبني هلال!! أليس هذا تشويه للتاريخ وخداع للناس وتجهيل واستغباء لهم؟ وهل حقا غزا بنو هلال اليمن؟ واقتادوا ملكتها زوجة لأحدهم؟ هل كانت في عهد الإسلام ملكات في اليمن تأمر وتنهي؟ ما هي كتب التاريخ والمصادر التي اعتمدها معد المسلسل في هذا الاكتشاف الذي كان مجهولا؟
أن تزويق وتلميع وتجميل هذه المفاهيم، وهذا (البطل)، وهذه القبيلة التي عاشت على الغزو والقتل والسبي والسلب والنهب والاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، بهدف انتزاع إعجاب المشاهدين، وربما تحريضهم للاهتداء بهم والاقتداء بأفعالهم، يؤكد وجود شريحة من المتعلمين والفنانين عدا عن عامة الناس، ما زالت معجبة بهذه الأفعال، يحلمون في عصر العمل الجماعي بالمنقذ، ويخدرون الناس بانتظار البطل الذي يمتشق حسامه نيابة عنهم، لينقذهم وينقذ الأمة من مصائبها وويلاتها.

[email protected]