ن التداول السمي للحكم بالاقتراع السري وفي جو من الحرية التامة هو سر متانة ورسوخ الديمقراطيات الغربية. وقد تطلبت قرون من المصادمات الداخلية والتعثر المستمر لكي تتحول البلدان الغربية لديمقراطيات اليوم، حيث مساواة المواطنين أمام القانون، وضمانات الحريات العامة والخاصة، واحترام حقوق الإنسان وحقوق القوميات والأقليات القومية والدينية.
إن الانتخابات في الغرب ليست مهازل ومسرحيات صورية كما في معظم البلدان النامية، ومنها البلدان العربية. وإن نتائج التسعين والتسعة والتسعين بالمائة، وصولا للمائة بالمائة الصدامية، هي من مبتكرات "الديمقراطية"في الدول العربية، التي أطلت بها على العالم في القرن العشرين ومطلع القرن الحالي. فالرئيس أو الحزب الفائز في الدول الديمقراطية يكون سعيدا لو نجح بنسبة الأربعة والخمسين بالمائة مثلا. ولكنه ما أن يستلم الحكم حتى يتصرف كحاكم لكل الشعب بصرف النظر عن اختلاف الانتماءات السياسية والعروق والألوان.
وإذ نسجل هذه الحقائق المعروفة، فنقر في الوقت نفسه، بأن الانتخابات في الغرب لا تجري بغير شوائب وسلبيات. فعدا امتناع نسب متزايدة ممن لهم حق الاقتراع عن التصويت، ولأسباب مختلفة، وهو ما يضعف الممارسة الديمقراطية، فإن الحملات الانتخابية للمرشحين تشهد ظواهر مدانة أحيانا، كالتشهير الشخصي، وتضخيم الخطأ، وطرح المسائل الشخصية للإثارة، وظواهر مماثلة. وفي البرلمانات نشهد أحيانا معارضة لغرض المعارضة، والتشكيك في أي إجراء تقوم بعه الحكومة. غير أن القضية العراقية أبرزت لنا في كل من بريطانيا وأمريكا ظواهر شاذة لا تليق بالديمقراطيات، ولعل بعضها لا يليق وصفها بغير الغوغائيةوثقافة الكراهية! فالحملات الشعواء في البرلمان البريطاني على بلير باسم القضية العراقية والحرب، ليست مما ينسجم مع الديمقراطية المعافاة، بل لعلها ظاهرة مرضية. فهنا يستعمل الخصم كومة من المغالطات والمعلومات المبتورة التي تساق بحدة وغضب وكراهية، وبدون أي ذكر لصاحب القضية، أي الشعب العراقي، الذي استقبل حرب إزاحة كابوس النظام الفاشي الساقط بسعادة. وبصرف النظر عن أخطاء ارتكبت بعد الحرب، فالمفروض بنواب يعيشون في دولة ديمقراطية أن يتذكروا دوما أن النتيجة كانت إزاحة جحيم الفاشية، وأن صدام كان الأكثر دموية وإجراما من ميلوسوفيتج وزمرته في البوسنة وكوسوفو. وكما قال أحد الكتاب فإن الأخير يعتبر ملاكا بالمقارنة مع صدام! وقد استخدمت المغالطات والتحريف لأبعد الحدود في موضوع أسلحة الدمار الشامل، وكأنما مجلس الأمن بجميع أعضائه كان يكذب بقراراته الثامنة عشرة حول الأسلحة العراقية وحتى عشية سقوط صدام!
إن المثير جدا هذه الحرب الدعائية الجارية ضد بوش، ليس فقط من أنصار كيلي، وإنما من كل فصائل اليسار واليمين الأوروبيين تقريبا، ومعهم طبعا غالبية العرب والمسلمين والعديد من الأنظمة العربية ووسائل إعلامها. ومعظم محاور الحملة تدور حول العراق المسكين دون أن يسأل لا كيري ولا شيراك ولا نواب اليسار واليمين أنفسهم عن الموقف الحقيقي للغالبية من العراقيين، وهل رحبوا بالحرب أم هم في "المقاومة" الإرهابية!
إن أخر صاروخين دعائيين أطلقا في أمريكا وبريطانيا، وثم في مختلف وسائل الإعلام، هما القصة عن فقدان كمية كبيرة من متفجرات صدام المحرمة، والثاني دراسة نشرت قبل
يومين وساعات من الانتخابات الأمريكية حول "مضاعفة عدد وفيات العراقيين" ونسبة ذلك للحرب والقصف.
الوطنيون العراقيون المدركون يعرفون، وهو ما قالوه عشرات المرات، أن صدام أخفى متفجراته وأسلحته المحرمة في الشهور القليلة التي سبقت الحرب. وبدلا من الاعتماد على هذه الحقيقة المعروفة فإن كيري وسائر الدعايات المعادية لبوش تعمل على تحميل المسؤولية على الحرب، واعتبار المتفجرات فقدت في العراق على أيدي مجهولين وليس وفق خطة النظام الساقط.
أما عن تقرير آخر ساعة!! لبعض خبراء الصحة الأمريكان عن وفيات العراقيين فهو أغرب من الغرابة، ويحمل مضمونه بصمات اللعب السياسية وليس البحث الموضوعي والمسح الميداني الدقيق. ومجرد نشره في هذا اليوم بالذات دليل التحيز السياسي وينفي كل مصداقية علمية:
1 ـ التقرير يتجاهل عن عمد عدد الذين كان النظام الساقط يقتلهم بمختلف الأساليب، حتى بلغ عدد الضحايا مليونا، مع استثناء المعوقين. وحين يشير للوفيات قبل الحرب فالتقرير ينسبها للعقوبات الدولية وحدها؛
2 ـ التقرير يتعمد الخلط بين الوفيات الطبيعية والمرضية وبين الوفيات الناجمة عن القصف؛
3 ـ يخلط التقرير بين ضحايا القصف وضحايا الإرهاب الذي يشن حربا مستمرة على العراقيين . وبموجب المعلومات المؤكدة فإن ضحايا الإرهاب عددهم مضاعف؛
4 ـ لا يريد الخبراء المذكورون أن يعرف العالم أن القصف الأمريكي هو على مناطق الإرهاب وأن انتشار الإرهابيين بين السكان وفي بيوتهم وبين عائلاتهم هو سبب وقوع ضحايا أبرياء؛
5 ـ هل يقولون لنا كم عدد الوفيات العادية كل سنة في بريطانيا وأمريكا حيث لا قصف؟؛
6 ـ يقول التقرير إن الأرقام الجديدة [100 ألف وفاة عراقية منذ الحرب] جاءت نتيجة 33 مسحا جماعيا على 30 عائلة ، وإن "ثلثي حالات الوفاة المرتبطة بالعنف وردت في الفلوجة"!!
ما شاء الله! راحوا للفلوجة التي ترسل حمم الموت لأنحاء العراق، والتي تجبر جحافل الإرهاب فيها القوات الأمريكية على الرد، ولكن السادة المحترمين لم يسألوا أهل بغداد وسكان الجنوب ولا أهل كردستان عن أعداد ضحاياهم بسبب الحرب والقصف.! فيا للموضوعية العمياء! ولم يقفوا ليعدوا ضحايا المقابر الجماعية. فهل أصبحوا لسان حال الصداميين والزرقاويين في الفلوجة!!؟
لم أستغرب ما كتبه عراقي تعليقا بإثارته هنا موضوع الكوبونات ومليارات صدام المنهوبة! ولكنني أجبته:" لا تتسرع ولا تتجنّ، فسوف ينجلي غبار المعركة الانتخابية، وتنكشف الحقائق التي قد تكون من بينها فضائح كبرى!!
إن هناك اختصاصيين عراقيين متابعين، وبعضهم أطباء كما هم سياسيون مستقلون، قادرون أكثر مني بمرات تفنيد تهافت التقرير العتيد. وأعتقد أن من واجب الحكومة العراقية والهيئات العراقية المختصة إعداد ردين موثقين عن الموضوعين [ المتفجرات والوفيات من جهة العلاقة بالقصف والحرب]، وإرسالهما لمجلس الأمن والحكومات ووسائل الإعلام. إن الجميع يتحدثون باسم العراق، والجميع يصفّون الحسابات باسمه وعنوانه، والجهة المعنية مباشرة تلتزم الصمت!
بعد يومين سيفوز كيري أو بوش، والسياسة العامة لأمريكا لن تتغير جذريا، والقوات الأمريكية في العراق لن تغادر في الحال. المسألة ليست هنا، بل المسألة في استمرار التحالف الدولي الأعمى بين المتناقضات السياسية والإيديولوجية حول العراق، والذي قام قبل الحرب: من بن لادن إلى عمائم قم وطهران فالنظام السوري فالقومانيين فالإسلاميين فاليسار الغربي؛ تحالف غريب جدا لم يشهد التاريخ الحديث مثله، قائم حول محور العراق والحرب. ولو سمح للمليار عربي ومسلم المشاركة في الانتخابات الأمريكية لصوتت الغالبية العظمى لكيري، لا حبا له أو للديمقراطية أو لأمريكا، بل نكاية ببوش الذي سيكتب اسمه كالرئيس الجريء الذي قاد حملة إنقاذ العراق والمنطقة والعالم من النظام الأكثر وحشية وخطرا بعد الحرب العالمية الثانية، والذي حرك أجواء الإصلاح في المياه العربية الراكدة. أما العراقيون فلا أتفق مع تقرير إيلاف ليوم أول أمس عن أن هوى غالبيتهم مع كيري. ولا أدري من أين استقى كاتب التقرير معلوماته هذه؟!
كان كيري مع الحرب و صوت لها في الكونغرس، وإن انتخابه، كما نعرف، لن يبدل رأسا على عقب الاستراتيجية الأمريكية التي تخططها المؤسسات المتعددة. ولكن حملة كيري الانتخابية تشير على ما يبدو أنه ليس متحصنا ضد فيروس الممارسات السياسية في الدول العربية، وما تتسم به من مناورات وتشهير وألاعيب لغرض الفوز بأية طريقة وبأي ثمن كان!
إن انتقال العدوى العربية، ولو قليلا جدا، للانتخابات الأمريكية وللبرلمان البريطاني ظاهرة سلبية تخدش الديمقراطية وتسئ إليها.
لو تركنا الأمريكان أنفسهم، فإن التحالف الذي يكره بوش خارج أمريكا، سوف يعود لشغبه وتشهيره وتلفيقه ضد كيري هذه المرة، إن نجح، وبعد أسابيع قليلة من تسلمه الرئاسة. فهذه القوى والعناصر والدول، وبرغم ما يفرق بينها في كل شيء آخر، تكره الولايات المتحدة نفسها وتعاديها ولأسباب متباينة. وهنا الحقيقة مهما غطيت بالستر والذرائع.