يمر العراق في حالة احراج قانونية ليس فقط بما قدمه بول بريمر من تشريعات اصدرها خلال الفترة التي بدأت بسقوط النظام الى يوم تواريه عن الانظار خلسة. ورغم ان العراق يملك استقراراً قضائياَ يمتاز على دول الجواراذ ان بدايته ايام عهد الملك فيصل الاول يوم تعينه ملكاً على العراق حيث انه لم يدخر وسعاً في تسخير كافة طاقاته في تكوين دولة عصرية تليق بتبوء منصب في المنظمات الدولية .
ان العراق الذي خرج من عهد دامس حالك في ظلمة التعسف العثماني وعلى مدى خمسة قرون وقد ترك العثمانيون العراق وهو شبه خراب ومن كل النواحي, مجتمع بدائي بدوي يعيش على الرعي والزراعة ولم يكن للعراق نصيباً في اي تطور حضاري كان يجب على الدولة العثمانية تقديمه سوى خسارة مئات الالأف من الجنود في حرب لا ناقة له بها ولا جمل هي حروب عثمانية توسعية تأتي بالخير الى اسطنبول وبالخراب والجوع والشهداء للولايات التابعة لهذه الدولة .
جاء الانتداب البريطاني وعزم على عمل تغيير جذري لواقع العراق وبالشكل الذي يخدم مصالح الانتداب ويقوي من هيمنته على المؤسسات فعمل على تأسيس مؤسسات قانونية منها القضاء (المحاكم بكافة درجاتها) واخذ يستفيد من كل عراقي يستطيع ان يؤدي خدمة قانونية من موقعه والتفت ايضاَ الى تكوين جيش. وكان الملك فيصل فطناً بتفكيره ذكي في تعاملة مع الشعب العراقي فدعا الشيوخ المرموقين على دفع ابنائهم ليكونوا ضباطاً في الجيش العراقي الفتي وهكذا تشكلت اول لواء في الجيش واطلق عليه لواء موسى الكاظم. وتدافع الكثير لبناء جيشاً وطنياُ - بالرغم من كل محاولات نظام البعث في الحقبة الاخيرة بتحريفه عن اهدافه العسكرية والوطنية - اتجه بعد ذلك الملك فيصل الى النواحي الادارية وقسم العراق الى متصرفيات وقسم المتصرفيات الىقائممقميات ثم الى نواحي وجعل رئيساً لكل وحدة ادارية و كان هذا التقسيم ناجحاً وسار عليه العراق طوال فترة نظامي الملكي والقاسمي حتى جاء البعث وتدخل بما يسىء الى هذا النظام واصبحت كل التقسيمات الادارية تصب في مصلحة صدام حسين ونظامه. بهذه التقسيمات وبهذه النقلة النوعية الحضارية تقرب العراق من موقع قبوله في المنظمة العالمية آنئذ (عصبة الامم) وفعلاً ثم قبوله في الثلاثينات.
ان هذا المنحي في ادارة العراق جعل هاجس تقوية القضاء ووجوب تقويمه هاجساً متعاظماً يزداد فترة بعد فترة اذ ان كانوا اصحاب القرار يؤمنون بمبدأ العدل اساس الملك ويعني هذا ان العدل ان بسط على مدينة ما او دولة ما فأن السيادة لاصحاب القرار تكون متوفرة.

تفنن المك فيصل في ايجاد نخبة النخب القانونية العراقية ومنهم من تخرج من باريس مثل توفيق وناجي السويدي ومنهم من تخرج من اسطنبول وهم كثيرون مثل نوري القاضي ومنير القاضي وسليمان فيضي وغيرهم كثيرون, حتى بينهم المسحيون واليهود مثل رزوق شماس وداوود ساسون وبهذا الصرح القضائي استطاع العراق ان يمتاز في احكامه القضائية وفي كفاءة فضائه وخكامة وفي غزارة علمهم القضائي وتفقههم في الدين والشريعة وان يكونوا متميزين بين بقية الدول.

لا يختلف اثنين في ان اتفاقيات جنيف سيف سلط على كل قائد لجيش احتلال دخل في ارض بلد أخر لذا نجد وبتبسيط مختصر ان نقول ان بول بريمر وهو الحاكم المدني الذي اصدر ثلاثة وثمانون قانوناً؟؟...لا يملك حقاً شرعياً في اصدار حرف واحد لاي قانون بأستثناء قانون يحمي افراد الجيش الامريكي وحلفاءه ويحمي العراقيين من الاعتداء والفوضى. وقد عمل هذا الحاكم الامريكي رغم عدم احقيته القانونية والدولية في تمزيق ما رسى عليه القضاء العراقي وما رَست عليه المكتبة القانونية من تشريعات تقدمية حضارية يمكن ان يقال عليها انها تواكب التشريعات الاوروبية الحديثة , واشد ما يؤلمني ان السيد بريمر اعتدى على القانون المدني العراقي المرقم 31 لسنه 1951 والذي عمل على صياغته نخبة من علماء القانون وعلى رأسهم الدكتور السنهوري باشا واشترك معه حسين جميل وحسين كمال الدين وغيرهم من اساطين العلم القانوني والفقه الشرعي.. وقد اجتز من هذا القانون العظيم ابواب مهمة منها باب التحكيم وابواب اخري حتى اصبح القانون بحاجة الى اعادة صياغة, كما انتزع باب التحكيم في المنازعات الذي نحن بأمس الحاجة الى تطبيقه في الوقت الحاضر بعد الفوضى التشريعية والقانونية والتصرفات الكيفية التي اتى بها صدام واكملها بول بريمر.

ايام احتلال نظام صدام حسين للكويت الغير مبرر الذي ادى الى ردة فعل دولية وتكالباً استعمارياً على ضرب العراق بحجة وجود قواته في الكويت كجيش محتل, في مثل هذه الحالة واستمرار القصف على العراق فأن الشركات الاجنبية التي كان في عهدتها عشرات المليارات من الدولارات وهي قيمة مشاريع اخذت مسؤولية تنفيذها مختلف الشركات وخاصة اليابانية والاوروبية والكورية. وجدت هذه الشركات ان لا مناص من ترك مواقع عملها ومراكز مشاريعها والهروب بالنفس الى خارج العراقي رغم محاولة صدام حسين ابقاءهم كرهائن ليكونوا درعاً واقياً من قصف الطائرات فتوقف العمل في مشاريع الطرق والمدارس والمجمعات السكنية والمشاريع ذات الحيوية الكبيرة التي تصل مجموع اقيامها وتكاليف تنفيذها مئات المليارات رغم ان هناك نصوصاً قانونية في شروط العمل والعطاء تلزم الطرفين بطريق التنفيذ فأن كان على الدولة العراقية في ذلك الوقت ان تقدم تسهيلات مصرفية واعفاءات كمركية على المكائن وتحديد مناطق حرة لتواجد هذه الشركات واعفاءات كبيرة من ضريبة الدخل وضريبة الارباح مع تسهيلات غير مؤلوفة لدخول وخروج الاف من مدراء وموظفين الشركات العاملة في العراق ونذكر على سبيل المثال احدى مستشيري مكتبنا في ذلك الوقت وهي شركة باي وتر التي نقذت مشروع مياه ومجاري محلة الكرخ والتي بلغت كلفته مليار وثمنمائة مليون دولار, هذه الشركة استمرت على تنفيد مشروعها رغم تصرف صدام حسين الغبائي بجعل مستخدميها رهائن وغطاء بشري كدرع من حمم القنابل التي كانت ترميها الطائرات الاجنبة وكان لهذا العمل اسوأ الاثر حيث ان كافة الشركات الي قدمت وضعت ثلاث بالمائة زيادة للضروف الطارئة, كما مثله غباء صدام.

الان وعراق اليوم غارق في بحر من دماء ومشاكل فليس احسن علاج للاستقرار وحقن الدماء سوى هيكلة قضاء عاجل وقوي يشغل كراسيه قضاة كفؤين غزيري العلم نظيفي الكف وهو العلاج الاوحد ليضع حدا لهذه الفوضى الامنية, اما الفوضى القانونية والمشاكل التي تشعبت بضروف متراكمه سببها نظام صدام وزادها تعقيداً الاحتلال وعمل على زيادة الفوضى القانونية هي قوانين بول بريمر الصادرة في تاريخ ممارسته للسلطة .

إن العراق الان كالغابة متشابك لا يريد الانفكاك الا بقوة القانون فيه مصالح تكونت بتسلط فئة على فئة كما تسلطت فئة البعثيين على بقية الناس ايام الحكم الماضي وكما افرزتها فوضى الاحتلال. أمام هذه الغابة المتشابكة من الصراعات القانونية لا يجد القانونيون المخلصون سوى النصح في اخذ مبدأ التحكيم واعمال نصوصه القانونية خاصة وان تعريف التحكيم هو اقصر خط واقصر طريق لحل النزاعات والخلافات مع مراعات ما نص علية القانون ونورده باختصار من اجل العمل والتشجيع على حل النزاعات عن طريق التحكيم.

التحكيم يتطلب ان يذكروجوب رجوع الطرفين الى التحكيم في حالة نشوء اي خلاف بين اطراف العقد وقبل تحريك الدعوى المدنية اما اذا حركت الدعوى المدنية فأن القاضي علية ان يوقف سير المرافعات ويعين محكمين حسب الشروط الواردة في العقد على ان يدفع بالتحكيم في اول جلسة من المرافعة.
ان التحكيم برأي يصل بالعدالة الى طرفي النزاع اذ ان كل واحد من اصحاب النزاع يحق له تعيين من يمثله حضورياً في اجراءات التحكيم وعرض النزاعات وغيرها ويحق للمحكمين ان يختارا محكماً ثالثاً فيصبح العدد وتري وتكون قرارته بالاكثرية ملزمة .
أن هيئة التحكيم هذه تملك كافة صلاحيات القاضي وعليه وجوباً اتباع قانون المرافعات في التبليغ وترتيب المرافعة وحفظ الضبط لما يجري اثناء مرافعات التحكيم.
ألعراق الان لا خيار له ان اراد ان يدخل في طريق عملي لحل نزاعاته وخاصة الدولية سوى ان يتجه للتحكيم مع الشركات التي اخلت بالشروط وللشركات ان ترجع للحكومة بما لديها من اسباب معقولة تمكنها من كسب قضية التحكيم.
الوضع السياسي في العراق لا يتحمل طول سير المرافعات الدولية وتكاليفها من مئات المليارات من الدولارات وارى ان تشكل الحكومة العراقية هيئة تحكيم دولية يكون مقرها في اوروبا لتدرس القضايا بكل انواعها وتقدم النصائح القانونية وما يجب عمله خفاظاً على مصلحة العراق وخزينة العراق وتقدم العراق وعدم هدر المال العام.