محق من يقول ان العراقيين بالغوا في استبشارهم وتوقعاتهم وآمالهم عندما ظنوا بأن القوات الامريكية والحليفة التي أطاحت بالنظام الدكتاتوري في التاسع من نيسان 2003 ستفكك أيضا الاليات والركائز التي كان يعتمد عليها الدكتاتور لتثبيت سلطته التي دامت لآكثر من ثلاثين عاما.
لقد وجهت هذه القوات ابان عملية (تحرير العراق) ضربات موجعة للبنى التحتية فقط لهذه الركائز والاليات بهدف تجريد الدكتاتور وأعوانه من القدرة على الاستمرار في توظيفها لفرض سلطته.. وبذلك تفككت القيادة السياسية والعسكرية الحاكمة وتشتت أفرادها.. ولكن بقيت الاليات والركائز.. وهي تنظيمات حزب البعث وتشكيلات الحرس الجمهوري بصنوفه المختلفة وأجهزة المخابرات والامن وغيرها والتي كانت قد تلقت أوامر مسبقة بالاختفاء منذ الساعات الاولى للحرب مع أسلحتها ومصادر تمويلها لتفادي احتمالات غير متوقعة.
لقد أكدت قوات التحالف في أكثر من مناسبة حتى قبيل اندلاع العمليات العسكرية في آذار عام 2003 ان الهدف من عملية تحرير العراق هو الاطاحة بسلطة صدام حسين.. سلطة صدام حسين.. واقامة نظام ديمقراطي في البلاد.. وابان العمليات العسكرية, استهدفت القوات الحليفة بصواريخها الدقيقة وطائراتها المتطورة قصورا ومنشآت ومقرات ومبان عسكرية وحكومية.. وكان أغلبها خاليا.. واكتفت بنشر صور 55 مسؤولا في النظام البائد وطالبت بالقبض عليهم.. ولكنها لم تعلن أبدا ـ أكرر أبدا ـ أنها كانت تستهدف حزب البعث كتنظيم سياسي او أفراد الحرس الجمهوري ممن يغادرون مواقعهم ومعسكراتهم او أي مسؤول آخر في أجهزة الامن والاستخبارات وغيرها من التشكيلات والركائز التي كان النظام يعتمد في ديمومته عليها.
وبعد انهيار النظام الدكتاتوري, وفي ظل ظروف سياسية معقدة, رضخت الادارة الامريكية لمطالب أطراف سياسية عراقية مؤثرة وأصدرت مجموعة قرارات من بينها قانون اجتثاث البعث, رغم انه كان جاهزا قبل اندلاع الحرب, والذي أسيء فهمه وتفسيره من جانب العراقيين خصوصا الذين ذاقوا المرارات وكانوا ضحايا اضطهاد الحكم الدكتاتوري, حيث اعتقدوا ان عملية اسقاط الدكتاتور هي أشبه بانقلاب عسكري.. رغم ان العسكر كانوا أمريكيين هذه المرة.. لتخليصهم من الحكم الاستبدادي وركائزه.. كونهم قد اعتادوا منذ الاربعينات من القرن الماضي على انقلابات عسكرية متلاحقة لتغيير الانظمة السياسية.
لقد توهم البعض بأن قانون اجتثاث البعث يعني بداية حملة شعبية لملاحقة كل البعثيين وربما تصفيتهم جسديا انتقاما لما أُقترف بأسم البعث وتحت حكمه من انتهاكات وجرائم ضد المعارضين السياسيين, ما أثار في البداية قلقا طبيعيا لدى المسؤولين الامريكيين من جانب, وعدد كبير من الحكام والمسؤولين العرب وغير العرب من المستفيدين من وجود صدام حسين في الحكم من جانب آخر, ناهيك عن البعثيين المتورطين في جرائم ضد ابناء الشعب والذين هرعوا الى التخفي او الهرب من البلاد او اللجوء الى بعض المدن والقرى طلبا للحماية.
كان المقصود باجتثاث البعث هو الغاء الفكر البعثي الذي أثبت فشله تماما وعجزه عن إشاعة الحريات وحماية واحترام حقوق الانسان, واصراره على الترويج لثقافة العنف والكراهية والعدوان والغاء الاخر وتكريس الطائفية والتعصب والتنكيل بالمعارضين السياسيين وهدر المال العام وغيرها من الانتهاكات .. فالقانون لم يكن عقابا جماعيا للبعثيين كأشخاص كما أشاع المستهدفون به, وانما كان مجرد أجراء احترازي لآقصاء المتورطين من البعثيين بجرائم من بعض المناصب المهمة في المؤسسات الحكومية.. والسماح لهم بحرية مزاولة أي مهنة في جميع ميادين القطاع الخاص.. كما لم يصدر رسميا ما يمنع البعثي (البريء) من العودة لوظيفته.
لكن الذي حدث, هو ان البعثيين .. مدنيين وعسكريين .. هم الذين قرروا ترك مواقعهم الوظيفية وكأنهم قد أُبلغوا بتعليمات سرية مسبقة قبل التاسع من نيسان, ربما صدرت من قيادات تنظيماتهم الحزبية.. بأتلاف محتويات مكاتب مؤسساتهم قبل الاعتكاف في منازلهم او الانزواء في قراهم ومدنهم الاصلية التي انحدروا منها.. انتظارا لمزيد من التعليمات!
وبعد تشكيل الادارة المدنية الامريكية ومجلس الحكم المؤقت, وحتى في ظل الحكومة الحالية, لم تصدر أية أوامر بأعتقال او ملاحقة أي بعثي عدا المطلوبين في قائمة الـ(55) التي لم تكتمل لحد الان.
ولآسباب غير واضحة لكنها تثير كثيرا من التساؤلات وتتطلب ايضاحات صريحة من المعنيين بالامر, إعتبر البعثيون أنفسهم, ومنذ الساعات الاولى للتغيير, أشخاصا لا ينتمون بأي شكل من الاشكال للعهد الجديد الذي جاء بعد الاطاحة بأبشع حكم استبدادي ويسعى لآقامة دولة يسودها حكم القانون واحترام كرامة الفرد وحرياته وحقوقه, وكأنهم يقولون " لقد خسرنا سلطتنا.. ولن نقبل باقل من استردادها" .
وقد حذرنا في مقال سابق ( لا مناطق مقفلة في العراق) ان المشهد يتكرر حاليا في العراق, وسيفعل البعثيون مثلما فعلوا في السنوات التي سبقت انقلابهم في شباط 1963, حين بدأوا بأرهاب المواطنين في بعض أحياء بغداد مثل الاعظمية والجعيفر وما جاورها في الكرخ وارغام المناهضين لهم بالقوة والعنف على الانتقال الى أحياء أخرى, وامتد ارهابهم ليشمل المحمودية واليوسفية واللطيفية والموصل وتكريت وبيجي وبلد والشرقاط وكل مدن الرمادي (الانبار) مثل الفلوجة وعنه وهيت وراوة وحديثة وآلوس والرطبة حتى الحدود السورية حيث تتسلل الاسلحة والاموال, وغيرها من الاحياء والقرى بحيث أصبحت مناطق (بعثية مقفلة) يصول ويجول فيها البعثيون ويتدربون على استخدام الاسلحة والتفجيرات دون محاسبة من السلطات الحكومية آنذاك.. وكان لهم ما أرادوا حيث تسبب تراخي حكومة عبدالكريم قاسم معهم وتغلغلهم المنظم والمدروس في جميع مرافق الدولة خصوصا الامنية والعسكرية والادارية الى نجاح انقلابهم عام 1963.
ولهذا نقول.. ساذج من يصدّق بأن السيارات المفخخة والتفجيرات والاغتيالات هي من عمل ارهابيين أجانب.. و
مخدوع من يعتقد ان أطرافا سياسية تريد عن قصد تغييب البعثيين كأشخاص عن العملية السياسية.. وواهم من يراهن على نجاح مفاوضات بين الحكومة الحالية و (وجهاء) الفلوجة او سامراء او شارع حيفا.. وأكثر سذاجة من يظن ان الاعمال الارهابية في البلاد يقودها اسلاميون غير عراقيين تواجدوا في العراق بهدف (الجهاد) ضد القوات الامريكية.. فلو كانوا اسلاميين يريدون (الجهاد) ضد الامريكيين وحلفائهم الغربيين والشرقيين كما يدّعون.. فلماذا لا يوجهون هاوناتهم وقاذفاتهم ويقودون سياراتهم المفخخة الى الكويت او السعودية او قطر او الاردن او تركيا خصوصا وان حدود العراق مستباحة ويمكنهم اجتيازها ذهابا وايابا بسلام دون رقيب؟
لقد أكد لكاتب هذه السطور أكثر من بعثي مقيم في الخارج انهم لا يقبلون بأقل من العودة للسلطة والاستفراد بها وينتظرون ساعة الصفر لتنفيذ (المهمة) وانهم لا يتوقعون ان يحول الامريكيون دون ذلك.. فالامريكيون بحاجة ملحة الى (طرف قادر على الامساك بزمام الامور بحزم وقوة ليعيد للبلاد استقرارها).
كما أكدت بيانات حزب البعث المنشورة على مواقع الكترونية موالية ان البعثيين مصرون على (النضال حتى استرداد حقهم في حكم العراق).
ان المواجهات الجارية في الفلوجة والرمادي واطراف بعقوبة وغيرها من المناطق الملتهبة هي في واقع الامر حرب شرسة بين قوات الشرطة والحرس الوطني بمساندة القوات الامريكية.. وبين مسلحي حزب البعث الذين يمتلكون خزينا كبيرا من الاسلحة والاموال التي أخفوها معهم قبل وعند سقوط نظام حكمهم وما تزال تتدفق عليهم من وراء الحدود. أن هؤلاء قد وظفوا هذه المرة الدين الاسلامي وليس العقيدة القومية والاشتراكية لتضليل الرأي العام والبسطاء من الناس.. فيما جندوا مرتزقة غير عراقيين لقاء مبالغ مغرية ووعود مستقبلية.. واستبدلوا الزي الحزبي الاخضر بالعمامة واللحية لآنهم يعلمون ان هذه الللعبة باتت تنطلي على السذج والبسطاء من الناس.. فشكلوا هيئات ومجالس بأسماء لم يسمع بها العراقي من قبل.. وأعلنوا بكل وقاحة عدم اعترافهم بشرعية الحكومة الحالية ورفضهم القاطع للمشاركة في الانتخابات المقبلة والتشكيك بنتائجها قبل بدئها مستفيدين من افتقار الحكومة لمستلزمات القوة ووسائل فرض حكم القانون.. ويقولون بأن لهم (امارتهم وسلطتهم وقواتهم) وغدا سيكون لهم اذاعتهم وفضائيتهم وحكومتهم حتى ان فرنسا دعت الى أشراكهم في المؤتمر الدولي المزمع عقده في مصر حول العراق.
وبهذا يكون البعثيون هم الذين اختاروا بأنفسهم طريق معاداة العهد الجديد والانعزال برغبتهم عن العملية السياسية واللجوء الى المواجهة المسلحة مع قوى التحرر والديمقراطية والتغيير في العراق.. وبذلك يكونون قد اصطفوا الى جانب من لا يريد انتشال البلاد من أوضاعها المأساوية وإعادة الامن والطمانينة الى نفوس المواطنين.
ونقول للذين يدّعون وجود نوعين من البعثيين ـ متورطون بجرائم ومرغمون على الانتماء ـ نقول المطلوب الان أن يُظهر البعثيون المغرر بهم قدرا كبيرا من الشجاعة لفهم الواقع وادراك المتغيرات من حولهم والاقتناع ليس بصعوبة بل بأستحالة العودة للوراء والبدء بحياة حرة كريمة تكفل لهم مستقبلا مزدهرا في ظل دولة ديمقراطية تكفل وتحترم حقوق الانسان وحرياته الاساسية.. وذلك لن يتحقق لهم ما لم ينتفضوا اليوم قبل الغد على قياديهم الاشرار ويعلنوا فورا وبصراحة في وسائل الاعلام المتاحة لهم التنديد بجرائم الدكتاتورية ونبذ العنف واستعدادهم للمشاركة في العمل السياسي ورغبتهم في الانضمام الى صف العراقيين التواقين للعيش بحرية وأمان.
ونشير في هذا الصدد الى أن تهديدات ما يسمى بمجلس شورى السنّة في الفلوجة لرئيس الوزراء المؤقت دليل على ان البعثيين قد اتخذوا قراراهم بالتنسيق والتعاون مع الارهابيين وشن الحرب على العهد الجديد وكل ما يمثله حين قالوا:"نقول للزرقاوي أينما كان ان كنت قد هددت علاوي بالقتل يوما ولم تصل اليه حتى اليوم فإنا نبشرك أن ترتاح وتطمئن فأهل الفلوجة بعدما ذاقوا على يديه هم أولى الناس برأسه ولن يسبقهم اليه أحد".

وانطلاقا من هذه الوقائع, يتساءل العراقيون عن جدوى تفاوض الحكومة المؤقتة مع البعثيين الموالين للنظام الدكتاتوري في (امارة) الفلوجة.. وما هي التنازلات والوعود التي ستقبل بها الحكومة من اجل (حقن الدماء) هناك اذا كان الطرف الاخر مصّر على حمل السلاح وتخريب العملية السياسية؟
ان أي حوار مع البعثيين المتخفين تحت عباءة الدين ومجالس شورى وعشائر ووجهاء في الفلوجة لن ينتهي الا بقبول شروط الطرف البعثي لكونه الطرف الاقوى والاغنى والاكثر تسليحا والمدعوم ماديا ومعنويا من جهات خارجية.
وفي ضوء ذلك نرى انه من غير المستبعد ان تتصاعد حدة المواجهات المسلحة والعمليات الارهابية وتتسع رقعتها وستزداد شراسة يوما بعد يوم حتى بعد الانتخابات المقبلة ـ هذا إن جرت في موعدها ـ وسيستخدم البعثيون فيها أسلحة جديدة متطورة ذات قوة نارية كبيرة مثل مدافع الميدان وراجمات الصواريخ والاسلحة المضادة للطائرات, وربما التهديد باللجوء الى أسلحة محظورة بغية فرض شروط مثل الافراج عن الدكتاتور وأعوانه خصوصا وان قضية محاكمتهم باتت أشبه بالقصة الخيالية.
وبالمقابل, وفي ظل غياب سلطة القانون في (المناطق المقفلة) ستجد أطراف سياسية فاعلة نفسها مضطرة لتحمل مسؤوليتها الوطنية والتحرك الفوري وقبل فوات الاوان لوقف هذا الخطر المحدق بالبلاد والذي يستهدف ضمن أهداف أخرى العودة للحكم الشمولي الاستبدادي, وقد تتخذ هذه الاطراف اجراءات حاسمة تتناسب وجسامة الاخطار والتهديدات القائمة بهدف درء هذه الاخطار وحماية أمن البلاد ووحدتها وسلامة المواطنين وصيانة ما تحقق من منجزات على صعيد بناء دولة ديمقراطية.

[email protected]