-دعوة للحوار-

يشهد العراق، بكامل تكويناته العرقية والدينية والمذهبية والثقافية، إعادة تعريف لهويته. تظهر الحاجة لإعادة تعريف الهوية حينما تنهار السياسات الشمولية التي تريد إخضاع المجتمع لنمط خطيّ من التفكير والانتماء والتطلعات، وتجربة إعادة تعريف الهوية ضرورية ولازمة للتغيير، وقد مرت بها الشعوب والأمم المتحضرة كافة، على أن إعادة تعريف الهوية قد تكون محفوفة بالمخاطر، فالعراق يحتوي على نحو ست وستين جماعة عرقية ودينية ومذهبية ولغوية، وكل منها يريد أن يعيد تعريف نفسه في ظل الفوضى الضاربة في البلاد الآن، وهذا يدفع بالرغبات والآمال المتطرفة للظهور أكثر من التفكير بالحقائق وقبول الآخر، والخطر الأكثر احتمالا هو أن تعتقد الجماعات العراقية الفاعلة أن القوة هي الوسيلة الوحيدة لإعادة تعريف الهوية، فهذا يقود إلى التطرف والغلواء، وهو يفضي شيوع فكرة الاستبعاد، فالاستئصال، وكثير مما يتصل بموضوع إعادة تعريف هوية الجماعات في العراق محكوم بردود فعل للسياسات الشمولية الماضية التي قوضت العلاقات الطبيعية بين الجماعات، وأعادت تركيبها على وفق نمط أيدلوجي مغلق، وأشاعت ثقافة الخوف والنميمة والشك في الفضاء العام، ولا نكاد نجد الآن تيارات مدنية كفوءة تكشف عن إمكانية ظهور علاقات مغايرة عما كان عليه الأمر من قبل، فلم تُقترح بعدُ صيغ جديدة لتنظم العلاقات بين الجماعات، وردود الأفعال التي تلوح في الأفق قد يتبعها نوع من التطهير العرقي والديني والمذهبي، وكل ذلك إنما هو إعادة إنتاج للسياسات الشمولية للنظام السابق تمارسه هذه المرة الجماعات بعد أن كانت تمارسه السلطة باسم الدولة، فالتشكيلات الأهلية التقليدية كالعشيرة والمذهب والطائفة والعرق والعقيدة انتعشت، فيما غابت التشكيلات المدنية الحديثة التي تتخطى هذه الأسيجة الدوغمائية، وتعبرها إلى شراكات القوى الاجتماعية الفاعلة؛ وذلك يتسبب في إعادة النظر في مفهوم الهوية نفسه، بما يجعل الجماعات القوية تفرض تعريفا لهويتها بالعنف. والحق فالجماعات( وبخاصة السياسية+ العسكرية) الفاعلة في العراق، اكتسبت شرعيتها لدى أتباعها بسبب مقاومتها لسياسات النظام السابق، وبزوال ذلك النظام لابد أن تزول أسباب شرعيتها، والمرجح أن يفرض الحراك الاجتماعي والسياسي شرعيات جديدة، تقوم على أسس تمثيلية-مدنية، وتستبعد سياسات القوة التي تبناها النظام السابق، لكن قادة تلك الجماعات سيحولون دون فقدان شرعيتهم التي انبثقت كرد فعل عن وضع شاذ، ولهذا يعيدون ترتيب علاقاتهم بالجماعات في ضوء مخاوف الماضي، وكثير منهم استثمروا النقمة العامة لكي يوقدوا شرارة التطلعات العرقية والمذهبية والعشائرية، وهذا سيفرز مفاهيم مغلقة للهوية الوطنية أو لهوية الجماعات في العراق، وقد يقود إلى حقبة خطيرة في تاريخ العراق تعرف بحقبة( أمراء الحرب) أو( أسياد الحرب) كما ظهر في الصين نهاية الحقبة الإقطاعية، وفي كل من لبنان ويوغسلافيا وأفغانستان خلال الحروب الأهلية، فأسياد الحرب يتولون قيادة جماعات بحجة حمايتها من خطر الجماعات الأخرى. تسلمهم الجماعات قيادها، فيما يحتمون هم بها، وتتفكك الأواصر بين أسياد الحرب وجماعاتهم ما أن يحل الاستقرار والأمن محل الفوضى، ولكن تلك العلاقة تنتعش في ظل عدم الاستقرار، ويغذيها بالتطرف رغبة أسياد الحرب في البقاء أبدا قادة لجماعاتهم برفع شعارات قومية ومذهبية تلهب خيالها وأحلامها، وكما يخلص(بندكت آندرسن) فكل الجماعات هي في الأساس جماعات متخيلة، تؤمن بسرد مخصوص ذي ركائز عرقية أو دينية أو مذهبية. والخيال يؤجج المشاعر لديها، فتقبل صورة ما لنفسها أو لغيرها استنادا إلى المتخيل الذي تؤمن به، وتلجأ إلى ممارسة العنف كحق طبيعي إيمانا منها برواية مخصوصة عن حقوقها العرقية أو المذهبية، وتعتبر الآخرين غرباء ينبغي عدم الاعتراف بهم وبحقوقهم.
أمضيت شهرين في العراق خلال الصيف الماضي، ووجدت كثيرا من الذين التقيتهم، ومنهم أقرباء وأصدقاء ومعارف ينتمون لجماعات مختلفة، قد أصيبوا بداء التعصب، والانغلاق بسبب الحقبة الاستبدادية التي عانوها، وبسبب تضخيم المخاوف من الجماعات الأخرى، وبسبب عدم وضوح مسار التحولات التي انخرطت البلاد فيها، ولاحظت بأنهم يعيدون تعريف هويتهم من جديد، ولكنه تعريف مشوب بالالتباس، والغموض، فالعراقي الآن يقدم انتماءه العشائري والمذهبي والعرقي أو المناطقي على الانتماء الوطني، وهذا يهدّد بانفراط العقد الرمزي الذي ينظم العلاقة بين الجماعات، فلا يمكن أن تقوم دولة حديثة بعيدا عن مفهوم مرن ومتنوع للوطنية القائمة على الشراكة بين الجماعات الفاعلة، وليس استنادا إلى قبول أيدلوجيا واحدة، أو عرق واحد، أو عقيدة واحدة، وإلا عدنا القهقرى إلى دولة الملل والنِحل، مع الأخذ بالاعتبار التحسب من شبح المفهوم السابق للوطنية في هذه الحال. والمثال الأكثر حضورا في مسألة إعادة تعريف الهوية هو كركوك، مدينتي، فهي الآن موضوع للتجاذب العرقي الذي تحوم في سمائه رهانات القوة، وإذا مضت الجماعات الكبرى في المدينة في هذا التجاذب بالطريقة الأيدلوجية المتعصبة فسيكون مستقبل المدينة، ومستقبل تلك الجماعات، سيئا لا محالة. لابد من قبول الآخر، والأخذ بالاختلاف، والإيمان بالتعايش المشترك، والتفكير القائم على المشاركة، وهجر الإيمان المتخيل بالهويات المغلقة التي لن تفضي إلى إلا الدمار، وتخفيف شحن الغلواء المَرضية بين الجماعات في المدينة؛ فالتعلق بالمتخيلات القائمة على تركة الماضي السيئة، أو التطلعات الضيقة لمستقبل لا تتشارك فيه الجماعات كافة، أمر يرتب كثيرا من احتمالات الخطر على الجميع في كركوك وسواها من المدن العراقية التي تتوزع فيها أعراق مختلفة. وليس أفضل للجماعات العراقية الآن من استثمار الظروف المتحولة في البلاد لإعادة النظر بكيفية اكتشاف، وتقييم، ونقد، الانتماءات العرقية والمذهبية في ضوء فكرة الشراكة، وتجنب الاندفاع لتفريغ شحنات انفعالية مؤجلة، أدى إرجاؤها الطويل في الماضي إلى تحويلها إلى مكبوت مقدس وهوسي ينبغي تبنّي أي أسلوب للتعبير عنه، فاختيار أسلوب القوة يغذّي التطرف، ويبيح استخدام العنف ضد الجميع، ومن قبل الجميع، وهو يرسم في مخيال الجماعات صورا إكراهية لبعضها، ويحول دون قبول الاختلاف والتنوع، ولابد- لتجنب كل ذلك- أن تنتقل الجماعات العراقية من حالة الانكفاء على الذات إلى التفاعل، ومن الاستئثار إلى الشراكة، ومن الخوف إلى الطمأنينة، ومن الشك إلى الثقة، ومن الانفعال إلى التفكير، وعدم تحميل جماعات بعينها وزر أخطاء السياسات الشمولية التي ألحقت الضرر بالجميع، فذلك سينتج أشكالا معكوسة من أخطاء الماضي نفسه.
يعتقد على نطاق واسع بأن كركوك تصلح أن تكون مختبرا لمستقبل العراقيين في قبول بعضهم لبعض، فإلى منتصف السبعينيات كانت المدينة تفتخر بتنوعها، قبل أن يتحول ذلك التنوع إلى خطر يتهدّدها بسبب السياسات الشمولية التي لا تقر بالتنوع الخصب الخلاق، ولا تعترف به، وكان الاندماج، وإعادة تشكيل الأنساب والأعراق، معروفا في المدينة. لديّ أقرباء استوطنوا المدينة منذ مطلع القرن العشرين، فلا تعرف الأجيال الجديدة منهم غير التركمانية أو الكردية لغة لهم، ولا يعرفون أبدا بأنهم من أصول عربية، وكثير من التركمان تكرّدوا بسبب المخالطة، والمزاوجة، والمجاورة للأحياء الكردية، وكثير من الأكراد تعرّبوا بفعل المعايشة المشتركة، وليس من الغريب أن تجد أسماء شخصيات كردية معروفة تنتسب إلى قبائل عربية، وتستوطن المدن الكبرى في العراق، والعكس صحيح أيضا بالنسبة للعرب والتركمان، فالتحولات الدينية، والمذهبية، والعرقية، واللغوية، خاضعة للسياق الثقافي الذي يسكنه الفرد، أو الأسرة، أو القبيلة، فلا تمضي إلا أجيال قليلة حتى يذوب الفرد في الجماعة الجديدة، ويصبح جزءا منها. وقد توصل عالم الاجتماع (علي الوردي) إلى أن كثيرا من القبائل العربية في العراق تحولت مذهبيا بسبب ارتحالها، وسكناها في مواطن قبائل مختلفة مذهبيا عنها. فلا وجود لهوية ثابتة، ونهائية، ومطلقة، وكما يقول المفكر الإيراني( داريوش شايغان) فنحن بحاجة لهوية بأربعين وجها. أي إننا نحتاج إلى هوية مركبة تعيد تنظيم علاقاتنا بأنفسنا وبغيرنا. لم يعد من الممكن قبول هوية دينية أو عرقية أو ثقافية واحدة، فهذه الدوائر متداخلة فيما بينها ويستحيل الاكتفاء بأي منها، وهذه الهويات لن تكون فاعلة ومفيدة إن ارتكزت على فكرة إقصاء الآخر، واعتماد مفهوم القوة والعنف، فكل الهويات التي قامت من قبل على هذه المفاهيم انهارت، وأصبحت مجرد ذكرى لحقبة سيئة تثير الاشمئزاز. المستقبل للهويات المهجنة من موارد كثيرة ومتنوعة، والعراق نفسه كان إطارا جامعا ومصهرا لهويات متعددة: سومرية، وبابلية، وآشورية، وهيلينية، ومسيحية، وإسلامية، وعربية، وتركية، وفارسية، وأوربية...الخ. فهل يمكن أن تحجز الجماعات نفسها في هوية ذات بعد واحد مع هذا التاريخ المتنوع للعراق؟.
تتميز كركوك بتنوع خاص. تعيش القبائل العربية في سهول غرب وجنوب غرب المدينة، فيما تعيش القبائل التركمانية إلى الجنوب والجنوب الشرقي، بمحاذاة الطريق المؤدي إلى بغداد، وإلى الشمال باتجاه أربيل والسليمانية تعيش القبائل الكردية. أما المدينة نفسها فهي مزيج متداخل من الأعراق الثلاثة، مع الأقليات الأخرى التي لها حضور ديني وثقافي لا يخفى، لم يهتم أحد بنسب الأعراق في المدينة، ولما اختلقت أهميته، في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، أصبح سببا للتنازع حول أحقية الأعراق بصوغ هوية المدينة، فاختلف، تبعا لذلك، حول الهوية القومية لكركوك، وبدأ التنازع يتصاعد، ويتأجج، وسط غياب التفكير بالهوية الثقافية المتنوعة للمدينة العريقة التي تمت أصولها إلى العصور الأولى للحضارات العراقية القديمة. واليوم تنسى الجماعات الفاعلة كل الاحتمالات الثرية للتفاعل، وتتبنّى موضوع النسبة، وتعدّ بعض أهالي المدينة من "الأغراب"!!!.
ينظر كثيرون إلى كركوك في ضوء الماضي، وفي ضوء الرغبات المتهيجة، والمصالح الضيقة، وخرافات الهوية العرقية، ولا يعرفون أن المدن تتغير، وتنزع إلى التحولات الدائمة. كانت كركوك نموذجا لعالم منسجم، ومتناغم، ومتنوع، قبل ربع قرن، ولم يكن سؤال الهوية العرقية، أو الدينية، أو المذهبية، مطروحا، وتعريف الشخص بقوميته، أو دينه، أو مذهبه، كان يعدّ، إلى منتصف السبعينيات انتقاصا وسبّة، ليس في كركوك إنما في سائر أنحاء العراق، واليوم يتم اللجوء إلى تبني الخطأ ذاته الذي تسبب في تمزيق الهوية المركبة لتلك المدينة.
[email protected]