بداية أتمنى الشفاء العاجل للسيد ياسر عرفات، وبعد ذلك أتمنى له تقاعد مريح فى باريس مع السيدة زوجته سهى، حيث بإستطاعتهما التجول على ضفاف نهر السين ساعة العصارى ويأكلوا ذرة مشوى (بالرغم من عدم وجود ذرة مشوى فى باريس، الا أنه لا بد منه لإستكمال الصورة الشاعرية، فأنا لاأستطيع تخيل التمشية على ضفاف أى نهر بدون أكل ذرة مشوى)!!
وبالرغم من أننى لا أحب السيد عرفات إلا أننى يجب أن أعترف بأن له شخصية (كاريزماتية)، والدليل على هذا أنه بالرغم من أننا فى الأيام الأخيرة للإنتخابات الأمريكية الساخنة، إلا أن خبر مرض عرفات وسفره الى باريس للعلاج كان الخبر الأول فى كل أجهزة الإعلام الأمريكية، وياسر عرفات إستطاع الإنتقال بالمشكلة الفلسطينية من كونها مشكلة لاجئين الى مشكلة شعب ودولة، وإستطاع الصمود والتنقل برجاله من الأردن الى لبنان الى تونس الى غزة حتى بات محاصرا فى مكتبه فى رام الله، وبالرغم من كل هذا فأقول له من كل قلبى، كفاية بقى الله يخليك، حل عن سمانا ودع غيرك يكمل المشوار، نفسى قبل ما أموت أشوف رئيس عربى متقاعد والأمل كله فيك يأبو عمار!!

وأنا أود أن أعترف فى نفس الوقت أننى لا أحب ياسر عرفات، لأسباب شخصية ولأسباب سياسية، أما الأسباب الشخصية فمن أهمها:
أولا: تصريحه البغيض عندما علم بمقتل السادات فى أكتوبر 1981 إذ قال: "نحن نقبل اليد التى ضغطت على الزناد"، وبصراحة من يومها وأنا لا أقبله ليس فقط لأننى كنت ومازلت أعتبر السادات من أفضل الزعماء التى أنجبتهم مصر والعالم العربى فى التاريخ الحديث، إلا أن السادات أيضا أجبر بيجين على التوقيع على قبول حق تقرير مصير الفلسطينيين لأول مرة فى تاريخ إسرائيل، ولو قبل عرفات بكامب دافيد (السادات) لكان لدينا الآن دولة فلسطينية عمرها أكثر من 20 عاما. وكل العرب بما فيهم عرفات ندموا على رفض الإنضمام الى السادات بعد أن أطلقوا عليه كل ألفاظ الخيانة، ولكن ماذا نقول العرب دائما يندمون على الفرص الضائعة، (ومالهمش فى الطيب نصيب)، ولا يتعبوا من وضع ثقتهم فى أحصنة (أو حمير) خاسرة.

ثانيا: عندما قبل عرفات بإتفاقية أوسلو (وحصل بموجبها على جائزة نوبل للسلام مشاركة مع رابين وبيريز)، أطلق على هذا السلام (سلام الشجعان)، وذلك فى تلميح واضح الى أن سلام السادات كان (سلام الجبناء)، وذلك بالرغم من أن الكل يعرف أن إتفاقية أوسلو قد أعطت الفلسطينيين أقل كثيرا من كامب دافيد (السادات).

ثالثا: عندما كنت أعمل فى غزة ما بين عامى 1994 و 1995 فى بناء مشروع سكنى كبير فى منطقة جباليا ممول من المعونة الأمريكية، تصادف أن تقابلت مع عرفات عدة مرات، فقد حضر ياسر عرفات حفل وضع حجر الأساس للمشروع والذى حضره أيضا رئيس هيئة المعونة الأمريكية والسفير الأمريكى فى تل أبيب، وكانت الروح المعنوية عالية جدا بين الفلسطينيين، وكان الكل يتوق الى السلام وبناء حياة جديدة مبنية على الإحترام المتبادل وتعاون الجيران ونسيان الماضى، وفى تلك الفترة كنت مقيما فى فندق فلسطين على شاطئ غزة، وكان ياسر عرفات ونبيل شعث وغيرهما من القيادة الفلسطينية يقيمون بنفس الفندق وكثيرا ما كنا نتناول طعام الإفطار معا فى مطعم الفندق، وكانت تحضر وفود كثيرة للقاء عرفات، وكنت أحضر بعض لقاءاته الجماهيرية فى صالة إحتفالات الفندق، وكنت ألاحظ أنه عندما يتحدث مع وفود غربية وإسرائيلية كان يتحدث عن السلام وحسن الجوار مع الشعب اليهودى وتطلعه الى التعاون مع الجيران!! وعندما كان يتحدث الى وفود من حماس والجهاد وغيرهم من الفصائل الإسلامية كان يتحدث عن الكفاح والنضال لتحرير القدس من الصهاينة وأنه سوف يحتفل مع :"أول طفل فلسطينى يرفع علم فلسطين عاليا فوق قبة الصخرة المشرفة بعد إستردادها من الصهاينة". وبصراحة أنا لا أستطيع أن أحب أى شخص أو زعيم بوجهين.

رابعا: كنت فى غزة أعمل مع الفرع الأمريكى لشركة أوربية متعددة الجنسيات، وكانت الشركة تسعى لبناء مشروعات تطوير كبيرة فى غزة والقدس الشرقية والضفة، وجاء وفد كبير من الشركة فى عام 1994، وقمنا بزيارة كل المناطق المحتلة وقمنا بمقابلة رؤساء البلديات والمسئولين فى السلطة الفسطينية الجديدة، وكانت آخر مقابلة مع السيد عرفات فى مكتبه فى غزة، وكنا وفدا من حوالى 12 مهندسا من عدة دول أوربية وكنت الوحيد الذى أتحدث العربية فى الوفد، ودخلنا الى مكتبه وكان مكتبا متواضعا بالنسبة لكثير من الزعماء العرب، ووجدنا صورة كبيرة خلف مكتبه لمسجد الصخرة المشرفة بقبتها الذهبية البديعة . وكان مع عرفات بعض مساعديه وكنت الوحيد الذى أعرفه هو مروان كنفانى (المتحدث الرسمى) وعرفته لأنه كان حارس مرمى النادى الأهلى فى القاهرة!! وتحدث إلينا عرفات وأخبرنا أنه مازال يفتقد مهنته الأصلية كمهندس ومقاول بدلا من مهنة السياسة، ومرة أخرى لم أرتح اليه لأننى وجدته يخاطب كل مجموعة من الناس بما يحب أن يسمعوه، وليس بما يؤمن هو به. وأيضا لم أرتح لمن حوله فى الإجتماع من أعضاء السلطة إذ كنت أحس من أن معظمهم يسعى وراء مصالحهم الشخصية وليس خدمة الدولة التى لم تولد بعد، وكنت أشعر أنهم يودون إقتسام الغنائم قبل أن توجد غنائم.

أما الأسباب السياسية فعديدة:

أولا: قام بتركيز السلطة فى يديه بشكل جنونى حتى أنه كان يعمل حتى الرابعة صباحا أحيانا، وأذكر أننا عندما قمنا بفتح مكتب فى غزة لشركتنا، حاولنا الحصول على خطوط تليفونية للمكتب، وقمت بالتحدث مع بعض المسئولين عن التليفونات فقيل لنا يجب أن تتحدثوا مع (الختيار) كما كان رجاله يطلقون عليه، هل هذا معقول يجب أن نتحدث مع رئيس السلطة الفلسطينية للحصول على خطى تليفون، ويمكنك أن تقيس على هذا كل أنواع تركيز السلطة الأخرى فى يد أبو عمار.

ثانيا: بعد أن وقع معاهدة أوسلو كان من الواجب عليه أن يتصرف كرجل دولة، وأن يواجه كل المنظمات الفلسطينية على إختلاف مشاربها ويخبرهم بلا مواراه بأن أمامهم خيارين لا ثالث لهما: تسليم أسلحتهم للسلطة الشرعية والإنضمام للعملية السلمية بشكل ديموقراطى، لأن الهدف من معاهدة أوسلو هو السلام وليس وقف مؤقت لإطلاق النار، اما الخيار الثانى فهو إجبارهم على إلقاء السلاح بالقوة المسلحة وإعتبارهم خارجون على القانون، ولكنه بدلا من أن يفعل ذلك كان يقوم بإستنكار العمليات الإرهابية من وراء القلب، وبدلا من أن يعمل بجد لإيقافها لفتح الطريق أمام سلام حقيقى ودائم، قام من أحد الأبواب الخلفية بالموافقة على تشكيل تنظيم كتائب شهداء الأقصى (وأهو ما فيش حد أحسن من حد)، حماس لديها (كتائب القسام)، وفتح أصبح لديها (كتائب شهداء الأقصى)، وبذلك ركب عرفات موجة التطرف والإرهاب المتأسلم، وفضل أن يلعب دور الفدائى بدلا من أن يلعب دور رجل الدولة، لأن دور الفدائى سيزيد من شعبيته ويضعه تحت الأضواء والتى يعشقها، أما رجل الدولة فسيتحتم عليه أن يبدأ فى تنظيف شوارع غزة ويبدأ فى تدبير إحتياجات شعبه من مياه الى مجارى الى مدارس الى وظائف الى مساكن الى أمن .. الخ وهى أعمال تبعث على الملل من وجهة نظر فدائى سابق( لم يخلع سترته العسكرية حتى بعد توقيع معاهدة أوسلو)، وأعمال لا تجلب الزعامة والشعبية ولكنها تجلب وجع الدماغ!!

ثالثا: رفضه القصير النظر لعرض كلينتون (الذى لن يتكرر) فى أواخر عهده والذى وافق عليه إيهود باراك (يمكن الرجوع الى كتاب كلينتون الأخير لمعرفة التفاصيل)، وقد أدى هذا الى وصول شارون واليمين الإسرائيلى الى الحكم لفترة لا يعمل مداها الا الله، وقد ندم عرفات كعادته وكعادة العرب بعد فوات الأوان، لأنه مرة أخرى تصرف كفدائي ونسى أنه رجل دولة وكان يعامل كرئيس دولة.

رابعا: بعد الضغوط الدولية والأمريكية وافق عرفات على تعيين رئيس وزراء (أبو مازن) ولكنه ظل يضع أمامه العراقيل مما أجبره على الإستقالة، وبصراحة أبومازن (ما خدش غلوة فى إيد عرفات) ، بعد كام شهر كان زهق من التعامل مع "الختيار".

وقد فكرت فى عنوان هذا المقال على سبيل السخرية، إلا أننى فوجئت بأن أصحاب نظرية المؤامرة بدأوا على الفور فى نسج قصة خيالية مفادها بأنه كانت هناك مؤامرة صهيونية لوضع سم بطء فى طعام عرفات، وأن المؤامرة قد نجحت!! وقد حدث هذا من قبل عندما مات عبد الناصر ظهرت نظرية أن مدلكه كان يستخدم مرهم سام بطء (أيضا) يمتص عن طريق الجلد، وأن هذا هو السبب فى موت عبد الناصر، ولم يسأل أذكياء نظرية المؤامرة إذا كان المرهم هو مرهم سام، فلماذا لم يمت المدلك أيضا بتأثير ذلك السم؟!!، وأيضا عندما قتل الملك فيصل بيد أحد أعضاء الأسرة المالكة قيل أن هذه مؤامرة أمريكية إنتقاما لموقف فيصل فى إيقاف البترول عن أمريكا بعد حرب 1973، ولقد فكرت كثيرا لماذا لا يصح أن يمرض أو يموت الزعماء العرب ؟ والسبب بسيط أن معظم العرب يؤلهون زعمائهم بل ويضعونهم فوق الآلهة، وبالطبع الآلهة لا تمرض ولا تموت، وإذا مرضت أو ماتت فلا بد وأن هذا مؤامرة من آلهة آخرين !! إن وضع البشر فى منزلة الآلهة إنما هو كفر بالله سبحانه وتعالى، حتى الرسول نفسه وصف بأنه (ما أنا إلا بشر مثلكم)، ولكن العربان الذين لا يزالوا يعيشون فى عصر الجاهلية الأولى، يلزمهم أصنام وآلهة أخرى يعبدونها من دون الله .

وهذا يذكرنى بقصة (خالتى أم محمد) رحمها الله، وكانت سيدة قروية بسيطة لم تدخل مدرسة فى حياتها، وكانت تقول لى أنها كانت تنظر الى عمدة قريتها نظرة محاطة بالخوف والتقديس، حتى أنها سألت أمها عندما كانت طفلة: " صحيح ياأمى عمدة قريتنا بيدخل الحمام عشان يعمل زى الناس زينا كده!!"

[email protected]