مع الاعتذار من وديع الصافي ورائعته الخالدة: "لبنان يا قطعة سما، اسمك على شفافي صلا."
ليس ثمَّة من ذكرٍ في كتب التاريخ عن ارتقاء هولاكو إلى جبال لبنان أثناء مروره الهمجي والعاصف في بلادنا. ولكن، إذا انطلقنا من المثل الشعبي الذي تركه المغول في بلادنا: "من بعد حصاني لا ينبت حشيش."، يمكننا الجزم بما يقطع كلَّ شكٍّ أنَّ هولاكو قد مرَّ في جبالنا وتزوَّج وخلَّف وله أحفاد يرزقون. بل أنهم قد بزُّوا جدَّهم الأعلى في العمل على تنفيذ وصيَّته أعلاه. إنَّهم، لكي يقطعوا دابر الحشيش من بعد خيلهم، قرَّروا إلغاء الجبال وقطعها من وديانها. نعم إنَّهم أصحاب الكسَّارات الذين ما فتئوا يقطعون الجبال ويطحنونها هباء.
عدنا في زيارة إلى ربوع لبنان بعد غياب طويل ومررنا بقرب أحد ملاعب طفولتنا، قرية "زبوغا" الوديعة في واحدة من أجمل بقاع الأرض قاطبة، المتن الشمالي من جبال لبنان. إنَّها تقطن في أعلى جبل ينحدر انحدارًا سريعًا، بل شبه عاموديٍّ، إلى وادٍ يفصلها عن المتن الأوسط من جهة، وعن كسروان من جهة ثانية، فماذا شاهدنا! كتلة هائلة من الجبل قد اختفت، تبخَّرت، وكأنَّ ماردًا قد مرَّر سكِّينًا في قطعة من الزبدة وأزال ربعها.
لم يكن الحال هكذا بالقرب من قرية "زبوغا" فقط، بل كان الأمر كذلك بالقرب من مناطق تعتبر من أكثر المناطق غلاء في لبنان، في منطقة "ديك المحدي" و "أليسار" وسواها من مناطق المتن الشمالي. تلال كانت مزروعة بالصنوبر قد اختفت من الوجود، ولم يبق منها سوى حائط رملي عامودي يهدد الأشجار القليلة بالانجراف.
كيف ولماذا؟ هنا يأتي منطق هولاكو في تبرير الأمور. الأمر كلُّه "بيزنس" يفيدك أحد المستفيدين من الكسَّارات. ألاَّ تريد أن تزدهر صناعة العمار في لبنان؟ إذًا أنت بحاجة إلى حصى. من أين نأتي بالحصى؟ من الصخور. أين هي الصخور؟ في الجبال؟ تسأل بكلِّ براءة: "ولكن لماذا لا تزيلوا بعض الصخور، وتبقوا على الجبل؟" ينظر إليك نظرة مشفقة من غبائك. "يا أخي إنَّها أرخص بكثير حين نقطع الجبل من أوصاله، بالجملة أرخص من المفرَّق. وإلا كيف يمكن للناس أن تشتري بيوتًا؟" وتتابع: "ولكن الجبل، لقد اختفى! ماذا عمَّن كان يملكه؟" لقد فقد أرضه.
هنا تدخل في الفصل الثاني من علم الكسَّارات في لبنان. يشرح لك الخبير في الموضوع أنَّ صاحب الكسَّارة قد "استأجر" الأرض من مالكها لكي يقيم عليها كسَّارة. تسأل ما إذا كان صاحب الأرض يدرك مآل أرضه بعد الكسَّارة؟ ويأتيك الجواب، بأنَّ صاحب الأرض ليس بالضرورة من القرية نفسها. بل هو مالك "خارجي"، مثله مثل صاحب الكسَّارة يطلب الربح السريع. ويتبرَّع الخبير المدافع عن الكسَّارات وأصحابها، بأنَّ القانون اللبناني يلزم صاحب الكسَّارة بأن يعمِّر مدرَّجات زراعيَّة لا سيَّما في الأراضي الجبليَّة بعد أن يستخدم الأرض بما يحفظ البيئة وجمال الطبيعة ويمنع خطر الانهيارات. تسأل: "ولكن أين هي المدرَّجات." يأتيك الجواب هازئًا: "أيَّة مدرَّجات! حط بالخُرج، هذا مشروع يأخذ أجيالاً لكي يتم. ومن الآن لحينه، "إللي ضرب ضرب واللي هرب هرب."
يصفعك المشهد. مشهد الجبل المختفي، ومشهد شخص يدافع عن هذه الكارثة متجاهلاً أنَّه أخذ جبال لبنان دهورًا لكي تتكَّون. ولكن أحفاد هولاكو قد قضوا عليها في بضع سنين.
رحم الله من قال: "الوطن ليس إرثًا نرثه من آبائنا، بل قرضًا نستدينه من أبنائنا." لقد كان أوَّل ضحايا هولاكو.