العراقيون : هل يدركون ما العمل ؟

انقسام العراقيين
لا يبالغ اي عراقي ليقول بأن العراق واحد موّحد اليوم، فالانقسام الحقيقي يظهر واضحا للعيان، ومن المؤسف ان هناك من يؤيد الوضع القائم برمته وارجع لأقول : بان ما يحدث اليوم يعد ثمنا باهضا لابد ان يدفعه العراقيون لقاء زوال حكم الطاغية صدام حسين.. وهناك من لم يؤيد الوضع القائم ابدا مهما تغيرت الفرص وتبدلت الاحوال كونه يؤمن ايمانا حقيقيا بأن العراق تحت وطأة الاحتلال، ولا يمكن ان يرى العراق نور الحياة الا بخروج المحتل الامريكي البريطاني ومن يحالفهم.. وربما كان العراقيون وما زالوا يعيشون تحت وطأة الخوف والرعب الذي كانوا عليه لعشرات السنين.. فلا يمكن ان تقف على حقيقة اكيدة وموقف ثابت لأي عراقي الا الندرة القليلة.. واعرف من الكثيرين ما يعلن عكس ما يبطن، واذا ما سألته، اجاب بأنه يخاف على سمعته الشخصية من ان تلطخ بتأييد المحتل!
نعم، ان العراقيين اليوم منقسمون على انفسهم انقساما حادا، وانني اقرأ لما يكتبه البعض وما يتلفظونه ضد البعض الاخر!! لقد وصلت درجة الوقاحة الى الحد الذي يتمنى فيه البعض سحق مدن كاملة على رؤوس ابنائها كلهم! ويأتي آخر ليصف ابناء مدينة اخرى كذباب لابد من رشهم وابادتهم! وهكذا بالنسبة الى آخرين يبكون ضحايا طائفة دون اخرى! وآخرون من طائفة أخرى تلوم مرجعية اخرى باشنع الاوصاف! واستطيع القول بأن كلا من الاحتلال والارهاب كانا وراء هذا الانقسام الذي نتمنى الا يمتد ابدا، فهو اخطر ما يهدد العراق! ويجد الاخوة العرب في البلاد العربية ضالتهم ليخترقوا العراق والعراقيين من هذا الباب الذي لو فتح على مصراعيه لتمزق العراق اربا اربا.. واعلموا يا ابناء كل العراق بأن لا احد سوف يقف الى جانبكم وبعضكم يأكل لحم الاخر! انني اخاطب السنة والشيعة من العراقيين بأن لا يكتفوا بتبويس اللحى والاكتفاء بمظاهر ساذجة وخادعة كأن واحدهم يعشق الاخر في الظاهر.. وفي السرائر تختبىء مجموعة ضغائن واحقاد تعبر عن نفسها في ما يقذفه بعضهم ضد الاخر من السفاهة.. او ما يتناوله هذا الطرف ضد ذاك او بالعكس!

مخاطر ثنائية التوجهات
لم يحدث ان وجدنا شعبا في كل هذه الدنيا حتى وان كان مركّبا من قوميات متعددة وانقسمت دولته بعد ان توحدت مثل يوغسلافيا او غيرها قد وصل الحال بقومياتها ان تصفق من اجل الانفصال، فلا ادري كيف يمكن للبعض من العراقيين ان يثير مثل هذه الشعارات وهو لا يدرك ما الذي سيحصل عندما يفتقد العراق مقوماته في قلب هذه المنطقة الساخنة من العالم. ان الانقسام الاجتماعي اخطر بكثير من الانقسام السياسي، ولقد نجح زعماء عراقيون مثل صدام ومن سبقه كالبكر وعبد السلام عارف في زرع فجوات كبرى بين ابناء الشعب العراقي ، بل ونمت شرائح طفيلية بليدة التفكير وغريبة التصرفات لم يكن لها اي وجود ابدا قبل خمسين سنة لكي تغدو كتلا جماهيرية لها مصالحها الفئوية وتأثيراتها السيئة المستفحلة في المجتمع ولتزيد من تناقضاته الصعبة.
ان المجتمع العراقي اليوم منقسم على ذاته الى قسمين اثنين نتيجة التحول التاريخي الذي جرى على ايدي جيوش الحلفاء وسقوط النظام السابق، وكل قسم من هذين القسمين لا يمتثل لارادته في الايمان بتقرير المصير للعراق والعراقيين، بل ان كل قسم له عواطفه في الرجوع او الركون الى مصالحه والى ما سيجنيه من ربح او خسارة ليس الا.. ان هناك من وجد بغيته في تحرير العراق من صدام وطغمته من خلال الادارة الامريكية.. ولكن هناك من وجد نكبته في احتلال العراق من قبل جيوش غازية اسقطت صدام ونّصبت ( حكومة عميلة ) ( كذا )! وان هناك من وجد فرصته في تحسين حياته ومعيشته واساليب فكره واتصاله بالعالم بعد زوال الطاغية، ولكن هناك من وجد مصالحه قد فقدت وان مناصبه قد ذهبت ومكانته قد تبخرت وراحت عليه مكرمات ( القائد الضرورة )! وان هناك من وجد تاريخه يتحول بالكامل من رسالة قومية فاشية او عقائد مصبوغة بالصبغة الدينية ومن شعارات مثالية ودعايات كاذبة لحملات ايمانية.. وفجأة هناك من يجد بأن دمارا لحق بالكامل بهوية العراق القومية ورسالة الامة الخالدة ومن قائد ( فذ ) كذا الى ركب الاستعمار والصهيونية!
هذه التشظيات التي يعبر عنها انقسام في الثنائية العراقية بين متفائل بالوضع الجديد برغم كل الالام والانهيارات والدمار وبين متمرد متبرم من الوضع الجديد برغم كل ما تحقق للعراقيين من فرص جديدة في التحولات.. وكل من الطرفين لا يدركان بسبب انعدام الواقعية وبسبب اختفاء عراقيين قادرين على الاستجابة للتحديات سواء كانوا في المسؤولية ام في خارجها من اجل تجسير الفجوات بين العراقيين، بل ومن اجل تجسير الهوة بين الطرفين ورأب الانقسام ، ناهيكم عن تجسير الفجوة بين اهل الداخل واهل الخارج من العراقيين.. تجسير حقيقي يؤسس من خلال رؤية بعيدة المدى ليس لها من اهداف الا تحقيق مصالح العراق العليا باساليب بعيدة عن كل الخطايا، وان تتحقق النزاهة وتكافؤ الفرص واحتواء المجتمع العراقي ليس بالاساليب التي تربى عليها، بل اقناعه بمدى اهمية تقديم الاهم على المهم.. فاذا كان الامن مفقودا، فلابد من تكريس كل الجهد لتأمين هذا الجانب من دون اهماله على حساب مشروعات اخرى سياسية كانت ام اقتصادية ام غيرها.

مسألة الاعراق لابد ان يحترمها العراقيون
ومسألة الاعراق والقوميات والاقليات العرقية لابد لها من معالجات جذرية.. اذ لا ادري كيف لا يدرك البعض من القوميين العراقيين بأن العراق له خصوصياته التي ان لم يدركها العرب بعد لأنهم اعداء لما يجهلون، ولكن لا استطيع ان افّسر مواقف احزاب ونخب من العراقيين الشوفينيين الذين يتشدقون باسم القومية العربية في العراق وبرغم كل ما حدث في العراق على امتداد القرن العشرين من ردود فعل صعبة من قبل الاكراد وغيرهم ازاء السياسات القومية الشوفينية التي اضرت بمصالح العراق التاريخية، الا ان القوميين بمختلف اشكالهم ما زالوا لم يستوعبوا الدرس العراقي كونهم يقدموا اجندة الانتماء الى الامة العربية على هوية المواطنة العراقية وهم يدركون بأن تجارب سياسية وايديولوجية عديدة قد جرت في اطار الوحدة العربية وقد فشلت بين اقطار عربية عدة، فكيف يمكن ان نستخف بمسألة الاعراق في العراق ؟؟ ان العراق له تجاربه التاريخية العربية القومية التي برغم فشلها ايضا، فلقد كانت قد سببت له مشكلات ومعضلات لا تعد ولا تحصى ابدا لعل ابرزها خلق كراهية لا مبرر لها ضد العرب العراقيين من قبل الاكراد والتركمان والاثوريين.. كما تثبت الوقائع الجديدة بعد ان كانت هناك توازنات وانسجامات واختلاطات وزيجات وعلاقات اجتماعية متطورة بين مختلف الاعراق العراقية!
نعم، كانت هناك انسجامات رائعة في المجتمع العراقي في القرن العشرين لا تماثلها افتراقات سيئة في السياسات العراقية وخصوصا في العهود الجمهورية المختلفة عندما ازداد تأثير المواقف الشوفينية من قبل الساسة القوميين العراقيين والتي كانت تذكيها اطراف متعددة عربية وخارجية.. لقد عصفت الاقتتالات بالاخوة العراقية العربية الكردية منذ ان اعلن العصيان المسلح في مطلع الستينيات وقابلته سياسات حكومية بليدة وصلت الى اعتى همجيتها بضرب مدينة حلبجة بالاسلحة الكيمياوية في نهاية الثمانينيات لتشّكل سابقة خطيرة في تاريخ العراق ليس في الصراع بين قوميتين او حرب بين الاعراق بل في قتل دولة لمواطنيها العزل وقتل نظام لابناء مجتمع وباسلوب همجي لم يدان الا بعد مضي عدة سنوات من قبل المجتمع الدولي!

بين الواقع واللا واقع
وسواء كانت الاعراق العراقية قد تأججت لتصبح عند ذروتها ردود فعل عنيفة ضد من استخدم شعارات وادوات وآليات في الشوفينية العربية، فان تجارب الصراع العرقي لابد ان تكون درسا لكل العراقيين في ان يؤسسوا لهم تاريخا جديدا تمثله الشراكة والتعايش والحقوق.. وان متطلبات كهذه تمنحنا القدرة على ان يفكر العراقيون جميعا وكل القوميين الشوفينيين معهم بأن الاعراق في العراق والاكراد في مقدمتهم يعترضون اليوم اشد الاعتراض على اعتبار العراق جزءا من الامة العربية.. وبرغم جسامة مثل هذا الطلب، ولكنني كعربي عراقي لابد ان افكر بمصير العراق قبل ان ابحث عن وجود الامة، فالعراق واقع وتاريخ وحضارة وجغرافية وخصوصيات ومصالح عليا له ثقله الدولي.. اما الامة العربية فوجودها الحقيقي في مخيلتنا وثقافتنا ولغتنا ومسلسلاتنا التلفزيونية.. وهي البعد الاخر من مصالحنا التاريخية. ان العروبة مبدأ اصيل له مقوماته عبر تاريخ طويل والعراقيون كلهم لا ينكرون العروبة ابدا لأنها نسغ دائم في الحياة ولأنها قديمة في العراق.. ولكن العروبة ليست هي المشكلة الحقيقية، انها مشكلة القومية العربية التي لا تدرك المعاني الحقيقية للعروبة.
ان مشكلات عدة معّلقة اليوم او انها ستثار في يوم غد حول ما يمكن ان تثيره مسألة الاعراق.. وبالرغم من جبروت صدام حسين ووسائله المتنوعة في التطهير العرقي لخنق القومية الكردية خصوصا على حساب وهم ( الامة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة ) وبعد ان وظف الانقسامات الكردية توظيفا مازوشيا مقيتا.. فاننا اليوم كعراقيين عربا واكرادا واعراقا اخرى، لابد ان نرتفع بتفكيرنا ونرتقي من حالات التبسيطية والهشاشة والاوهام ويوتوبيا اللاواقعية لنرى اين تكمن مصالحنا العراقية الوطنية المشتركة في محيط اقليمي لابد من استيعاب العراقيين لمكامن الاخطار فيه واستعادة العراقيين لتجارب الامس على العهدين الملكي والجمهوري من اجل فتح تاريخ جديد للعراق الذي يعتبر البلد الوحيد ضمن المنظومة العربية تحده اكبر دولتين اقليميتين كبيرتين مثل تركيا وايران.. وعلى العراقيين ان يقرأوا تاريخ العلاقات الاقليمية للعراق بين كل من هذين الطرفين بعيدا عن وهم الامة العربية التي.. فلا يمكن للاخوة المغاربيين ولا للاخوة في وادي النيل وبلاد الشام ولا للاخوة في الجزيرة العربية ادراك مثل هذه التعقيدات التي تحف بالعراق اقليميا!! ان واحدا من اخطر الاسباب في اثارة النزعات الطائفية في العراق اليوم يعود الى حجم ما يمارسه طرفان اساسيان، احدهما يختفي وراء دعاوى السنة العراقيين، وثانيهما يختفي وراء دعاوى الشيعة العراقيين.. واعتقد ان كلا من هذين الطرفين يعيشان وهما وسذاجة.. اذ لم يعرف تاريخ العراق الحديث عبر قرون من الزمن اي صراع طائفي في العراق.

اسجّل للتاريخ
وانني اذ اكتب هذه " الرؤية " اسجل للتاريخ، انه ان بقيت النوازع الطائفية والانقسامية مكرّسة ضمن اي عملية سياسية في العراق، فسوف لن تكون هناك اي فرص سانحة لتقدم العراق واستقراره سواء بوجود الاحتلال ام بوجود طوائف وملل ونحلل لا تعرف لماذا تتنازع فتذهب ريحها.. ان ابرز ما يتطلبه الوضع اليوم ان يتم التنازل عن التعصب الديني والغلو الطائفي المستحكم لدى البعض من الطرفين، وليكن الدور للاكفأ والانظف والاذكى من النسوة والرجالات والنخب والجماعات.. من دون ان يقّيم كل هؤلاء على اساس الانتماء والطائفة والعرق واللون والمكان.. انه مؤهل ما دام عراقيا لا يأبه الا لهويته وانتمائه العراقي اولا واخيرا.. وليعلم العراقيون بأن مجرد الاعلان الوهمي عن الاخوة العراقية ونفي صراع الاضداد ما هو الا عملية ساذجة يضحك فيها احدهم على الاخر، فالامر بحاجة الى الاندماج الحقيقي ودفاع عن كل العراقيين.. انها مشكلة اجتماعية قبل ان تكون سياسية ولابد للساسة العراقيين الجدد الترّفع عن النزعة الطائفية، ولا يقنعني كائنا من كان ان اي حزب ديني في العراق ليس له اجندته الطائفية لكل من الطرفين السنة والشيعة.. ولكن ما لايمكن فهمه ان يكون هناك حزب علماني كما يعلن وهو ينسق باسم منظومة طائفية!!؟؟ فلماذا نكابر ونحن ندرك بأن النتائج ستكون وخيمة على كل من الطرفين، وان لم تكن كما يريد البعض من غلاة الطرفين، فان العراق هو الخاسر الوحيد لكيانه التاريخي الذي عرف منذ العصور الكلاسيكية الاولى.

هل من مشروع عمل ؟
ثمة مشروعات ودعوات لا حصر لها يطرحها مختصون لهم باعهم في الشأن العراقي، ولكنها تفتقد دوما مسوغاتها بفعل عقبات يضعها البعض ممن لا تستقيم تلك المشروعات او الدعوات مع مصالحهم واهدافهم وغاياتهم ولحاجات في انفسهم.. وكثيرا ما يتهم اصحاب تلك " المشروعات " او " الدعوات " بتهم خطيرة في العرف العربي التعصبي الشوفيني وما لديه من تقاليد ومهارة في هذا الباب.. وسرعان ما يقصى اصحابها وتهمّش رؤاهم وكثيرا ما تغدو تلك مشروعات ودعوات خصبة في عهدة النسيان بعد ان تشوّه صورتها تشويها كاملا.. وهذا هو الذي جعل كل الامم المتخلفة لا يستقيم فيها الحال ويكثر فيها اصحاب العاهات والبلداء والمشوهين والجامدين والمتكلسين والمقلدين والتنابلة والمنافقين والكذابين ويختفي منها الشرفاء والنزهاء والاصحاء والقديسين.. ان ثمة مدخلات سهلة الى موضوعات التخلف والبلادة.. ولكن يا لصعوبة المخرجات منها.. انها دوامة من التناقضات التي لا اول لها ولا آخر بحيث تغدو المسائل فيها اشبه بكوميديا ساخرة غريبة الاجناس.. وترى الناس فيها باشكال مختلفة والوان متعددة وهم يحملون فوضى من الافكار والقيم لا تستقيم والمنطق في كثير من الاحيان! وتجد التأويلات والتفسيرات والادعاءات لا حدود لها ابدا وهو جزء من منهج هروب ذاتي من الموضوعات التي تجابه اصحابها بالمعلومات الدامغة التي تصطدم عادة بكل ما يحفل به المجتمع من تقاليد بالية متردية لا تستقيم والحقائق والظواهر ذات الامكانات التطبيقية.
ان الاسطرة وعبادة النصوص والتراص مع التقاليد العتيقة كلها تجعل مهمة التجديد واعادة التفكير مهمة مستحيلة ونادرة، وهذا كله ما يسهل تسويق الاكاذيب والاوهام والاخيلة على حساب الاعجاب بالواقع الكسيح ومهما كان فيه من الفساد والظلم والبلاء والفجائع والخراب والدمار والتخلف والتوحش.. فان الارتقاء من خلال الاصلاح والتغيير والتبديل ما هو الا عملية صعبة جدا بحاجة الى منهج من القطيعة وغسل التفكير وتغيير الاذهان.

الوصايا : حاجتنا الحقيقية نحن العراقيين
انني اقول بأن العراقيين بحاجة الى غلاسنوست حقيقي وشفافية في ان يعلن كل طرف ما يريده من الطرف الاخر من دون المساس بمشاعر الاخر وان يعلم الجميع بأن التراب الواحد هو الجامع المانع بين كل الاطراف.. ان مجرد استخدام اساليب الهمز واللمز والباطن والاختباء وراء قشور او سلطات او احداث او عناصر من دون مكاشفة ولا شفافية ولا مصارحة.. فان كل ما يطمح اليه العراقيون سوف لن يتحقق البتة. ان العراق والعراقيين بحاجة ماسة الى اجندة عمل سياسية وفكرية في مؤسساتهم وبرامجهم ومناهجهم واعلامياتهم واساليب حياتهم بعيدا عن اي وازع من صراع الاضداد. ليعتزوا بانتماءاتهم مهما كانت في دواخل مجتمعهم ومدنهم واريافهم.. ولكن ليبعدوا كل من الدولة ومؤسساتها والنظام السياسي والدستور ( = القانون الاساسي للبلاد ) عن اي انتماءات طائفية او مذهبية او دينية واي اي محاصصة طائفية ليتفاهم كل العراقيين على قواسم مشتركة في المبادىء لا في التطبيقات من اجل ان لا يجر هذا بطرف والاخر بطرف اخر.. انني اعيد واكرر منذ سنوات خلت بأن لا حياة للعراق والعراقيين من دون اساليب مدنية وقوانين مدنية واحزاب مدنية ووسائل مدنية وادوات مدنية وعناصر مدنية وسياسات مدنية.. الخ لا اطلق عليها بالعلمنة التي يتكهرب منها البعض، بل اسميها بالاهلنة التي تقطع الطريق على كل الانتماءات التي يريدها البعض بديلا عن الانتماء الوحيد.. الانتماء للعراق. واذا كان هناك من العراقيين اليوم من غدا يكره العراق واسم العراق نتيجة ما تحمله من اعباء وبلايا ومآس.. فلا يمكن ارسال هؤلاء الى مصحات عقلية كما يتبجح البعض من المعقّدين، بل انهم بحاجة ماسة الى حكومة عراقية نظيفة وقوية تعمل جهدها الى بناء دولة جديدة وارساء نظام سياسي جديد يحقق للمجتمع اهدافه وتطلعاته وحاجاته وطموحاته..
لقد اوضحت لنا التجارب وكما يطلعنا عليه واقع العراق اليوم بأن اي انتماء خارج عن سياق العراق والدفاع عن كل شبر فيه والاعتزاز بكل شبر فيه والتحرك في كل شبر فيه والتلاحم من خلاله بكل انسان في مكانه في هوره وكردستانه.. في فراته الاوسط وجزيرته الفراتية.. في جباله ووهاده.. في سهوله ووديانه.. بين نهريه العظيمين شريانيه الازلييين.. تحت ظلال نخلاته وبساتين برتقاله.. في بطائحه وصحرائه الخ سوف لن يقّدم شيئا من حياته المأساوية التي نشهد فصولها اليوم.. والخوف كل الخوف من ان يتحول الصراع الى حرب شرسة بين الاهل من طوائف واحزاب واطراف في مدن معينة تأخذ طريقها الى مختلف الجهات لا سمح الله.. ان كل عراقي اليوم مدعو الى ان يحافظ على الاخر وان لا يكون اخيه مشروعا مباحا للقتل! ان كل عراقي اليوم مدعو الى ان يدرك بأن ما حصل من تحولات تاريخية تحصيل حاصل ولا يمكن ارجاع عقارب الساعة الى الوراء..

ما العمل ؟؟
لا اريد ان أوجه كلامي الى الامريكيين الذين كان لهم دور تاريخي في تحولات العراق الصعبة.. ومن طرف آخر كان لاخطائهم القاتلة وممارساتهم الفجة آثارها المأساوية على العراق.. ليس لأنهم لا يدركون ما يفعلون، بل لأن الكلام العراقي لا ينفع معهم، او قل لأنهم لم يسمعوا او يستمعوا ابدا للعراقيين.. وهم بتجربتهم في السيطرة يختلفون عن الانكليز في العراق المحتل ايام الحرب العالمية الاولى وحتى تأسيس الكيان العراقي، ولا يمكننا ابدا ان نشّبه برسي كوكس – مثلا – بـ بول بريمر في تجربتيهما.. ولا اريد عقد مقارنة تاريخية بين التجربتين اذ انه من المؤكد ان اختلافا جذريا قد تشكّل بين الاثنين وسيقف المؤرخون في المستقبل لدراسة هذا " الموضوع " كي يكتشفوا الاسباب الحقيقية التي جعلت من العراق مرتعا للارهاب. اننا نأتي الان لنسأل : ما العمل ؟
على الرغم من اختلاف اساليب الحكومة المؤقتة عن ذاك الذي اتبّعه مجلس الحكم والذي قام على اساس المحاصصة الطائفية كي تتفجر الاوضاع بشكل عنيف.. ان انجع وسيلة لاستقرار الوضع هو كيفية ادارة الازمات العراقية مستقبلا من قبل اناس لهم نزاهتهم وصراحتهم والتصاقهم بشعبهم وشفافيتهم وتقديم مصالح العراق فوق كل شيىء وان يكونوا فوق الميول والاتجاهات لا اطماع لديهم ولا ترّفع عندهم، يخلصون لكل ترابهم يجمعون ولا يفرقون يسمعون ولا يخطبون، يعملون ولا يتقولون.. يؤمنون بسيادة القانون.. يعترفون بالاخطاء امام الجميع لا يواربون ولا يخادعون ولا يتكبرون.. اناس يضعون العراقيين فوق الاكف ويكون العراق عندهم فوق كل الانتماءات.. يعملون على خلق الانسجامات في النسيج العراقي ولا مصالح شخصية ولا انوية ولا عشائرية ولا جهوية ولا قبلية ولا طائفية ولا عرقية ولا دينية.. يحاسبون انفسهم قبل الاخرين وينقدون تجربتهم قبل ان يتناولهم الاخرون.. يعملون ليل نهار من اجل سيادة العراق واستقلاله السياسي.. زعماء عراقيون جدد لا علاقة لهم بموروثات وترسبات القرن العشرين.. ان خلق آليات عمل يمارسها العراقيون جميعا من خلال نظام يقوم على القطيعة بين الدولة والمجتمع وبين السياسة والدين وبين الطائفة والسياسة.. ولابد لأي حكومة عراقية قادمة ان تأخذ بمبدأ " خذ وطالب "، وان يكون هناك جدولة ومقاييس لكل الحالات، وان يكون هناك تطبيقا كاملا للاحكام والعقوبات وفرض السيادة..
ان العراقيين جميعا بحاجة الى وعي جديد في تقييم الاوضاع وان تهدأ الخواطر وان يعتنوا بالقانون من اجل ضبط الحياة وليس احوج للعراقيين اليوم من استعادة التكوين المعرفي بتطوير الاجهزة العلمية والجامعات ونشر الالاف المؤلفة من المدارس ونقل التفكير والوعي العراقيين من انساق الماضي الى رؤى المستقبل.

واخيرا : ما الذي نخرج به من دراستنا ورؤيتنا للعراق والعراقيين ؟
ان شعبا مثل العراقيين الذين حاولنا ان نقدم صورة بانورامية عن خصائصهم وخصالهم وتأثير تواريخهم وجغرافياتهم في تكويناتهم وانتماءاتهم منذ عراقتهم اللكلاسيكية القديمة حتى اليوم يمنحنا الثقة بأن العراق والعراقيين ليس من السهولة ابدا تخفيف حدة التحديات عنهم او تجاهلها ازاءهم.. فضلا عن ان العراق والعراقيين اصبحوا هم بالذات اصحاب مسألة كبرى تشغل كل العالم بها.. ومن التواضع ان اقول بأنني قد توقعت قبل قرابة اربع سنوات وعند نهاية القرن العشرين بان العراق تنتظره مسألة تاريخية كبرى في القرن الواحد والعشرين على غرار المسألة الشرقية في شرقي اوربا ابان القرن التاسع عشر او على غرار مسألة تصفية المستعمرات في القرن العشرين.. ان العراقيين بكل ما يحتوونه اليوم من اثقال يرفعونها على اكتافهم سيواجهون تحديات صعبة وضغوطات اصعب على امتداد السنوات القادمة خصوصا اذا ما علمنا بأنهم يمرون اليوم بتحولات تاريخية لم يمر بها اي بلد مجاور للعراق في المنطقة. ان العراق هو البلد الوحيد في منطقة الشرق الاوسط الذي افتتح النظام الدولي الجديد اوراقه فيه وبدأ اجندته الصعبة بالمسألة العراقية التي ستشغل العالم لسنوات اخرى.
انني اخاطب في دعوتي الصريحة هذه كل العراقيين والعراقيات سواء كانوا في دواخل العراق ام اولئك الذين توزعهم الشتات، بأن يقرأوا الواقع العراقي الصعب قراءة جديدة، وان احتلال العراق هو الذي لم يقض على نظام صدام حسين السياسي حسب، بل قضي على تاريخ دولة العراق المعاصرة التي نشأت قبل اكثر من ثمانين سنة.. وان تكيفهم مع هذا " الواقع " سلبا ام ايجابا لا يمكن له ان يتم بمعزل عن تأسيس مشروع عراقي باستطاعته ان يرجع للعراق سيادته المنقوصة وكامل استقلاله.. وهذا لا يمكن ان يتم من دون غلاسنوست عراقي يؤهل المجتمع توافقيا ويجعلة متفقا على حدود دنيا من المبادىء والقيم الحضارية العراقية.. من اجل العمل على اعادة بناء العراق الحضاري ومؤسساته المتطورة الجديدة.

[email protected]