الصديق الشهير د. فيصل القاسم، صاحب المقالات النارية، والبرنامج الفضائي الذي استمد شهرته من نجاحه في مخاطبة الجماهير العربية، بالأسلوب والطريقة التي تستهويهم، طريقة صراع الديكة المشهورة، وإن كانت عروض صراع الديكة تقوم على طرفين يفترض تساويهما في القدرة والرغبة في النقر أو التناطح، لكن أخونا فيصل اتبع سنة أخرى، ربما أعطت لبرنامجه نكهة محببة لدى جماهيرنا الغوغائية المناضلة، وهي ملقاة على الأرائك أمام أجهزة التليفزيون، التي ابتدعها الغرب الكافر، فهو يأتي للحلبة بصقر يصارع حمامة.
الصقر دائماً هو عروبي مقدام، يتصادف أن يكون في أحيان كثيرة عظيم الجثة، منتفخ الأوداج، جهوري الصوت، تندفع الألفاظ من فمه المناضل كما القنابل زنة الألف رطل، يغترف من قاموسه التراثي الهجائي الكاسح، كما مد تسونامي، الذي تعرفنا عليه أخيراً، قذائفه الشتائمية جاهزة على طرف لسانه تتحرق للانطلاق، في وجه كل سيئ حظ يوضع أمامه، هو لاشك ابن هذه البيئة العربية، ابن تلك الصحاري التي لا علم فيها ولا ماء، ويتصادف أيضاً أن يكون اسمه أو اسم أبيه أو جده، صدام أو صداع أو جزاع أو عدوان أو الضاري أو أبو لهب أو أبو جهل وما شابه، عندها يكون اسماً على مسمى، ويكون قد حاز جميع الصفات والمواصفات، التي تجعل جماهير استفتاءات الجزيرة المصاحبة للبرنامج، تأتي دائماً في صفه، هذا ما لم تكن بفعل فاعل حاذق، أو ساذج يستغل سذاجتنا!!
والحمامة غالباً كائن ليبرالي عقلاني مهذب، تخلص من طبائع قومه وجلافتهم، إن كانوا من العرب الأقحاح، أو برأ مما أصاب أخلاقهم وطباعهم من تصحر، من جراء تفشي البداوة، إن كانوا من أمم الحضارات القديمة التي تم اغتيالها، وتم غزوه ثقافياً، فاستعذب طعم الحرية، وانبهر بالعلم ومنجزاته، واستدرجه المد الديموقراطي إلى لججه، ففرد قلوعه ورحل، بجسده أو بفكره، ويأتي صاحبنا إلى برنامج صديقنا فيصل، وهو مسلح بعقله النقدي، وقدرته على التحليل المنطقي العلمي، وبملف غالباً ما يحوي أرقاماً ومعلومات عن موضوعه وعن المنطقة، ظناً منه أن هذا يمكن أن يكون معيناً له، في موقعته مع الصقر العروبي منتفخ الأوداج، فقط أثناء المناظرة، بل قل المناطحة، يكتشف أنه لا يمتلك أياً من صفات أو مقومات المنازلة، ويجد - لكن بعد فوات الأوان - أنه قد دخل الفخ بقدميه، وصار كالحمل في ساحة الذئاب.
وإحقاقاً للحق لم يشذ عما أسلفنا، إلا الحلقة التي استضافت المفكر الليبرالي الشاب د. خالد شوكات، والذي واجه بقوة إعلامياً موريتانياً طريفاً، تصدر خطابه الحديث عما أسماه القائد المناضل صدام حسين، فحرق نفسه بنفسه، وتولى الباقي مفكرنا الليبرالي، لكن هذه الحلقة - وربما هناك مثيل لها لم ننتبه إليه - من قبيل الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
من حيث الشكل، ليس لنا ما نعيبه على د. فيصل القاسم، فبرنامج "الاتجاه المعاكس" ليس العرض الوحيد الذي يتعامل مع النوازع البدائية العدوانية للإنسان، أي إنسان، حتى الأكثر تحضراً، ناهيك عن إنساننا الشرقي، الذي تحتل تلك النوازع ليس عقله الباطن فقط id، وإنما أيضاً الأنا ego، بل وزحفت إلى الأنا العليا supper ego، التي هي الضمير، بفضل الخطاب والأيديولوجيات الدموية الرائجة، فعروض المصارعة الحرة، التي يحضرها الآلاف، ويشاهدها الملايين على شاشات التليفزيون، وأفلام العنف المبالغ فيه أحياناً، بل وعروض مصارعة الثيران، التي يصارع فيها الإنسان حيواناً، أمثال هذه العروض ليس من الصحيح أنها تروج للعنف كما يقولون، بل العكس، فهي تفرج شحنات العنف البدائية، التي كبتتها الحضارة، وتحتاج لتصريف، حتى لا يؤدي تراكمها، إلى انفجارها في شكل أعمال عنف حقيقية على أرض الواقع، سواء في تعاملات الإنسان اليومية الخاصة، أو بالقيام بأعمال إرهابية إجرامية على مستوى أوسع.
المشكلة هي في المضمون، فعروض العنف التي ذكرناها – باستثناء المصارعة الحرة الخالية من المضمون- تقوم على أساس صراع بين طرفين، يمثل أحدهما الخير والآخر الشر، لتنتصر في النهاية قيم الخير والمحبة والسلام، وتندحر قوى الشر والكراهية والقتل، ورغم أن ما يهتم به ويركز عليه مشاهد هذه العروض هو شكلها وليس مضمونها، أي مشاهدة العنف والعنف المضاد، وليس تلقي المواعظ، إلا أنه يجد نفسه ومع توالي أحداث العرض يتعاطف مع الجانب الممثل للخير، ويتوق للقضاء على الشر المسبب للعنف، وتكون النهاية السعيدة في العرض اندحار الشر، وفي نفسية المشاهد التفريج عن الشحنات المكبوتة، والسعادة بانتصار قوى الخير والمحبة.
عكس هذا تماماً هو ما يحدث في برنامج "الاتجاه المعاكس"، فجمهورنا الشرقي ذو العقلية الشفاهية غير النقدية، غالباً مع يعجز عن التقاط أي مقولات منطقية، ينجح الطرف الليبرالي في تسريبها خلسة، في خضم الشتائم والاتهامات التي تنهال عليه من الطرف العروبي الصنديد، وإذا ما أضفنا إلى ذلك أن الطرف الممثل للشر villain يخاطب الجماهير بالمقولات الرائجة لديهم أصلاً، تكون النتيجة النهائية لمضمون الرسالة التي تصل المشاهد من هذا البرنامج، هي تفوق وانتصار الغوغائية والكراهية والعداء للآخر، ولكل ما هو متحضر وإنساني.
هنالك أيضاً إشكالية فرعية، هي أن كل من يعرف د. فيصل القاسم، ولو بقدر معرفتي به، عبر التليفون والرسائل الإلكترونية، ربما يوافقني أن الأمور محسومة في ذهن الرجل، باتجاه الليبرالية، أو بتعبير آخر أنه مقتنع بأن الليبرالية هي الحل، لكل ما يكتنف واقعنا المتردي من إشكاليات، ومع ذلك فهو لا يدخر جهداً لتشويه الليبرالية ورموزها، وكل ما تخرج به منه إذا ما عاتبته، قوله أنتم ليبراليون، تتسع قلوبكم وعقولكم لكل شيء، ولستم مثل الآخرين، ربما هذا سبب كاف في نظره، ليفعل كل ما نشاهد!!
من الطبيعي والحالة هذه أن نتساءل:
•من أي قاعدة أو أرضية ينطلق الرجل، وإلى أين يتجه، أو إلى ماذا يهدف بالتحديد؟
•هل كل ما يهدف إليه هو شهرته وجماهيرية برنامجه، وجماهيرية القناة التي تبثه، وبأي ثمن، ولحساب أي فكر وخطاب، يحقق الهدف الأساسي؟!
•أم ترى أنه يعمل على تسلل الأفكار الليبرالية إلى الجماهير العريضة، ولو كانت محاطة بأكوام من القش والشتائم والخزعبلات، بمنطق أن حسبنا في الظروف الحالية، وفي ظل اجتياحات الاتجاهات السلفية، أن تعرف الجماهير أن هنالك آراء أخرى، تختلف جذرياً عما تؤمن به، تمهيداً لمرحلة قادمة أكثر تطور اً، تستطيع الليبرالية فيها أن تقف على قدميها، وتفتح عيون الجماهير على حقائق العصر وقيمه؟!
ربما هنالك احتمالات لمنطلقات وأهداف للرجل لم نتطرق إليها، وربما تفضل هو علينا بتوضيح ما التبس أو اختلط، وفي انتظار هذا إن حدث، أهمس بكلمة أخيرة، في أذن صديقي المفكر والمذيع اللامع والموهوب د. فيصل القاسم:
ما رأيك في استغلال مواهبك، والإمكانيات المتاحة لك، لما فيه صالح حاضر ومستقبل قومك؟

[email protected]