التحدي الذي يواجه عرفات وسلطته الآن، تحدٍ من نوع جديد لم يعهده الختيار من قبل، فهو ليس من المعارضة الفلسطينية اليسارية، ولا من الإسلاميين الذين يرفضون زعامته، ويرفضون طروحاته وأساليبه، ويقفون له بالمرصاد، بل هو من قلب الحزب الفتحاوي العرفاتي، ومن فصيل الشباب المقاتل فيه (كتائب شهداء الأقصى) التي كانت تعتبر عرفات قائدها وقدوتها ومثلها الأعلى ورمزها.
عندما قال تيري لارسن قبل أيام في تقريره الشهري أمام مجلس الأمن أن الأوضاع في الأراضي الفلسطينية لم تعد تُحتمل، وأن الفساد قد استشرى وأنهك البلاد، وأكل الأخضر واليابس، وسمم حياة العباد، وأن السلطة الفلسطينية بقيادة عرفات قد فشلت فشلا ذريعا في قيادة شعبها، وحطمت حياتهم وآمالهم، كما فشلت في التعامل مع الأصدقاء والأعداء، وأنها على وشك الانهيار.
عندما قال لارسن ذلك غضب الختيار وأركان حربه غضبا شديدا، وأوعز إلى مستشاره المفضل أن يقول بحق الرجل ما قال، من أنه عديم الأهمية، لا يعي ما يقول، وأنه غير مرغوب به على الأراضي الفلسطينية، وكاد أن يتهمه - إن لم يكن قد فعل ذلك ضمنا - بالعمالة لإسرائيل لولا مواقف الرجل المعروفة جيدا، المؤيدة للقضية الفلسطينية والمناهضة للاحتلال الإسرائيلي. كما أوعز لغيره أن يصرح باسم كتائب شهداء الأقصى بمثل ما صرح به المستشار، ولكن بلهجة عسكرية مقاتلة. ولم تكد تمضي على تصريحات لارسن بضعة أيام حتى ثبتت توقعات الرجل ورؤيته.
كلما ارتفع صوت ناقد يطالب بالإصلاح والقضاء على الفساد ومحاسبة اللصوص والمرتشين والفاسدين، انبرى له هؤلاء المستفيدون المفسدون ووبخوه وأنبوه واعتقلوه وعذبوه واتهموه، بحجة أن التناقض الرئيسي، والمعركة الرئيسية، هي مع إسرائيل، وكل صوت يعلو على صوت المعركة هدفه حرف النضال الفلسطيني عن وجهته الحقيقية.
لقد أصبحت القضية الفلسطينية على مدى أكثر من خمسين عاما، البقرة الحلوب التي درّت وتدر على من (سبوها) ويدعون ملكيتها ورعيتها، آلاف الملايين من الدولارات، جميعها في حسابات شخصية في بنوك أوروبا وسويسرا، يورثونها لأبنائهم، ويعيشون في قصور، ويبنون القصور، بينما يتضور الشعب جوعا. وأصبحت إسرائيل المشجب الذي يعلقون عليه سرقاتهم وانتهاكاتهم وقمعهم وفسادهم وبقاءهم، وتهمة العمالة لها، الخنجر الذي يسدد لصدور الشرفاء المطالبين بالإصلاح والحق والعدل.
لم يعد الشعب الفلسطيني قادرا على تحمل الأوضاع المزرية التي أوصلته إليها قيادته الهرمة، بعد أن كتمت أنفاسه، وأدخلته في نفق طويل شديد الظلمة، لا أمل له بالخروج منه، طالما بقيت هذه القيادة رابضة على صدره، تصادر أحلامه وآماله وأمواله، منذ حوالي أربعين عاما حتى الآن، والتي كانت آخر منجزاتها استجرار الاسمنت المصري، وبيعه لإسرائيل لإقامة الجدار العازل، الذي يدّعون محاربته أمام الناس، ويملأون خزائنهم من أرباحه في السر.
إن الشعب الفلسطيني يعيش هذه الأيام أسوأ أيام حياته، وبشكل خاص في غزة الجريحة المقاتلة الصابرة، فالبطالة ضربت كل البيوت، والجوع والفقر والمرض يفتك بالناس، والذهاب للمدارس معاناة، والبلطجيون يأخذون القانون بأيديهم، والقضاء مغيب، ينخر الفساد والسوس في عظام رجالاته، والحق لمن يدفع أكثر، والأمان مفقود، ورجال الأمن يتصارعون لمصلحة أسيادهم، والأفق مسدود.
لقد طالب العالم أجمع بمن فيهم مصر والدول العربية بالقضاء على الفساد، وإجراء إصلاحات في السلطة الفلسطينية، وأوقفوا مساعدتهم المالية بعد أن تأكدوا من ذهابها لجيوب السادة – الذين لم يعودوا قادرين على إخفاء الشمس بالغربال - بدلا من أفواه الفقراء. لكن السلطة الفلسطينية عاجزة، بل غير راغبة في القضاء على الفساد، وإجراء أية إصلاحات، لأن في ذلك مقتلها.
لقد حول الرئيس عرفات قضية حصاره في مقره إلى حصار للشعب الفلسطيني كله، وجعل منها الهم الرئيس، والمطلب الأول للفلسطينيين، وعلى رأس جدول الأعمال في كل اجتماع محلي أو عربي أو إقليمي أو عالمي، وفي كل مفاوضات.
إن ما يحدث في غزة اليوم، وغدا في الضفة الغربية، هو انتفاضة داخل الانتفاضة، ولم تعد اتهامات السلطة بأن ذلك يصب في مصلحة العدو، ويخدم سياسته، يلقى آذانا صاغية، فقد ملت الناس سماع هذه الاسطوانة القديمة المشروخة، بعد أن أدركت الدوافع والمصالح الشخصية الخبيثة لهكذا أقوال واتهامات. والسؤال هل يمكن القضاء على هذا التمرد؟
قد يكون قصف الطائرات والمدفعية، ودخول القوات الإسرائيلية إلى قطاع غزة بحجة البحث عن الأنفاق والمقاتلين الذي اعتادت إسرائيل على ممارسته ضد المنازل والممتلكات والمواطنين، أفضل وأسرع طريقة لإيقاف هذا التمرد ضد الفساد ورموزه في السلطة الفلسطينية التي يتزعمها السيد عرفات، إذ تخلو الشوارع، ويلزم الناس بيوتهم، مما يسهل على رجال الأمن إياهم ممارسة عملهم، وفرض سيطرتهم، واعتقال المعارضين لهم، وإسرائيل لا تحتاج لذريعة للتنكيل بالناس، إلا أن إجراء عملية من نوع ما، وذات وزن معين، قد يحرض إسرائيل على الإسراع في القصف ودخول غزة، فهل يتبرع أحد الشباب بتأدية هذه الخدمة، ويفجر نفسه هذه المرة، كرمى لبقاء السلطة، وعيون عجائزها؟
[email protected]