قرأت مقال فرنسوا باسيلي في مدارات "القدس العربي" بعنوان "التدين قناع للفساد واللامعقول هو المنطق والأقباط عورة" بتاريخ 30/6/2004، وضح فيه باسيلي حالة مصر الراهنة خلال زيارته لمصر منذ فترة وجيزة، ناقش باسيلي فكرة هامة وهي "تناقض الدين والفساد"، حيث وضح أن المصريين الآن وبتأثير من الإخوان المسلمين عضوا بالنواجذ على قشور الدين وفرطوا كل التفريط في جوهره، ركزوا على مظاهره من إطالة اللحى ولبس الجلاليب والحجاب وتعليق الآيات القرآنية في كل مكان، ونجد المصحف المرتل يتلى ليس فقط في التاكسيات بل أيضاً المواصلات العامة، وهذا ليس دليل إيمان كما وضح باسيلي، بدليل أنها لم تقض على الفساد المنتشر والمستشري في كل طبقات المجتمع، بما في ذلك داخل جماعة الإخوان المسلمين، الذين هم كما قال عنهم مؤسسهم الأول حسن البنا، ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين، وذكر فرنسوا أن جريدة الأهرام نشرت إحصائية تشير إلى أن حالات الفساد الإداري التي يتم ضبطها قد ارتفعت من مئة حالة سنوياً منذ بضع سنوات إلى ألف حالة سنوياً اليوم، أي أنها تضاعفت عشر مرات. فلماذا لم تمنع كثرة اللحى والجلاليب وانتشار الحجاب، والآيات المعلقة تقريباً في كل الشوارع وفي مداخل كل البلاد تقريباً إلى منع الفساد؟ لماذا لم تمنع آيات القرآن التي تتلي في جميع المواصلات بما فيها الخاصة الذمم من الرشوة وانعدام الضمير؟الإجابة بسيطة جداً، ووردت في مقال باسيلي، وهي أن المتأسلمين استبدلوا بهذه المظاهر حقيقة الدين، فلقد استخدم الإخوان المسلمون الدروشة بدلاً من العمل، ومظاهر الدين بدلاً من اتقان العمل، ولذلك خسرنا الدين والدنيا.

ألا ليت اللحى كانت حشيشاً / فنعلفها خيول المسلمين.


أما النقطة الثانية والتي بني عليها فرنسوا باسيلي مقاله فهي "اللامعقول هو المنطق"، فالذي لا شك فيه أنه بنظرة فاحصة نجد أن العبث والدروشة أضحت هي المنطق، وأن المنطق أصبح لا منطق، فالصورة الآن في مصر والعالم العربي مضحكة،و أننا نمشي على رؤوسنا بدلاً من أرجلنا، والمتأسلمون أول المسئولين عن ذلك، وما ذاك إلا لعدم استخدامنا لدماغنا المعرفي، فنحن نتصرف في مشاكلنا كالحيوانات بدماغينا الغريزي والإنفعالي، ولذلك تكون قراراتنا كلها خاطئة، سواء على المستوي السياسي أو الاقتصادي أو المعرفي، وذكر باسيلي مثالاً واحداً لهذه العبثية حيث دخل مكتبة لشراء بعض الكتب فوجد كتاباً عن تاريخ الأقباط مكتوب عليه "الحلقة الثانية"، فطلب من البائع شرائه وشراء الحلقة الأولي، لكن البائع قال له: إنه لا توجد حلقة أولي له. فعاد ليسأله: هل تقصد أن الحلقة الأولي نفذت عنكم؟ فقال له البائع: لا. لم ينشر الناشر الحلقة الأولي على الإطلاق. فالكتاب الأول نزل كحلقة ثانية. وعندما أظهر باسيلي دهشته وسأل البائع: هل من المعقول أن يصدر مؤلف الحلقة الثانية دون إصدار الحلقة الأولي. نظر إليه البائع بنوع من العجب والاستنكار قائلاً له باللهجة المصرية " وهيا يعني جت على دي يا بيه؟. يذكر باسيلي أنه لم يتمالك نفسه من الضحك عالياً، وانصرف وهو يقول في نفسه "معه حق ! لماذا أتوقع شيئاً منطقياً بسيطاً وكل ما حولنا لا منطق له على الإطلاق.
وأذكر أنني عندما كنت في مصر في الصيف الماضي، وذات يوم وأنا أشرب عصيراً، فإذ بالبائع يبادرني الكلام بلهجة حازمة وهو متجهم الوجه: أنا مش حاسس إني إنسان يا بيه،. فابتسمت له قائلاً: لماذا؟. فقال: كل يوم نفس الشيء، أنا أعمل ليل نهار، وأذهب للمنزل فقط لإعطاء النقود لزوجتي علشان توكل العيال، وأعود صباحاً للعمل حتى المساء، وهكذا، لا أمل لي في الحياة إلا أن إطعام زوجتي وأولادي، وإعطاء درس خصوصي لأبني اللي في الثانوية [البكالوريا]، وتزويج إبنتي اللي على وش جواز. فقاتل الله قنبلة الانفجار السكاني التي حولت الآباء إلى مجرد آلات صماء وفقدوا آدميتهم وإنسانيتهم لتوفير السكن والأكل ومصاريف الدروس الخصوصية وتكاليف الزواج الباهظة،كل ذلك لتدمير مصر بقنبلة الانفجار السكاني التي هي أخطر عليها ألف مرة من كل قنابل إسرائيل التي نفجرها في أنفسنا.
أما النقطة الهامة في مقال باسيلي فكانت بعنوان فرعي هو "هل الأقباط عورة؟"، يقول باسيلي:" على مدي ساعتين بالسيارة من العين السخنة على ساحل البحر الأحمر إلى القاهرة رأيت ما يزيد على مئة مئذنة لمسجد أو مصلي أو زاوية، ولم تقع عيني على منارة لكنيسة قبطية واحدة. وعليه فلابد أن أسأل: أين أقباط مصر؟ (...) كأنهم أصبحوا عورة لا يصح أن تقع عليها عين، وكأن كنائسهم من المحظورات التي يجب تجنبها قدر الإمكان. على طريق القاهرة _ السويس هناك عدد كبير من المنشآت الحكومية للجيش المصري، وكل منشأة منها تتضمن مسجداً أو أكثر تراها كلها من الطريق، لكنك لا تري كنيسة واحدة. وأستغرب: هل أصبح الجيش المصري خالياً من الأقباط؟ هل ألغت مصر نظام التجنيد الإجباري فلم تعد تدخل الأقباط الجيش لأداء الخدمة الوطنية؟ بالطبع لا".
لك الحق أن تستغرب يا باسيلي، فالمتأسلمون مسيطرون الآن على الساحة الاجتماعية في مصر وعلى التعليم والإعلام، فلقد استطاعت خفافيش الظلام ودعاة الرجعية من صبغ كل مناشط المجتمع بالصبغة الإسلاموية، فلم نسمع من قبل عن البنوك الإسلامية، والأفراح الإسلامية، والفضائيات الإسلامية. فلقد تمكن المتأسلمون ومنذ الثمانينات أن يهمشوا الأقباط شيئاً فشيئاً، بل ويكفروهم من طرف خفي، كما فعل الشيخ الشعرواي ولمدة عشرين عاماً في التليفزيون المصري، إنتهاء بالدكتور محمد عماره. وكيف ننسي إن نسينا فتوى أهل الكهف لزعيمهم المرحوم مصطفي مشهور التي طالب فيها بتسريح الأقباط من الجيش المصري ودفع الجزية لنا عن يد وهم صاغرين. فنحن يا أخي في زمن العجائب، هو" زمن المتأسلمين"، فما نراه الآن لا يصدقه عقل، منذ متي وأين دليلهم من الكتاب والسنة كان أهل الكتاب [اليهود والنصارى] كفاراً؟ فليخرجوا لنا نصوصهم التي يعرفونها، اللهم إن كان لهم إسلاماً خاص آخر غير الإسلام الذي نعرفه نحن، لنصدقهم.
المتأسلمون الآن يرقصون رقصتهم الأخيرة لأن نهايتهم قد اقتربت، فما يحدث في مصر وفي العالم العربي ساحبة صيف وستمر موجة الإرهاب السائدة، وسنخرج منها منتصرين، وسترجع مصر كما كانت دائماً وأبدا "أماً" لكل مواطنيها، مسيحيين ومسلمين، وسيكون شعارها الدائم هو "عاش الهلال مع الصليب" وسنسمع دائماً أجراس الكنائس متناغمة مع أصوات الآذان، وسنجد المسجد يجاور الكنيسة، وستبقي مصر نسيج وحدة واحدة لا فرق بين مواطنيها، فصبراً يا باسيلي فإن غداً لناظره لقريب. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فكل ما يحدث هو نتيجة الجهل، وأن الأقباط لا يضطهدون إلا في عصور الانحطاط الفكري.


[email protected]