الحداثة ثمرة التوفيق بين الإسلام والقومية والديمقراطية


زائر ماليزيا لن يجد صعوبة في إدراك صفاتها الرئيسية سريعا، فهي دولة "قومية"، تمثل بالدرجة الأولى شعب الملايو، على الرغم من وجود اقليات اثنية أخرى صينية وهندية تعيش بكل حرية في البلاد، وهي دولة "إسلامية" على الرغم من وجود طوائف دينية أخرى بوذية وهندوسية تتمتع بكافة حقوقها في ممارسة معتقداتها وطقوسها، وثالثا هي دولة "ديمقراطية" حديثة على الرغم من هيمنة حزب "أمنو" منذ سنوات طويلة على الحياة السياسية، ذلك أن التعددية السياسية والإعلامية وسواها من مبادئ النظام الديمقراطي مصانة دستوريا وقانونيا وعمليا.
صفات ماليزيا هذه، يلمسها القادم إلى عاصمتها الفيدرالية كوالالمبور، في جميع مظاهر الحياة تقريبا، والعبقرية الماليزية بطبيعة الحال لا تكمن في وجود هذه الصفات الثلاثة أو ما يزيد عنها، بل في جعلها ممكنة التعايش على صعيدي النظرية والممارسة، ذلك أن الغالبية العظمى من الدول العربية والإسلامية ما تزال غير قادرة منذ عقود طويلة على حسم الجدل النظري حيال إشكالية التوفيق بين الإسلام والقومية والديمقراطية، ناهيك عن الجدل العملي، تماما كعجز هذه الدول عن الالتحاق بركب الحداثة والتقدم ومسايرة وتيرة التاريخ البشري.
لقد أثبت الماليزيون - ولتكن الخلاصة هذه المرة في المقدمة سابقة الشرح- أنه بمقدورهم التشبث بهويتهم القومية "الملايوية"، لغة وعادات وتقاليد وثقافة شعبية مميزة، دون أن يمنعهم ذلك من خدمة العالم الإسلامي ونصرة قضاياه الرئيسية، أو من الانفتاح على العالم واكتساب آخر المهارات التقنية والعلمية والاقتصادية، تماما كما أثبتوا أن تمسكهم بمبادئ وتعاليم الإسلام في اعتدالها و وسطيتها وسماحتها، لا يحول بينهم وبين تبني النظام السياسي التعددي الديمقراطي، أو منح الأقليات الدينية والقومية الأخرى الحريات والحقوق التي تسمح لها بالحفاظ على نفسها وإفادة المجتمع من خبراتها ومواهبها.
إلى ذلك، فإن القيادة السياسية الماليزية، قد آمنت منذ بدت مصممة في بداية الثمانينيات على قيادة البلاد نحو الازدهار والتقدم والنهضة الشاملة، بأن ضمان الحريات السياسية والإعلامية وتعزيز النظام الملكي الدستوري البرلماني والأخذ بمبادئ الفصل بين السلطات وحقوق الإنسان و الحريات العامة والخاصة، خير وسيلة لتنمية الوطن اجتماعيا واقتصاديا وخير سبيل للحفاظ على هويته القومية والإسلامية، فهذه الهوية لن تضعف إلا حين يجري ربطها بالديكتاتورية والعنف والإكراه، وهي تقوى إذا ما أقبل عليها المعنيون بها حبا وطواعية، واحترمها الآخرون لسماحتها وانفتاحها وإنسانيتها.
وليست محصلة وثمرة مسيرة التوفيق بين القومية "الملايوية" والدين الإسلامي والنظام الديمقراطي، إلا نهضة اقتصادية واجتماعية وعلمية وعمرانية وثقافية، يشعر أي سائح مسلم لماليزيا بفخر صلة – ولو بعيدة- بها، وباعتزاز كبير بتجربة مميزة، أثبتت أن قدر المسلمين، و منهم العرب، ليس بالضرورة العيش في ظل أنظمة الحكم الديكتاتورية الفاسدة، والتعثر المتواصل لتجاربهم في التنمية، والعجز المستمر عن إدراك قافلة الازدهار والحضارة.
إن زائر كوالالمبور، يشعر منذ أن تطأ قدماه أرض مطارها الجديد الرائع، أنه في عاصمة فريدة في العالم الإسلامي، فشوارع هذه المدينة النظيفة ووسطها التجاري شاهق البناء ومعالم حداثتها الأخاذة وحركتها التجارية والاقتصادية اللافتة ووسائل نقلها العام الراقية، كلها تعزز الإحساس بالتميز والتفرد، وبانتماء البلاد إلى هيئة الأمم المتقدمة، ومغادرتها بمسافة كبيرة تزداد كل يوم بعدا، هيئة العالم الثالث ودوله المتخلفة.
ولزائر مثلي، -جذوره العربية التونسية تجعله يعيش باستمرار هاجس أن "الحجاب رمز لتخلف المرأة وحرمانها من حقوقها"-، أن يلمس بقوة أن النساء الماليزيات المسلمات، المختلفات عن غيرهن من الماليزيات الصينيات أو الهنديات، يتبوأن مكانة جد مميزة، في جميع مناحي الحياة العامة، حتى أن الاعتقاد الظاهر يذهب إلى أن نسبتهن في مقاعد الدراسة وسوق العمل، تفوق نسبة نظرائهن من الرجال، فحجاب المرأة المسلمة لا يعبر عن دونية أو احتقار، كما لا يمثل عائقا أمام مساهمتها باقتدار في نهضة بلادها على كافة الأصعدة، على نحو ما أثبت النموذج الماليزي.
ولعل أهم ما يميز حالة تمسك النساء الماليزيات في غالبيتهن بالحجاب، أن الدين الإسلامي في ماليزيا لم يعتمد على قهر الدولة أو سلطاتها لكي يلزم أتباعه بتعاليمه، بل تمسك بالاعتماد على قناعة المجتمع وإقبال المؤمنين الطوعي على الالتزام بمبادئه، خلافا لبعض الدول الإسلامية الأخرى التي شرعت الحجاب بقانون فدفعت النساء إلى كرهه والتهرب منه في أول فرصة ممكنة، كما أنه ليس ثمة في ماليزيا ما يشير من قريب أو بعيد، إلى أن هناك تمييزا من أي نوع لصالح النساء المحجبات أو ضدهن.
ولعل ما عزز من تمسك الماليزيات بارتداء الحجاب، ارتباطه بالمسألة القومية فضلا عن الاعتقاد الديني، فالنساء "الملايويات" أو "الماليزيات الأصليات" هن مسلمات، ولسن صينيات أو هنديات، وما يميزهن عن هؤلاء الأخيرات، ارتداؤهن لغطاء الرأس وتمسكهن بالتعاليم الإسلامية في اللباس، فالحجاب في ماليزيا إذا تذليل لتحد قومي، فضلا عن كونه التزام عقائدي.
أما الهاجس الثاني، الذي بددته لي زيارتي الماليزية، بالنظر إلى جذوري العربية التونسية دائما، فليس سوى أن مكانة الإسلام السامية في المجتمع والدولة ستقود بالضرورة إلى اضطهاد الأقليات الدينية والقومية الأخرى، ففي ماليزيا لا يتردد الماليزيون الصينيون والهنود من تلقاء أنفسهم، عن إبداء الافتخار قبل كل شيء بأنهم ماليزيون أولا، قبل أن يكونوا صينيين أو هنودا، وبالتسليم بأن ماليزيا دولة إسلامية، حيث لا يجدون أي مشكلة في أن تكون هويتها كذلك، تماما مثلما يعترفون بأن التمييز ضدهم غير موجود، سواء من قبل مؤسسات الدولة، أو من قبل الهيئات الممثلة للمجتمع، وبالتحديد للغالبية "الملايوية" فيه.
وفي "ملكة" عاصمة البلاد التاريخية، الواقعة مسافة مائة ميل جنوب العاصمة كوالالمبور، يتجاور في تسامح تام ورائع، وفي شارع واحد، المسجد الإسلامي مع المعبد الهندوسي والمعبد الكنفشيوسي، وغير بعيد عن هؤلاء تقبع كنيسة "سانت بولس" وكنائس أخرى، ورثتها المدينة عن الحقب الاستعمارية البرتغالية والهولندية والبريطانية، لم يجد زعماء الاستقلال الملايو" في تركها تدق أجراسها، مثلما ظلت تفعل منذ ما يزيد عن الثلاثة قرون، وما يضير الإسلام – كما يقول زعماء الملايو المسلمون - في أن تدق أجراس الكنائس أو يؤم أصحاب الديانات والعقائد الأديرة والمعابد، ما دام الجميع متسامحا مع الآخر محترما لقوانين البلاد.
ثالث الهواجس الذي صحبني في رحلتي إلى بلاد "الملايو"، هو ذلك الذي استبد بي من خلال متابعتي لسنوات طويلة جدل النخب الفكرية والسياسية العربية، ومفاده النص على تعارض مزعوم بين الإسلام والديمقراطية، فلقد وجدت في ماليزيا برلمانا قويا وانتخابات نزيهة وتعددية إلى حد كبير وقضاء يتمتع بسمعة جيدة ومؤسسات أمنية خاضعة للقانون وصحافة حرة ونقدية، وكل ذلك إلى جانب حضور سياسي واجتماعي ورمزي قوي للإسلام، يمكن أن يلمس في عمارة "برجي مركز تجارة كوالالمبور" المبنى الأكثر ارتفاعا في العالم، أو عمارة برج "المنارة" الذي ينظر من أعلاه الماليزيون إلى بهاء وجمال عاصمتهم الفيدرالية الأخاذ، أو في عمارة "المسجد الوطني"، حيث تظهر الرموز الدينية الإسلامية جلية، وحيث يكتب الماليزيون بمبانيهم، مقولة أن دولتهم "دولة مسلمة".
و في جهاز الشرطة الذي يشتغل فيه مواطنون "ملايو" مسلمون، جنبا إلى جنب مع مواطنين من أصل صيني أو هندي، تحمل سيارات الدوريات الأمنية ونياشين الضباط وأوسمتهم، شعارا كتب في أعلاه إسما "الله" جل جلاله و"محمد" صلى الله عليه وسلم، في حين جاء الوزير الأول الجديد عبد الله بدوي – وهو ابن أحد أبرز رموز حركة الاستقلال الماليزية وأحد علماء الدين الكبار المعروفين في البلاد- بقانون جديد يجعل مادة التربية الإسلامية جزءا من النظام التعليمي العام، يدرس لكافة الطلبة في المدارس الحكومية، من مسلمين وغير مسلمين، لكي لا يعزل الإسلام عن الحياة العامة، وباعتباره أحد المكونات الرئيسية للهوية القومية الماليزية، ولكي يتربى كافة المواطنين على إسلام وسطي معتدل، يشجع قيم التسامح بين بني البشر، ويكره العنف والإرهاب والديكتاتورية.
فالإسلام الماليزي إذا، راسخ الجذور وقوي الحضور، لم يحل دون اعتماد أتباعه والمؤمنين به النظام الديمقراطي التعددي، حيث سمح للأحزاب بكافة أطيافها وخلفياتها بحرية النشاط والحركة، فيما تشبث "أمنو" الحزب القومي الماليزي صاحب الخلفية الإسلامية الوسطية بنظرية أن نصيب الأغلبية النسبية أفضل من نصيب الأغلبية المطلقة، في خدمة القومية والإسلام معا، وفي تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي المطلوب، في مقابل نظريات الإجماع الوطني والأغلبيات الخارقة للعادة والمزورة السائدة في غالبية الدول العربية والإسلامية.
لقد ظهرت في ماليزيا طيلة العقود الماضية، أحزاب إسلامية متشددة، وأخرى في اتجاهات متعددة، غير أن هذه الأحزاب ظلت بعيدة عن إقناع غالبية الماليزيين، الذين منحوا أصواتهم وولاءهم بكل حرية ل"أمنو"، ما دام هذا الحزب الفيدرالي القومي متمسكا بخط التوفيق بين الإسلام والقومية والديمقراطية، ذلك التوفيق الذي أنتج ما وصلت إليه ماليزيا، أقوى النمور الآسيوية، من نهضة وتقدم وعزة.
إن الإسلام دين وسطي سمح من حق أتباعه كل الحق أن يحبوه ويتشبثوا بتعاليمه، وإن القومية جزء من فطرة الله التي فطر عليها البشر، لا يمكن لأحد أن يتجاوزها، وليس في التمسك العقلاني بها ما يعيق الانفتاح على العالم أو ينشر عنصرية أو تعصبا، كما أن الديمقراطية هي أفضل وأرقى ما أنتجت العقبرية البشرية في مجال الأنظمة السياسية، والنهضة العربية الممكنة، تأسيا بالتجربة الماليزية التي شهدتها، كما شهدها غيري آلاف وملايين، ستكون حظوظها في التحقق أكثر، لو توصل العقل العربي إلى صياغة نظرية نهضوية عربية، تعتمد في أسسها الرئيسية على هذا المنحى التوفيقي بين الإسلام والعروبة والديمقراطية.

مدير مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي - لاهاي