تحت عنوان "الدستور الأخلاقي للحرب" يقول د. عمارة (في الحلقة 8 من سلسلة "الحروب الدينية والأديان السماوية): [وحتى هذا القتال الذي كتب على المسلمين، وهو كره لهم والذي وقف به الإسلام ودولته عند حد القتال الدفاعي لحماية حرية العقيدة وحرية الدعوة من الفتنة التي هي أكبر من القتل المادي ولحماية حرية الوطن، والحيلولة دون إخراج المؤمنين من ديارهم، حتى هذا القتال الاستثناء والضرورة للدفاع قد وضع له الإسلام ودولته "دستورا أخلاقيا" تجاوز في مثاليته التي طبقها المسلمون كل المواثيق الدولية التي تعارف عليها المجتمع الدولي نظريا (!!) بعد أربعة عشر قرنا من ظهور الإسلام!].
ويروي عن الخليفة عمر بن عبد العزيز قوله [بلغنا أن رسول الله (ص) كان إذا بعث سرية يقول لهم :"إغزوا باسم الله. في سبيل الله. تقاتلون من كفر بالله. لا تغلوا أي لا تخونوا ولا تغدروا. ولا تمثلوا بجثث القتلى ولا تقتلوا وليدا".]
وبغض النظر عما في الجزء الأول من الحديث حول أسباب الحروب... فإن الجزء الثاني يقدم دستورا أخلاقيا يبدو أن قليلين من جنود الدولة الإسلامية، بدءا من عصرها الأول وحتى محاربي القاعدة والمقاومة العراقية، سمعوا به!.
***
بعد أن ألقينا نظرة سريعة في مقال سابق على بعض وقائع غزو مصر، فلنحاول إذن المتابعة لنرى لمحات مما حدث على أيدي دولة الخلافة في المائة سنة الأولى، عبر هذه الأمثلة، المنقولة عن المؤرخين العرب (إلا حيث ذكرنا غير ذلك):
1- طبقا لما يقول يوحنا النقيوسي في حولياته (التي كتبت بين 693-700) فإن [نير المسلمين (على القبط) كان أعتى من نير فرعون على بني إسرائيل]. ويقص كيف أن عمرواً عندما استولى على مدينة البهنسا، قرب الفيوم، قضى على كل سكانها: [..كل من استسلم (للمسلمين) قُتِل، ولم يرحم شيخا أو امرأة أو طفلا]. وقد لاقت الفيوم وباويط نفس المصير. [أما نقيوس فقد استولوا عليها، وإذ لم يجدوا فيها جنودا (يقاومون)، أعملوا السيوف في كل من وجدوهم بالطرقات والكنائس؛ من رجال ونساء وأطفال، ولم يظهروا أي رحمة. وبعدها (...) تقدموا نحو بلدات أخرى ونهبوها وأعملوا سيوفهم في كل من وجدوا]. ثم يضيف في أسى: [فلنتوقف (عن الكلام)، فمن المستحيل وصف الفظائع التي ارتكبها المسلمون بعد استيلائهم على جزيرة نقيوس في يوم الأحد الثامن عشر من شهر جنبوت..]. ثم يصف ما حدث بعد دخول مدينة "قيلوناس"، بمعونة شخص يهودي، فحطموا أسوارها وأعملوا السيف في سكانها وحصلوا على أسلاب عظيمة واقتسموا النساء والأطفال الأسرى فيما بينهم، وتركوا المدينة خرابا. (الفصل 123 الفقرات 9 و 10 و11). الخ الخ.
2- ويذكر بتلر، المؤرخ "المعتمد" الذي برأ العرب من تهمة حرق مكتبة الإسكندرية، كيف تدهور الحال سريعا بمصر بعد الفتح [...وكيف اضمحلت تلك المدن العظيمة التي كانت في أخر عهد الرومان مزدهرة. فإن الإسكندرية وإن كانت أعظم مدائن الشرق إن لم تكن أعظم مدائن العالم، لم تكن سوى واحدة من مدائن كثيرة يلي بعضها البعض فيما بين (البحر الأبيض) وأسوان. ولو وصفنا هذا الاضمحلال لرأينا كيف كانت المعابد العظيمة والقصور الجليلة تتهدم وتتخرب (..) وكيف كان المرمر الثمين ينزع من مواضعه لكي تبنى به الأبنية أو لكي يصنع منه الجير، وكيف كانت تماثيل البرونز تصهر لكي تتخذ منها النقود أو لتصنع منها الآنية...] (ص 501 من "فتح العرب لمصر" - طبعة 1990 مدبولي).
3- وفي أيام معاوية بن أبي سفيان، أول الأمويين، مات عمرو بن العاص واليه على مصر فولى معاويةُ عبدَ الله بن عمرو ثم عزله بعد أشهر وولى عقبة بن عامر ثم معاوية بن حديج ثم مسلمة بن خالد.. كل هؤلاء في بضعة سنوات؛ أي مجرد الوقت الكافي للإثراء السريع...
4- وفي أيام يزيد بن معاوية ثاني خلفاء بني أمية (بويع في 680م) ذُبح الحسين بن علي بن أبي طالب وأرسلت رأسه إلى الخليفة، وداس الأمويون جسده بخيولهم حتى رضّوا ظهره وصدره، في وحشية وهمجية غريبة (أو هي ليست غريبة!). وفي أيامه [..صارت شدة على (القبط) وعظم عليهم الخطب واشتد الكرب وكثر البلاء وتتبعهم أهل الفساد بالقتل والنهب].
5- وفي أيام عبد الملك بن مروان ( 685م) الذي كان أول من نقل الدواوين من القبطية إلى العربية [...مرت بالقبط متاعب وشدائد عظيمة للغاية وقد صودر فيها البطريرك ألكسندروس مرتين أخذ منه فيهما ستة آلاف دينار نقرة فكانت أول جزية أخذت من الرهبان خلافا للعهد. واشتد عامله (واليه) عبد الله بن عبد الملك على القبط بمصر وضيق عليهم واقتدى به قرة بن شريك أيضا في ولايته فقتلا وأحرقا وخربا وأراقا الدماء بجوار وأنزلا بالنصارى شدائد لم يبتلوا بمثلها فكانت أيامهما بلايا وإحنا ورزايا ومحنا].
عبد الملك هذا كان معروفا بكونه "(..) محبا للفخر مقداما على سفك الدماء" ... [ولذلك كان عماله الحجاج بالعراق ومحمد بن يوسف أخو الحجاج باليمن ومحمد بن مروان بالجزيرة وكل من هؤلاء ظلوم غشوم جبار].
6- وفي أيام الوليد بن عبد الملك (705م) استمر قرة بن شريك العبسي على ولاية مصر [..و كان ظلوما غشوما عسوفا... وامتلأت الأرض جورا..].
وفي أيامه ضاقت بيوت المال مما تكدس فيها [..فأمر أن تبنى المساجد وبنى مسجد فسطاط مصر الذي في أصل حصن الروم..]. أي إن الظلم والجور في الجباية لم يكن لنقص في الأموال بل كان من باب "العنف للعنف"!
7- وفي خلافة عمر بن عبد العزيز (717م) الذي كان [عفيفا زاهدا ناسكا عابدا...] صدرت "العهدة العُمَرية" (التي نسبها بعض المؤرخين خطأ إلى عمر بن الخطاب)، وهي الوثيقة التاريخية الشهيرة التي تقنن لإذلال وامتهان "أهل الذمة".
8- وفي خلافة هشام بن عبد الملك (723م) [..اشتد واليه.. عبد الله بن الحجاب على القبط في تحصيل الخراج شدة بالغة وزاد قيراطا في كل دينار فاسترحموه فلم يقبل فانتفض عليه عامة الحوف الشرقي من القبط فحاربهم وقتل وسبى ونهب وخرب وأراق الدماء أبحرا وقد كان قبله...أسامة بن يزيد التنوخي .. الذي اشتد وأوقع بهم وأخذ أموالهم ووسم أيدي الرهبان بحلقة من حديد منقوش عليها اسم الراهب وديره وتاريخه، فكان إذا وجد أحدهم بغير وسم قطع يده وشهره. وكتب إلى جميع العمال بـأن من وجد من النصارى وليس معه منشور يؤخذ منه عشرة دنانير ثم كان منه بعد ذلك أن كبس دياراتهم وقبض على كثير من الرهبان بغير وسم فضرب أعناقهم وضرب باقيهم بالسياط حتى ماتوا تحت الضرب. ثم أمر فهدموا الكنائس ونهبوا ما فيها فكانت شدة عظيمة للغاية ووصل الخبر بذلك إلى هشام بن عبد الملك فكتب... بأن يجرى على النصارى على عوائدهم ما بأيديهم من العهد فلم يعمل خنظلة بن صفوان (والٍ آخر!) بما رسم به هشام بل شدد عليهم... وزاد في الخراج وأحصى الناس والبهائم وجعل على كل رجل منهم وسما صورة أسد وتتبعهم فمن وجد يده بغير وسم قطع يده. فازدادت الشدة وعظم أمرها أياما كثيرة وكادت تهب الفتنة وتعم سائر البلاد فخاف العمال وانكفوا وسكنت الأحوال].
9- وفي خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك (742م) الذي اشتهر "بالكفر والزندقة وانهمك على شرب الخمر واللذات" [...انتفض القبط بصعيد مصر من جور العمال وشقوا عصا الطاعة فوقعت الحرب بينهم وبين الجند المرابط بمصر واقتتلوا أياما كثرة فقتل خلق. ثم خرج يُحَنّس القبطي، وكان من فحول زمانه وكبار القوم وعظمائهم في مدينة سمنود، فحارب العمال وقاتلهم قتالا عنيفا ودامت الفتنة أياما كثيرة اشتد فيها المسلمون على النصارى شدة بالغة وطال الأخذ والرد وعمت الصعيدين، ثم انجلت بموت يُحَنِِّس المذكور وخلق معه فكانت فتنة عظيمة للغاية على جميع النصارى..].
10- وفي خلافة مروان آخر الأمويين (744م) [..حطم كل كنائس طحا (36) ما عدا واحدة بعد أن أخذ 3000 دينار ثمنا لذلك]. ثم خرب الكثير من الأديرة التي كان يختبيء فيها أثناء عملية هروبه من ملاحقة العباسيين له!
11- ثم تولى أبو العباس عبد الله بن محمد المشهور بالسفاح (لاحظ شاعرية اللقب!) أول العباسيين (749م)، وفي أيامه نُبِشت قبور الأمويين بدمشق ولما وجدوا جسم هشام صحيحا، صُلِب ثم حُرق بالنار.[...وفي أيامه خالفت القبط من مدينة رشيد من جور العمال وتسلطهم فقاتلهم عبد الملك بن موسى بن نصير عامل مصر يومئذ وقاتلوه قتالا عظيما ومازالوا حتى هزمهم. وقبض على ميخائيل البطرك فاعتقله وألزمه بمال كثير فسار بأساقفته في أعمال (محافظات) مصر يسأل أهلها فوجدهم في شدة عظيمة وعبودية لا تطاق فعاد إلى الفسطاط حيث عبد الملك ودفع له ماحصل عليه فأفرج عنه ثم لم يلبث أن قبض عليه بعد أيام قلائل وأنزل به بلاء كبيرا وبطش بالنصارى وأعمل فيهم السيف وأحرقت في هذه الأثناء مصر وجميع غلاتها وأسر كثيرا من النساء الراهبات ببعض الديارات ونهب ما فيها وخربها تخريبا. وراود عبد الملك إحدى النساء الراهبات عن نفسها فاحتالت عليه (حتي..) ضربها بسيفه فأطار رأسها فعلم أنه اختارت الموت على الزنا.. وما زال البطرك وكبار القبط في الاعتقال مقيدين بالحديد يتجرعون مضض الشدة وألم الضيق حتى أفرج عنهم بعد أن خلع السفاح عبد الملك وولى بعده صالح بن علي، ثم أعاده مرة أخرى...].
***
نكتفي بهذا القدر ... مذكرين أن ما أوردناه بشأن القبط لم يختلف كثيرا عما جرى لغيرهم في سائر البلاد التي "فُتحت". وسواء كان الحاكم ورعا تقيا أو زنديقا خمورجيا، فالوحشية التي عومل بها الناس هي بعينها، والعنف لم يتغير. بل سادت الوحشية والعنف بين الفرقاء العرب أنفسهم...
لاحظ أن ذلك كان العصر الذهبي الملتزم بالدستور الأخلاقي، فما بالك بالعصور الأقل ذهبية!!

كيف ولماذا؟؟
يقول الأستاذ جوزيف شومبيتر (1883-1950): [العرب كانوا دائما جنسا من المحاربين الذين عاشوا على السلب والنهب واستغلال الجماعات المستقرة (في الواحات والمدن). (وبمجيء) الإسلام (أصبح) آلة الحرب التي لم تتوقف عند أي شيء بمجرد بدء دورانها. فالحرب هي النشاط الطبيعي في مثل هذه "الثيوقراطية العسكرية". والعرب لم يكونوا محتاجين إلى العثور على مبرر للشروع في حروبهم؛ فتنظيمهم الاجتماعي يحتاج للحرب، وبدون انتصارات سينهار. وهنا نجد النزعة التوسعية عارية من أي هدف حقيقي، بل شرسة ونابعة من احتياج تاريخي في الماضي. وقد كان لغزوات العرب أن تحدث حتى لو لم يكن هناك إسلام. (...) ولم يكن (له) أن ينجح في دعوته لو كان يدعو الناس إلى الاتضاع والخضوع (...). إذن فالدين لم يكن السبب الأول للغزوات، بل بالأحرى غريزة حربية قديمة].
ويقول د. عمارة، ربما في لحظة صدق، تحت عنوان "القرآن والبيئة" أن [.. رسالة الإسلام كانت ملائمة تماما للبشر الذين ظهر محمد بين ظهرانيهم..].
ويقول باحث آخر: [الجدير بالذكر أن أبطال الإسلام الأوائل لم يكونوا مهتمين كثيرا بالدين. خالد، القائد الناجح ضد البيزنطيين، وُصف بأنه شخص "لا يهمه شيء سوى الحرب، ولم يكن يهمه أن يتعلم أي شيء آخر (..) ونفس الأمر بالنسبة لعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة اللذان اغتنيا غنى فاحشا من الغزوات].

***
ثم يتحدث د. عمارة (في الحلقة 10) عن حروب المسلمين "الداخلية" فيؤكد أنها [إنما كانت حروبا سياسية. ولم تكن دينية .. فالسياسة والدولة والخلافة والإمارة والنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي قامت بسببها هذه الحروب هي في الإسلام من الفروع وليست من الأصول ولا من ’عقائد الإسلام‘ ولا من أمهات الاعتقاد في الإسلام.. والاختلاف في كل أمور السياسة والتنوع والتعدد ’سنة‘ من سنن الله سبحانه وتعالى....].
ويعطي مثلا حول عبد الله بن الزبير الذي [رفض مبايعة الخليفة الأموي وأعلن الثورة على الدولة الأموية واتخذ من مكة عاصمة لدولته ودارت حرب بينه وبين الأمويين حتى في داخل الحرم المكي وحول الكعبة، كانت الجيوش المتقاتلة تضع أسلحتها إذا أُذِّن للصلاة ويُصَلون خلف إمام واحد لإله واحد بقرآن واحد وعلى عقيدة واحدة لأن الحرب كانت سياسية لا علاقة لها بعقائد الدين...].
وهو كلام مذهل، ذكّرنا بما قيل عن الخليفة عبد الملك بن مروان (بويع في 685م) من أنه كان معروفا قبل الخلافة بكونه [متعبدا ناسكا عالما تقيا واسع العلم حازما لا يَكِل أمرَه إلى سواه، محبا للفخر مقداما على سفك الدماء...].
فهل معنى كل ذلك أنه لا علاقة بين أفعال الناس (المؤمنين!)، أيا كانت تلك الأفعال، وبين إيمانهم؟! وهل طالما تمسكوا بأصول ثلاثة هي، كما يقول د. عمارة، "الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر"، فالباقي لا يهم إذ يتعلق "بالفروع" أي الأمور الثانوية؛ فلا تثريب عليهم إذا قاموا بسفك الدماء والسلب والنهب والظلم وكأنها مخالفات مرور؟! وألا يعني ذلك، بالتبعية، أن "الدستور الأخلاقي" الذي يتكلم عنه هو للمباهاة فقط؟؟
إنه لكلام مرعب حقا!
وإذا كانت الأمور على هذه الدرجة من "الانفصال" بين "الدين" وبين "السياسة" فلماذا يقلبون أدمغتنا وأدمغة العالم حول "الشريعة" باعتبارها فرضا واجبا وقابلا للتنفيذ وصالحا لكل العصور، إذا كان "الاختلاف والتنوع هو من سنن الله في السياسة والدولة والخلافة والإمارة والنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية"، وإذا كانت عدم مراعاة مقاصدها في أمور السياسة هي من الفروع والصغائر؟!
تساؤلات محيرة!
***
أخيرا، وختاما لهذه السلسلة الصغيرة من المقالات، من المهم التأكيد أن هدفها الحقيقي ليس التنقيب في "مزابل" التاريخ لأجل تفنيد كلام أتباع مدرسة "التفسير الجحاوي للتاريخ"؛ إنما بالأحرى حفز، بل استفزاز، مشاعر وضمائر مجتمعاتنا لتنظر إلى تاريخها بعين الواقعية وليس التمجيد التزويري. فالاعتراف بأخطاء الماضي وخطاياه (كما فعل الغربيون مثلا مع محاكم التفتيش) هو من أولى خطوات الخروج من مستقع التخلف الذي نتلذذ بالنوم فيه كالنائم في العسل.


guindya@hotmail/com