أن تنقلب القناعات الفكرية والسلوكية لشخص ما بزاوية مقدارها 180 درجة في غضون شهور قليلة فذلك أمر مرعب بلا جدال ؟، أما أن يخرج من رحم مجتمع ليبرالي متسامح وشديد الترابط ومنسجم الهوى (تقريبا) كالمجتمع الكويتي كل هذه الأعداد من المتطرفين الأصوليين من الشباب الذين دفعت بهم الأحداث للتوجه صوب (الفلوجة) وعصاباتها من القتلة والمسعورين ففي الأمر أكبر من مشكلة بل أنه أزمة حقيقية في ظل وضع إقليمي ودولي لايرحم وفي ظل إعداد كوني لترتيب أمور العالم ككل وبدرجة تتجاوز كل خيارات الشعوب المحلية وإراداتها الوطنية !.

لقد نشأت الكويت كدولة حديثة في بداية الستينيات وفي خضم الموجة الإستقلالية التي أصابت دول العالم الثالث بعد تفتت الإستعمارين البريطاني والفرنسي بشكليهما القديم وفي المرحلة التي أعقبت العدوان الثلاثي على مصر، ومع تزايد الأهمية الإستراتيجية والإقتصادية للثروة البترولية التي تسببت وأدت في المحصلة لضرورة قيام كيانات حديثة تتناسب وحجم التدفق الهائل من الأموال وهو حجم بلغ درجة مهولة في آثاره النفسية والإجتماعية ولم يكن له سابقة تاريخية في هذه المناطق النائية المعزولة من العالم العربي رغم وقوعها على حافات مراكز التجارة الدولية، وكانت بداية نشأة الدولة في الكويت أوائل الستينيات إمتحانا حقيقيا لقدرة كيان صغير وناشيء ومحدود الموارد البشرية والسكانية على التوائم وروح العصر وبناء مجتمعات حديثة، وكان دستور عام 1962 في عهد الأمير الراحل الشيخ عبد الله السالم الصباح والذي يعتبره دعاة الحركة الدستورية الكويتية حتى اليوم نموذجا حيا لبناء الدولة الحديثة عبر مبدأ الفصل بين السلطات وإتاحة المجال للشعب الكويتي بكل فئاته ومكوناته للتعبير عن رأيه في ظل ضمانات قانونية تكفل للمواطن التمتع بثروات بلاده وتقاسم المسؤوليات بين الطبقة التجارية العريقة في الكويت وبين أبناء العائلة الحاكمة، فكان ذلك إنجازا دستوريا من شأنه الإحاطة بالتحديات التي واجهت الكويت المستقلة وأهمها مطالبة الزعيم العراقي الراحل عبد الكريم قاسم بالكويت في حزيران / يونيو 1961 والتي كانت مطالبة لفظية أكثر منها واقعية، فلم تترجم الأقوال لإفعال لأن الزعيم قاسم كان يفهم جيدا الإستراتيجيات الدولية وكان يناور عبر التلويح بالضم! ولأسباب صراع سياسي داخلية محضة، ومع ذلك وفي إطار صراعات الحرب الباردة تدخلت قوى القومية العربية ممثلة في الزعيم الراحل جمال عبد الناصر لتلملم أطراف الأزمة وتفرض حلا عربيا تمثل في الإعتراف العربي بالكويت المستقلة وإجهاض محاولة عبد الكريم قاسم قبل أن يتكفل إنقلابيو الثامن من شباط / فبراير البعثيون بالإعتراف الرسمي والكامل والصريح بالكويت ككيان مستقل في أكتوبر 1963 وفق تسويات خاصة وترتيبات معينة، وخلال تلكم الفترة كان الهوى السياسي في الكويت ذو إتجاهات قومية عربية واضحة وكان الإنفتاح على العالم العربي والمشاركة بمشاكله وهمومه هو السمة التي تميز كل مناحي الحياة السياسية في الكويت، كما أن توزيع الثروة الوطنية وإنتهاج سياسة إقتصادية وقانونية جعلت الكويتي سيدا في أرضه قد أدت لإستقرار ونمو وإزدهار واضح، كما إن إنفتاح السلطة الكويتية على التجارب العالمية والتقليل من القيود والتابوهات المفروضة على المواطن الكويتي وإقامة علاقات واسعة مع غالبية دول العالم بما فيها الإتحاد السوفياتي السابق قد جعل من حياد الكويت إيجابيا بكل معنى الكلمة، كما أن المشاركة في الهموم القومية وفسح المجال للطاقات العربية للعمل في الكويت قد أدى إلى نشوء منطمة التحرير الفلسطينية بعد أن تزايد الوجود الفلسطيني وشغل الفلسطينيون مساحات تأثير مهمة داخل المجتمع الكويتي وهيمنوا تقريبا على بعض النشاطات التجارية والإدارية وتحولت بعض الأحياء السكنية الكويتية لما يشبه (الغيتوات) الفلسطينية كمحافظة حولي التي تسمى (الضفة الغربية / فرع الكويت)!.

وسط هذه الأجواء القومية خرج جيل كويتي مفعم بالشعور القومي العربي وفي ظل زعامات كويتية معروفة قوميا كالدكتور أحمد الخطيب، والسيد جاسم القطامي و المرحوم فيصل الصانع وغيرهم، ومما ساعد على نمو الإتجاهات القومية التحديات التي كانت تفرضها سياسات الشاه الإيراني الراحل و التوجه العربي للكويت فرض واقعا ثقافيا عربيا مؤثرا عبرإنطلاقة الصحافة والمجلات الكويتية كالعربي والكويت وعالم المسرح والثقافة العالمية ومنشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب وجميعها أبرزت صورة الكويت الثقافية العربية الحديثة؟.

مع هبوب المتغيرات على الخليج العربي بعد الثورة الإيرانية وماصاحبها من نمو سريع ومتفاعل لتيار الإسلام السياسي ومع التورط السوفياتي في وهاد أفغانستان، ومع المراحل الحاسمة في تقرير مصير الحرب الباردة، نشأت في الكويت للأسف نعرة طائفية غذتها الصراعات المستجدة في الخليج وقيام المشروع العدواني العسكري للنظام العراقي بإشعاله لنار الحرب التي لم تكن حتمية ولاضرورية ضد إيران للتفاعل عن طريقها وبشكل لايمكن أن نوضحه عبر مقال سريع صراعات طائقية غلفت بدعايات قومية ليتشابك الدين والقومية في معركة لايوجد مايبررها، كما أن تراجع العملية الديمقراطية في الكويت في بعض المراحل واللجوء الحكومي لحل المجلس النيابي وتغليب الخيار الأمني على الخيار الديمقراطي وتفاعلات الحرب الأفغانية والتوجهات الصريحة لتربية الشباب الكويتي وفق مفاهيم أصولية متشددة مع ترك الحبل الغارب لقوى الدعاية الأصولية المناصرة لجماعات الجهاد الأفغانية عبر إبراز (خوارقها ومعجزاتها) في دحر السوفيات (والذي تم بقوة الدعم الأميركي والغربي)!! قد خلق فئات شبابية تنظر للعالم من وجهة نظر أفغانية محضة مع ماساهمت به بعض الظروف الخاصة في تشجيع تلكم الإتجاهات حتى تحولت لما يشبه (وحش فرانكشتاين) الذي إلتهم صانعه!!،كما أن الطبيعة المسلمة للمجتمع الكويتي قد ساهمت في توفير الظروف لقوى الإسلام السياسي أن تبرز ليتفاعل خطابها السياسي مع توفر الموارد المالية والطبيعة الديمقراطية لإدارة السلطة في الكويت، ويبدو أن غض الطرف وسياسة التسامح واللين مع (عيال بطنها) قد أغرت قوى الشر والظلام المتلبسة بالمسوح الإيمانية لتحاول حرف إنتباه الشباب الكويتي عن معركته الحقيقية في إستكمال مسيرة البناء الوطني وتعزيز التجربة والحياة الديمقراطية في الكويت وهي المهمة المستمرة في ظل تبدل الأوضاع الإقليمية والدولية! وقضية المتابعات الأمنية للشباب الكويتي المتطرف تتطلب إتخاذ تدابير تربوية وإعلامية شاملة تعتمد التواصل الحواري البناء من أجل حماية الجيل الجديد من تجار الدين من القتلة والمجرمين وهي مهمة إستراتيجية ذات جوانب متشعبة،

وبرغم إنفتاح وإستقرار الأوضاع الداخلية في الكويت حاليا إلا أن أرادة الأحرار من أبنائها ستحسم ملف التطرف لصالح التعقل والمشاركة الواعية في التنمية الإبداعية للفكر والسلوك والإبداع.

فقدر الكويت الدائم أن تكون قاعدة للإستقرار والتنمية والتواصل والبناء في المنطقة.

[email protected]