ليس من المستبعد إن لم تقيد القضية ضد مجهول، أن يقوم الإعلام الفلسطيني الموجه- استخفافا بالعقول العربية، وترويجا لنظرية المؤامرة- باتهام الاستعمار والإمبريالية وإسرائيل بالاعتداء على نبيل عمرو، ومحاولة اغتياله. فهذه هي العادات العربية الأصيلة المتبعة في مثل هذه الأحوال. إذ يُلقى باللائمة على أولئك الأشرار في كل ما يحدث في بلادنا، بدءا بأمراض الزكام وزلة القدم، وانتهاء بالقمع والأمية والخرافة والانفجار السكاني. وكأن العرب والفلسطينيين ملائكة، بل جنس خاص من الملائكة*، لا يخطئون ولا ينافقون ولا يغدرون ولا يخونون ولا يتآمرون. مع أن التآمر والخيانة أكثر الألفاظ العربية تداولا ورواجا، وأسهلها على أهل الضاد نطقا، تُزين فيها الخطابات، وتُدبج فيها القصائد والمقالات، وتتصدر ولائم الاتهامات والمحاكمات والإعدامات.
وكأنهم أيضا لا يوجد بينهم من تتنازعه مصالحه الشخصية السياسية أو المالية، ويسعى إليها بكل ما أوتي من جشع وشهوة ورغبة ودهاء، سالكا إليها كل السبل ومستخدما كل الأساليب، لا يهمه إن كانت ملتوية أو غير أخلاقية وغير مشروعة. أو كأن تاريخ الخلافة العربية الإسلامية ، وتاريخ النزاعات السياسية التي أُلبست لبوسا دينيا، لم يكن حافلا بمثل هذه الجرائم والاغتيالات، ولا يحتوي على سابقة واحدة من هذا النوع، وليس فيه أن فلانا أطاح بأبيه، وآخر نكّل بمعارضيه أبشع تنكيل، وقتل بالسيف أو بالسم أو بحادث عارض، أشقاءه وإخوانه وأقرباءه، سعيا وراء السلطة أو لبقائه فيها.
إن اغتيال الكوادر والقيادات الفلسطينية لم يكن يوما ماركة إسرائيلية مسجلة، فالفلسطينيون أيضا مارسوا ويمارسون هذه الجرائم ضد معارضيهم، أو مزاحميهم في السلطة، أو في تلقي المساعدات المالية السخية. أو من يحاول أن يكشف عن عوراتهم وممارساتهم. وتاريخ المنظمات (النضالية) الفلسطينية التي لا يتسع هذا المقال لأسمائها وأعدادها، والصراعات الدموية فيما بينها أو في داخلها، للاستئثار بالمال والسلطة، والاغتيالات والتصفيات التي نفذتها بحق الكوادر والقيادات، لحسابها أو لحساب هذه الجهة أو تلك، غير خاف على أحد.
هذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها نبيل عمرو لمحاولة اغتيال. وبغض النظر عن صحة آراءه واتهاماته، فقد أغضبت أقواله وتحركاته نفرا من الناس يتوهمون أنهم الوطن والقضية والشعب، وأن فلسطين وأهلها ملكية شخصية لهم، من حقهم التلاعب بها وبيعها وتأجيرها وتوريثها وإهداءها. وهؤلاء النفر الذين لا يؤمنون إلا بالعنف وسيلة لفرض آرائهم. وبما يمتلكون من القوة والنفوذ، قادرين على إزاحته من الطريق، وإخراس صوته، وإرهاب الجهة التي يمثلها وينطق باسمها، لعلها تتعظ، وتحاسب على أقوالها ودعواتها وتحركاتها، وتلزم حدودها ومنازلها.
إن حالة القهر اليومي التي تمزق حياة المواطن الفلسطيني الواقع بين مطرقة الاحتلال، وسندان الوضع الداخلي الذي تنهش أنياب الفساد بكل أشكاله (السياسية والمالية والإدارية والثقافية والإعلامية) جسده وجسد أطفاله وأهله، لم تعد تسمح بأن يكون الصمت والهدوء والطاعة ممكنا، فالأفق مسدود، والموت ينتشر كالوباء في كل مكان، فلا أمن ولا أمان، ولا عدل ولا قضاء، والجوع قد استحكم، والبطالة ضربت أطنابها في الشارع الفلسطيني، وخاصة غزة (النسبة 60%)، ومعاناة الأطفال التي لم تعد تُحتمل. وفي المقابل نفر من الأقرباء والموالين والأقوياء يكدسون الأموال في البنوك العالمية، ويبنون القصور الملكية الفخمة، ويشترون ويركبون السيارات الفارهة الثمينة، ويدّعون ويكذبون وينافقون، ويتاجرون بقوت الشعب وأرواح أبنائه. ويحاولون إبقاء الأوضاع على ما هي عليه، الأمر الذي لم يعد ممكنا، وإن كان الآن ثمة هدوء، فهو الهدوء الذي يسبق العاصفة.

* الشيطان حسب الكتب الدينية كان رئيسا للملائكة ومع ذلك فقد أخطأ


[email protected]