ما هو السبيل إلى تطوير أداء وسائل الإعلام العربية، لتحقيق المزيد من الفاعلية والتقييم الإيجابي لها من العالم أجمع، والذي تنطلق منه صيحات نقد مرير، نحار هل تشكل انتصاراً، أم قصوراً عن الالتزام بالمعايير العالمية في أداء وسائل الإعلام، ولا يتعلق الأمر بالخارج فقط، لكننا في الداخل نشكو مما نسميه الجرائد الصفراء، وخطابها الزاعق غير الملتزم، لا بالواقع وحقائقه، ولا بالقيم الأخلاقية والإنسانية؟
نناقش الأمر في محافل عديدة، وندبج مواثيق الشرف، وآخرها مؤتمر وميثاق أشهر القنوات الفضائية العربية، وإذا افترضنا الجدية والإخلاص، فهل نحن بهذه المناقشات والمواثيق نسير فعلاً في الاتجاه الصحيح نحو الترشيد والتطوير، أم أننا ندور حول أنفسنا في حلقة مفرغة، جرياً على نهجنا الأصيل في إحداث أكبر قدر من القعقعة بلا طحين؟!
لا أعتقد مع شديد الأسف أن ما يبذل من جهد ويهرق من مداد وتيار كهربي للبث، وموائد تمد وتطوى، يمكن أن يأتي بنتيجة ما، ذلك أن الأمر يتم تناوله من المدخل الخطأ، ونعني به تصور وجود حل منفرد وخاص لكل فاعلية من الفاعليات التي نمارسها، بمعزل عن الإشكالية العامة التي تتحكم في كل حياتنا، وهي أننا صرنا – ومنذ قرون تعبنا من عدها – خارج التاريخ والجغرافيا العالمية، وأن ما ينبغي بحثه هو نقلنا بأفكارنا وأساليب حياتنا إلى العصر الحالي أولاً، ثم نعالج بعدها القضايا الجزئية التي تختص بكل فاعلية على حدها لتحسينها وتطويرها.
فالبحث في حلول إعلامية لتطوير الإعلام، يشبه البحث عن حلول رياضية لتحسين أداء فرقنا الوطنية لكرة القدم مثلاً لتصل للمستوى العالمي، وهذا هو المستحيل بعينه، فالفريق القومي لكرة القدم المصري مثلاً، ليس أكثر من مشروع مصري كسائر المشاريع الصناعية على أرض مصر، وهو يدار بالمناهج ذاتها التي تدار بها تلك المشاريع، وفي المناخ الثقافي والسياسي والاجتماعي ذاته، وبالتالي تتمثل فيه سلبيات وإيجابيات تلك الظروف، ومن غير الممكن عزل فريق كرة القدم عن كل ما في مصر من ظروف وشروط يخضع لها كل ما فوق أرضها وتحت سمائها، لكي نوفر له ظروفاً خاصة، يعمل من خلالها، ويحقق النجاح الذي تتوق له الجماهير، تلك الجماهير الفاشلة في كل ما تفعل!!
بالطبع يمكن في ظروف أخرى أن يكون لما يعانيه الإعلام أو الرياضة، أسباب إعلامية أو رياضية خاصة بذات المجال، يمكن بالتالي تدارسها منعزلة عن باقي المنظومة، وإذا ما تأملنا في موضوعنا، وهو أزمة أو ورطة الإعلام العربي (بمعنى الناطق بالعربية)، سنستطيع تحديد إذا ما كان الأمر خاصاً أم عاماً، فما هي مثالب الإعلام العربي:
•العمل ليس من منطلق تقديم خدمة خبرية أو ترفيهية أو تحليل للأحداث، لكن من منطق إرشاد وتوجيه وتوعية، بافتراض أن الجماهير جاهلة، وهم أوصياء عليها حتى تبلغ سن الرشد، في المدى غير المنظور طبعاً!! أليس هذا امتداداً للبطريركية والأبوية التي تسود المنطقة، والموجودة في مستوى العائلة والمدرسة، ويغطي جميع الفعاليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟
•العمل من منطلق فرض الرأي الواحد (حتى لو تم استحضار الرأي الآخر كنوع من الديكور والتغطية)، مما لا يعدو أن يكون نتيجة لسيادة النظرة الأحادية للأمور، والتي تتسم بها نظرتنا لحياتنا وللعالم، واسترحنا إليها وتدربنا على الانصياع لها تثبيتاً للدوجماطيقية الراسخة على عقولنا كالأخطبوط.
•عدم الأمانة في شفافية العرض أو التغطية الكاملة والمتوازنة للأحداث، ما يعتبر أحد ظواهر إدمان الكذب والتزييف وانعدام الشفافية المتفشية في كل مناحي الحياة.
•التركيز على صب الأفكار الأيديولوجية على رؤوسنا، وانتقاء الأحداث تعسفياً بما يؤيد ما لا نمل من تكراره من آراء ومفاهيم، وليس عرض الوقائع كاملة بقدر المستطاع وترك الفرصة، بل وتشجيع الجمهور على استقراء الأحداث، وبناء منظومة من الأفكار المستمدة من الواقع وليس العكس، ولا شك أن نهج الإعلام هذا يتطابق تماماً مع نهج الجماهير وصفوتها، من عدم تأمل الوقائع العينية لاستخلاص العبر والنتائج، ولكن العكس، تماماً كما تفعل وسائل الإعلام.
•الترويج للإرهاب والإرهابيين، أليست هذه هي الروح السائدة فعلاً بين الجماهير؟
•التركيز على الصوت العالي والعاطفي اللاعقلاني والإثارة والتضخيم غير المبرر، وهذه كلها ممارسات تتطابق مع هوى وطبيعة الجماهير المتحدثة بالعربية، وهي نتاج ثقافة شفاهية، كنا قد ألمحنا إليها في مقال سابق عن الإشكاليات المعلقة في فضاء الليبرالية.
قديماً قال أحد الحكماء "الحكام مرآة شعوبهم" أو "كل شعب يحصل على الحكومة التي يستحقها"، وهذا صحيح في كل الأحوال والأزمنة، كذلك الأمر بالنسبة لوسائل الإعلام، فهي خير مرآة لنا، ليس فقط لأن القائمين عليها بعض منا، ولكن لأنها بطريقة أو بأخرى تنتج ما نستهلكه، وبالتالي لا بد وأن تنتج ما يرضينا، حتى وسائل الإعلام المسخرة علانية للترويج للحكام، لا بد لها لتنجح في رسالتها أن تخاطبنا بالكيف الذي يتناسب معنا، فليس إذن ثمة مشكلة متعلقة بالإعلام خاصة، بل العكس إذ نمتلك حالياً جميع منجزات التكنولوجيا، لكننا نستخدمها لنغوص بها في كهوف الأزمنة الغابرة.
إن نظرة متأملة لكل ما عرضنا يمكن أن تكشف لنا أن الحل هو في انتشار المناخ الليبرالي في المجتمعات الشرقية، فما نطمح إلية في وسائل الإعلام ليس أكثر من مواصفات الأداء الليبرالي، ولا يمكن أن تكون هناك وسائل إعلام ليبرالية بدون إعلاميين ليبراليين، ولا يمكن الحصول على هؤلاء من مجتمعات تقليدية متجمدة، ومناخ شمولي بطريركي، فالحل إذن، في الإعلام وفي غيره، في الليبرالية، فهي وحدها الكفيلة بإلحاقنا بالعالم الحر المتقدم.

[email protected]