مازلنا نمتطي صهوة الكبرياء، ومازلن النساء الصابرات يفترشن الأرصفة العربية، مازلنا ننافح ونقسو ونلعن ونشتم ونتف، ومازلن النساء المعدمات يقارعن الزمن وتبدلات الفصول بصبر أيوب، وحزن يعقوب((.مازلنا ومازلن)) ولعمري تلك هي المفارقة الكبرى التي تقوم عليها الحياة.في هذا الجلوس الطويل حيث فرشة البضائع الرخيصة، والتأمل الطويل في الوجوه والأقنعة والنظرات والتهكمات والقسوة والحزم الإداري من مراقب بلدي حريص على وظيفته، أو شرطي أو حتى شاب أرعن لا يبغ سوى العبث والمزاح.نساء تغضنت فيهن المشاعر والقسمات والملامح، حتى غدون جزءا من الرصيف الذي احتواهن على مدى السنين والسنين، بين الرصيف وأولئك البائسات لن تجد أي فرق، بل أن ملامح التوحد تتبدى بطريقة تثير الدهشة والأسى والألم والقنوط.

تواصل الندوب

كل شعوب الله عرفت الرزايا والمصائب وراحت تؤرخ بها، وتجعل منها تراثا وحكايات، جيل يحكي للجيل الآخر، إلا هذا الشعب الذي تتوحد فيه الأجيال حول المصيبة الواحدة.في الحرب مع إيران مات فيها من كان عمره عشر سنوات فقط، عندما ابتدأت .وفي الحصارتحولت من كانت تعد من جيل الشباب ، الى مجرد عجوز أوهنتها السنوات العجاف.وهكذا يكون الحيف على أصوله بإزاء هذا الشعب الذي رزيء، بالقائد الضرورة، الذي برع في صناعة البلايا التي حطت على رأس هذا الشعب المنكوب والمنكود الحظ.فمن حرب الى أخرى ومن تجويع وقهر وإذلال الى خراب وتدمير ولاجدوى.

ياكل الزايرات والحجيات اللواتي يقبعن هناك، بانتظار الفرج الذي طال كثيرا، وابتعد بمسافات عصية على الأمل بقطعها أو حتى المسير فيها ، فلا رحلة الألف ميل هي التي قيل عنها تبدأ بخطوة واحدة، ولا سؤال الإحتفال بمن سيربح المليون، بل أن المليون هذا صار قابعا في حشاش العراقية البائسة التي فقدت الولد والبيت والكرامة والإحساس بالذات،حتى صارت تنظر الى العالم من مليون مصيبة ومليون بلوى ومليون آه، بعد أن تقنعت وقنعت بالحادثات والمصائب والرزايا.فمن بلية الى مصيبة ومن حرب الى حصار ، ومن تجويع الى تدمير ، وهكذا هي دورة الفلك العراقي، يدور ضانا عليهم بالراحة أو الطمأنينة، دورات ودورات من الألم الممض والقاسي، الموغل بإستباحة الأجزاء والمفردات والأعماق والحشاش والتكوين والتدوير.ملحمة من الأسى المنقع بغبار الملاحم الزائفة والأباطيل التي يدبجها عقل لص آثم، وتدابير بغاث الأرض الذين تكالبوا طامعين ، بما حازت هذه الأرض من خيرات حتى غدت وبالا على العراقيين.

أرض السواد، أجاد الوصف من سماها، على الرغم من الإختلاف في المضمون، لكن المعادلة ماتزال كما هي ، فمن سواد الزرع الى سواد النفط، لم يحصد العراقيون سوى السخام الصادر عن الحرائق التي يجتهد في إضرامها الأهل والعشير.فيما تتلصص العيون بهذه الأرض محاولة النيل منها والإنقضاض عليها ، في أية لحظة سانحة.سواد هذا ماتحصل عليه العراقيون من هذه البلاد، فبعد الفقد في الولد راح العراقيون يهيمون في أرض الله الواسعة، يبحثون عن آدميتهم التي أضاعها الأغبياء والأدعياء واللصوص وقطاع الطرق، بل وحتى هؤلا صاروا يتنادون بإرث السلطة وأحقيتهم في السيادة على هذا السواد، برغم كل ما اقترفوه من فجائع ورزايا وبلايا.

السواد على السواد

غريبة هي المعادلة العراقية، مهلكة ومقلقة، مضحكة ومبكية، تثير في النفس أصناف وألوان المشاعر والأفكار الرؤى والتصورات، لكن الثابت فيها الذي لا يحيد ولا يغيب يبقى شاخصا، في ذلك المشهد المفزع، حيث النساء متلفحات البور والشح، يقارعن غودو في إنتظاره، يعانين مشقة الصلب على رصيف، وما من سائل ولا مجيب.كأنه الإختيار الذي وقعن في فخه مجبرات لا بطلات.

هن الماجدات والحرائر اللواتي إدعى بهن المجرم الكسيح مبرر حماقته وطيشه بإزاء الآخرين،هن الضالعات في جرم إقتراف الحياة والعدم أيضا.هن المثخنات بالفقر والعوز والحرمان والحاجة، بعد أن تم نهب ثروة البلاد بيد اللصوص الصغار والكبار، الذين راحوا يتشدقون بإسم الوطن والوطنية ويعمدون للمزايدة على العراق، من دون حراجة ولا وقفة واحدة مع النفس.هن الضحايا لهذا الجيش من اللصوص الذين ماتورعوا عن سرقة العراق بكل إرثه وتاريخه وكنوزه وذكرياته وأحلامه ومسراته وأحزانه.هن جسد الجريمة التي إقترفها الطغاة في ظلمة الليل البهيم،وراحوا يعلنون قرفهم من هذا المشهد، الذي يقلل من هيبتهم أمام الناس، هن الشاهد والشهود على عمق الظلم الذي يجتاح العالم، هذا الأخير الذي يحترم القوي ويحتقر الضعيف، يرعى الغني مهما كان ملوثا وآثما ، ويتقزز من الفقير مهما كان صادقا وأصيلا.

أيتها الزايرات والحجيات اللواتي مازلن يفترشن الأسى ويلتحفن الرصيف، امكثن هناك فهذا هو الأجدر والأبقى، في زمن الخلط والإختلاط.دعكن من الأحلام والأمنيات والتأملات البلهاء،تحصن بإفلاسكن، ((فالمفلس في القافلة أمين)).وإياكن والتمني،(( فهذا رأس مال المفلسين)).ابقين طاهرات مقدسات غير آثمات ولا قاتلات، إرضين بالأقل القليل من البرايز والشلنات ، ولا تصبون الى الملايين والدفاتر والأوراق، فهذا من إختصاص اللصوص الكبار، الذين احتشد العالم برمته من أجل الدفاع عنهم.فيما تبقى زايرة بدوية منزوية وحيدة ، لا أحد يواسي ندوب روحها، سوى نشيج يداوي الروح حين تقول؛(( من بعيد جينه وإنشمرنه)) ومن هذا البعيد يكون التقاذف على أشده للعراقيين والعراقيات، للمواطنين والمواطنات، للبسطاء والفقراء منهم بطبيعة الحال.

تورنتو