منذ سنوات كان أَحد أبرز الشخصيات المصرية يسعى للوصول لمنصب دولي رفيع للغاية. وكان هذا الشخص (صاحب المحصول الأكاديمي النادر) على يقين من موقف الحكومة الفرنسية والذي مؤداه التأييد القوي لترشيحه لهذا المنصب. كذلك كان على درجة عالية من التأكد من مناصرة بلدان أخرى ذات وزنٍ كبيرٍ له مثل روسيا وألمانيا والصين والعديد من دول العالم الثالث. ولكنه كان بالغَ القلق تجاه موقفين هامين هما الموقف البريطاني والأمريكي (أي الموقف الأنجلوسكسوني). ونظراً لأنني كنت - وقتئذٍ – أشغل موقعاً بارزاً في مؤسسة اقتصادية كانت عندئذ أكبر مؤسسة اقتصادية أوروبية وبريطانية. نظراً لذلك، فقد تفضل الأستاذ بدعوتي للحوار معه حول الموقفين البريطاني والأمريكي وللحديث تفصيلاً عن إمكانيات تأثير المؤسسات الاقتصادية العملاقة على آليات صنع القرار في بريطانيا والولايات المتحدة. وأدت هذه الدعوة للحوار إلى العديد من الاتصالات التي كانت تحاول المساهمة المتواضعة في إنجاح جهود شخصية مصرية مرموقة للوصول لموقع دولي رفيع.
وقد لمست خلال تلك اللقاءات وما صاحبها من تعمقي في دراسة السيرة الذاتية لصاحبها أن هذه الشخصية الفريدة لها جوانب قوة عديدة وبعض جوانب الضعف. فقد لمست ثراء تكوينه العلمي وثقافي.. ولمست أيضاً أن تكوينه جاء ثمرةً لتيارين ثقافيين هما التيار اللاتيني والتيار العربي/المصري. ولكنني لمست في المقابل أنه يعامل الحضارة الغربية ككلٍ ثقافيٍّ واحدٍ.. وهو ما كانت تجربتي الثقافية والعملية قد قادتني لعكسه تماماً. فالأستاذ الذي كانت الثقافة اللاتينية هي المكوّن الأساسي في بناءه الفكري لم تبدر منه خلال العديد من اللقاءات ما يدل على وضوح حقيقة كبيرة أمامه وهي أن العقل الأنجلوسكسوني يختلف اختلافاً كلياً عن العقل اللاتيني. وأن فهم كل منهما للأمور ينبع من نقاط مختلفة ويتجه إلى غايات مختلفة. وقد دفعني وقوفي على تلك الملاحظة إلى توجيه رأي متواضع ينصحه بعدم بذل أي جهود من أجل تغيير الموقف البريطاني.. لأن ذلك ببساطة لن يحدث. فالموقف البريطاني لا يُؤسس على أرضية كتلك التي يُؤسس عليها الرأي الفرنسي. ومن الناحية الواقعية، كان الرأي البريطاني قد أُسس بالفعل، وحسب معرفتي وتعاملاتي الطويلة مع العقل البريطاني، فإنه من شبه المستحيلات أن يغيّر العقل البريطاني اختياراته التي كونها بالفعل في "مطبخ المصالح". وفي نفس الوقت ذكرت أن العقل الأمريكي وإن كان رافداً من روافد العقل الانجلوسكسوني إلاَّ إنه أقل "انجلوسكسونية" من العقل البريطاني، كما أن الواقع يساعدنا لأن الإدارة الأمريكية لم تعلن بعد موقفها وهو ما يسمح بقدرٍ معقولٍ من حريةِ الحركةِ. وأذكر أنني كررت للأستاذ الذي يدور هذا الحديثُ حوله أنه من الضروري تذكر تاريخ وجذور الانجلوسكسون للتيقن من أنهم مختلفون كثيراً عن أحفاد اليونانيين والرومان.

وفي يومٍ من أيام شهر ديسمبر 1991 تقلد الأستاذ المنصب الدولي الرفيع وشعر ملايين المصريين بفخرٍ واعتزازٍ شديدين. ولم يكد العام الأول من ولاية الأستاذ يمر حتى بدأنا نقرأ مقالات في الصحف والمجلات السياسية الأمريكية نقداً للأستاذ ولأسلوبه في العمل. ومع مرور الوقت، تأكدت أن "المدرسة الانجلوسكسونية" سائرةٌ في طريق الصدام مع الأستاذ. وكانت المقالاتُ التي تُنشر وما يردده دبلوماسيو بريطانيا والولايات المتحدة يؤكد لي أن الصدام قادمٌ لا محالة - فقد كانت سنوات تعاملي الوثيق مع العقل الانجلوسكسوني قد كشفت لي الطرق التي يبدأ بها الخلاف والتعبيرات التي تعبر عنه وتمهد للصدام في شكلٍ تصاعديٍ يندر أَلاَّ يكمل رحلته للنهاية. وعندما اقتربت ولايةُ الأستاذ من عامها الأخير - كانت الأمورُ واضحةً أمام عينيّ بشكلٍ لا يعتريه أي غموض : فالمطبخ السياسي الأمريكي (والبريطاني) لن يسمح إلاَّ بإنهاء باتر لولاية الأستاذ– وكنت على يقينٍ أن احتمالات "إصلاح ذات البين" معدومةٌ تماماً – لأن العقل الانجلوسكسوني لا يفهم معنى "إصلاح ذات البين" ولكنه يفهم معنى "المصالح" و"القوة". وجاءت أحداث سنة 1996 لتثبت لي أن الجانبين "الأستاذ" و"الانجلوسكسون" الذين يحكمون العالم المعاصر ينتميان لمناهج تكوين عقلي مختلفة اختلاف الليل عن النهار. وأن الرفضَ الانجلوسكسوني لم يكن منبعُه أن الأستاذ عربيٌ أو مصريٌ أو إفريقيٌ وإنما كان منبعه الأول والأخير أن الأستاذ يفكر بشكلٍ لا يفهمه العقل الانجلوسكسوني. كذلك غاب عن البعض أن المحصول التعليمي الرائع للأستاذ هي أمور لن تشفع له عند العقل الذي يرى في ذلك مجرد أَدوات لتدعيم المصالح والقوة. وعندما انتهيتُ من مطالعة الكتاب الذي وضعه الأستاذ الجليل في نيف وأربعمائة صفحة عن سنواته الخمس في ذلك الموقع الرفيع – إنتابني شعورٌ قويٌ بالأسى وأنا أتابع في كل صفحةٍ دليلاً جديداً على أن الصدامَ كان حتمياً وأنه لم يكن له من سبب إلاَّ تصوري الأول والذي فحواه أن صدام الأستاذ ورأس القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم كان أمراً لا يمكن تجنبه.

ورغم إعجابي بالأستاذ وثقافته الرحبة، فإن ذلك لا يمنعني من أن أقول أن تجربتي الخاصة مع العقل الانجلوسكسوني قد دلتني بوضوحٍ تامٍ أن التعامل مع القوى الانجلوسكسونية لا يمكن أن يخرج عن واحدةٍ من الحالاتِ أو الأنماطِ الثلاثِ التالية :
*الصدام معها؛ وينته هذا النمط عادة بنهايات تشبه ما حدث للاتحاد السوفيتي وصدام حسين ورئيس الدولة الأمريكية الوسطى الذي ألقت القوات الأمريكية القبض عليه وهو في عاصمةِ دولته ولا يزال مودعاً أحد سجون أمريكا وكذلك الرئيس اليوغوسلافي ميلوسوفيتش.
*أن يعرض إنسانٌ أو دولة خدماتها وهي مستسلمة بالكامل لإرادة القوى الانجلوسكسونية – وهنا فإن السيد الانجلوسكسوني لا يقبل إلاَّ إعطاء الفتات لمن عرض "دور الخادم".
*أن يخلق الطرفُ غير الانجلوسكسوني لدى الطرفِ الانجلوسكسوني احتياجاً كبيراً للطرف الأول ثم يجيد (بمهارة وببعد كامل عن اعتبارات الصداقة والود والعاطفة) تسويق دوره والذي يكون محققاً لمصالحه هو بقدر لا يقل أهمية عن توافقه مع مصالح (أو بعض مصالح) الطرف الانجلوسكسوني.
وهدفي من هذه الكلمات أن أُسلط الضوء – في هذه المرحلة الخاصة من مراحل تطورنا – على الأنماط الثلاثة المتاحة للتعامل مع القوة الانجلوسكسونية (والتي تحكم عالم اليوم) وعواقب كل نمطٍ منها وأَن أُحذر من مغبة النمط الثاني بنفس القدر الذي أُحذر به من مغبة وسوء عاقبة النمط الأول.