ثارت مؤخرا ازمة بين الحكومتين الفرنسية والاسرائيليه بسبب تصريحات قالها ارييل شارون امام جمع من اليهود الاميركيون فى القدس دعا خلالها اليهود الفرنسيون الى المسارعة بالهجرة الى اسرائيل. هذه الدعوة الصريحة المباشرة تعد انعكاسا لتقرير اصدرته المراقبة الاوروبية لمكافحة العنصرية فى آخر ايام شهر مارس الماضي قالت فيه ان الهجمات ضد اليهود فى اوروبا زادت بشكل كبير. وبالرغم من ان هذه الزيادة تشمل خمسة دول هى بلجيكا وفرنسا والمانيا وهولندا وبريطانيا، الا ان اختيار شارون لفرنسا يحمل فى طياته اعتراض على مواقف باريس من السياسات العنصرية الاحتلالية التى تقوم بها قواته المسلحة ضد الشعب الفلسطينى الاعزل ويحمل ضغطا مشتركا مع واشنطن لاثنائها عن مواصلة العزف على هذه النغمة ويحمل ايضا تهديدا لغيرها.
ينظر المراقبون للشأن الدولى الى فرنسا باعتبارها ساحة لتلاقي الافكار المختلفة والمتعارضة دون ان يكون بينها صدام دموي او قلاقل غير محمودة العواقب، ويشهد الجميع ان اليهود الفرنسيين هم من اكثر المواطنين استفادة من هذه الاجواء برغم قلتهم العددية ( حوالى 600 الف نسمة ) مقابل المسلمين الفرنسيين ( حوالى 6 مليون ). هذا التلاقي يسمح بطرح كافة الافكار والآراء عبر وسائل الاعلام والمؤسسات النيابية والتجمعات الادبية والفنية دون ان يترك وراءه خلل او تصدع فى البنية الثقافية او الاجتماعية التى تميز فرنسا عبر فصول تاريخها.
الثابت اعلاميا ان كلام شارون وحد الساحة السياسة الفرنسية المولعة بالخصام والمشاكسة طوال حياتها وحد الحكومة والمعارضة واليمين واليسار، الى الدرجة التى جعلتهم يرفضون ما جاء على لسانه ووصفوا أقواله بانها " الساخرة المتعمدة " بانها احدى وسائل زيادة مؤشر معاداة السامية فى البلاد. ووصف بعض السياسيين دعوته لليهود الفرنسيون بالهجرة الفورية الى اسرائيل بانها " انفجار لم يحسب حساب الخطوات التى اتخذتها الحكومة الفرنسية لكبح جماح اساليب معاداة السامية ". حتى ريتشارد براسكيير زعيم مجلس المنظمات اليهودية فى فرنسا اتهمه بانه يسكب البنزين على النار المشتعلة وقال " اننا لا نقبل مثل هذه التصريحات التى لا تتحرى الحقيقة لان المئات من اليهود يستعدون للهجرة فعلا " واكد
2 -
ان دعوة شارون توحي بان اليهود الفرنسيين يعانون من اوضاع بالغة السوء " وهذا غير صحيح بالمرة ".
تقول تقارير الشرطة الفرنسية ان فئات كثيرة من المجتمع تتعرض لاعتداءات وتحرشات عنصرية فى بعض الاحوال، وليس الامر قاصر فقط على اليهود بل يشمل فى احيان كثيرة مسلمين.. وتقول ان مرتكبي هذه الافعال ليسوا جميعا من العرب، بل ان غالبيتهم من العناصر الشابة التى تتبنى افكار النازية الجديدة.. وتقول ان الاعتداء ليس بدنيا او ماديا فى كل مرة كما يدعى اليهود، بل يمكن القول انه فى معظم الاحوال شفهي ولفظي.. وتقول ان الغالبية العظمى من الشعب الفرنسى تعرف كيف تفرق بين مواطنيهم من الفرنسيين اليهود وبين افعال حكومة اسرائيل.
الازمة المثارة ليس سببها كما تدعي حكومة اسرائيل فشل حكومة باريس فى وقف الاعتداءات التى يتعرض لها اليهود فى فرنسا، ولكن انعكاسات تصريحات شارون على الدعوة الصادقة التى تبناها الرئيس جاك شيراك مطالبا كل مواطن فرنسى رجل وامرأة من كل لون وجنس ودين " بان يقاوم كافة اشكال التمييز العنصري ومعاداة السامية باعتبار ان كل مواطن له نفس الحقوق التي للآخرين ولديه نفس الولاء الذى تتطلبه الدولة العلمانية ". فى الوقت الذى أخذت فيه هذه الدعوة طريقها للتفاعل على مستوى الشارع الفرنسي، ادلى شارون بتصريحاته مشيرا من طرف مباشر الى ان اليهود الفرنسيين ليسوا سوى " يهود فى المنفى " وزاد على ذلك " انهم يعيشون فى خطر يحتم عليهم حزم حقائبهم والعودة الى ديارهم ". وبالرغم من أنهذه الدعوة ليست الاولى على لسان شارون، الا انها المرة الاولى التى يصف بها احوالهم بانها ليست على مايرام بمعنى انهم لا يستطيعون العيش فى سلام الى جوار المسلمين الفرنسيين الذين يبلغ عددهم 6% من تعداد سكان فرنسا الاجمالى.
هذا التوجه المزيف الذى حاول شارون التستر به لتعليل تصريحاته جعل بعض الكتاب الفرنسيين الذينيقولون ان اسرائيل وفق المنطق الشارونى لا تتمتع بالسلام الذى يمكن ان يؤمن فيه اليهود الفرنسيون على حياتهم " لان مساحة اسرائيل الاصلية تضم بين جنباتها شرائح عريضة من العرب والمسلمين تصل الى 20% من تعداد سكانها وليس 6% فقط، كما ان كل سكان الاراضي التى تحتلها فى غزة والضفة منذ عام 1967 عرب ومسلمون
3 -
زرعت بينهم فئة ضالة من المستوطنين المهاجرين اليها من انحاء مختلفه حول العالم .. وجعل بعضهم يتهكم عليه مؤكدا عودة حوالى 26 الف من يهود فرنسا البالغ عددهم حوالى 60 الف الذين هاجروا الى اسرائيل منذ اعلان قيامها فى عام 1948 بسبب احوالها المعيشية التى لا تتوافق مع احيتاجاتهم وبسبب صدمة الانتقال المتدنى الذى احسو به عندما قارنوا ماضيهم بمستقبل ايام اولادهم فى " الوطنى القومى الذى انتقلوا اليه ".. وجعل صحيفة لو فيجارو الرصينة تعنون صفحة عدد اليوم التالى لتصريحات رئيس حكومة اسرائيل " شاورن يشتم فرنسا ".
المخالفون من اليهود الفرنسيون لسياسات اسرائيل يعتبرون انفسهم مواطنين فرنسيين يدينون باليهودية وينظرون الى تصريحات رئيس وزارئها من زاوية انه يقوم بـ " محاولة فاشلة " لدفعهم قسرا الى الهجرة وفق تصريحات عنصرية ليس لها وجود ولاسباب دينية خالصة ولمبررات وجدانية ليس لها محل من الاعراب. الفرنسيون من اليهود عندما يخططون للهجرة الى اسرائيل كما يقول براسكيير " لا يربطون ذلك بتدهور احوال ليس له ظل من الواقع، ولا يمكن ان يشاركوا فى تزييف حوادث مماثله لما شهدته المانيا عام 1934 ".
مشكلة المجتمع الفرنسى – مثله فى ذلك مثل كل المجتمعات الاوربية دون استثناء - انه اصبح مقيد اليدين فيما يتعلق بامكانية انتقاد سياسات دولة اسرائيل دون ان يتعرض للوقوع فى قبضة محاذير معاداة السامية !! حتى اليهود الفرنسيون هذا هو مربط مخاوفهم منذ ثلاثة عقود على الاقل. هذه الظاهرة ليست جديدة لا على المجتمعات الاوروبية ولا على غيرها، ولكنها اتخذت مؤخرا شكلا جديدا من التركيز بعد ان تصاعدت وتيرة الاعتراض والانتقاد لسياسات حكومة شارون ضد الفلسطينيين التي تأخذهم بالقتل والتشريد وتعمل عنصريا على تدمير حياتهم ومستقبل اولادهم.
وبدلا من ان تعدل حكومة شارون من اساليبها القمعية ولرفضها المتواصل لنهج التفاوض مع السلطة الوطنية الفلسطينية لاجل اقامة سلام عادل بين الطرفين، تتهم فرنسا بان قادتها يتعمدون عدم الالتفاف للاثار السلبية الناجمة عن تعرض اليهود الفرنسيون لاعمال مناهضة للسامية باعتبارها اعمال هجومية مثلها مثل غيرها.. وتتهم بعض صحفها الحزبية بانها تساهم فى ابعاد اليهود الفرنسيين عن حقيقة ما يدور فوق ارض اسرائيل عن
4 -
طريق تعمد وصف الاحداث من منظور يرضي شعوب الشرق الاوسط وفتحهم النوافذ لانتقادها خصوصا امام الاقلام اليهودية.. حتى القضاء الفرنسي لم يسلم من الاتهام حيث تدينه وسائل الاعلام الاسرائيلية بانه يخضع للضغوط التى تمارسها الملايين من المسلمين حين يحكم على المعتدين على اليهود الفرنسيون او ممتلاكاتهم او مدافنهم بالسجن بثلاثة اشهر فقط مع وقف التنفيذ !!.
هذا التوجه الحكومي الذى لا يراعي اصول المعاملات بين الدول وهذا الاتهام المؤسس على غير منطق جعل الكاتب الصحافي ابراهام تروش يكتب فى صحيفة معاريف بتاريخ 21 الجاري مدعيا ان نصف الحوادث التى توصف على مستوى العالم بانها معادية للسامية " تقع فى فرنسا " ويضيف " تصريحات شارون تعكس مسؤولية اسرائيل تجاه اليهود فى انحاء العالم، لان احدى المسؤوليات المركزية لرئيس الحكومة هى تشجيع الهجرة الى اسرائيل عن طريق العمل على نزوحهم من دولهم اليها لان ذلك يمثل احدى غايات الدولة " ليس هذا فقط بل يضيف " شارون لم يتدخل فى شؤون فرنسا بل ابدى نوعا من الرعاية للشعب اليهودي فيها " !!.


* استشاري اعلامي مقيم فى بريطانيا