يُوجَه إلى "الليبراليين الجدد" تهمة أنهم ديموقراطيون على المستوى النظري فقط، لكن متى تعلق الأمر بالتطبيق على أرض الواقع، فإنهم سرعان ما يتراجعون عن مبادئهم، إذا ما أتت رياح الديموقراطية بغير ما يشتهون، أي أنهم ديموقراطيون قولاً، ديكتاتوريون فعلاً، وليس فقط فلول الفاشية الجديدة بشرقنا هي التي تتبنى هذا المنطق شديد الإيغال في المغالطة، وإنما أيضاً سدنة الليبرالية في العالم الغربي في عالم ما قبل 11 سبتمبر 2001 ، وإن اختلفت الدوافع والمنطلقات.
فنظرة الليبراليين الغربيين إلى الأمر تتسم بالسطحية، والجهل بواقع المنطقة وطبيعة الأفكار والأيديولوجيات السائدة فيها، لكنها تنطلق في ذات الوقت من الصدق مع المبادئ الليبرالية والإيمان العميق بقدرتها على الانتصار في النهاية.
أما السادة الفاشيون الأصوليون الشرقيون، والذين نعرفهم جيداً - وبالقدر غير المتاح لعلماء الغرب ومنظريه ومخططي سياساته – فموقفهم طريف ومثير للاحتقار في آن، فهو أشبه بإنسان يقول لك: إذا كنت حقاً متسامحاً وترفض العنف فدعني أذبحك!! لقد قالت إحدى الجماعات الإرهابية كانت قد اختطفت طائرة وقتلت بعض ركابها، أنها تريد أن تذهب بالطائرة إلى أي دولة لا تطبق عقوبة الإعدام . . هذا مثال فج، يوضح كيف يستغل الأصوليون القادمون إلينا من القرون الغابرة حضارتنا وأخلاقنا، كما لو كانت نقطة ضعف ينفذون لنا منها، أو أليس من النذالة إذا ما فتحت لك ذراعي مرحباً، أن تعانقني لتغرز خنجرك في صدري؟!!
بالقطع لا تكفي العبارات الإنشائية السابقة لتوضيح الأمر، وجلاء الالتباس النظري، الذي يؤدي لأن تكون الصورة كما لو كانت مصداقية الليبرالية والليبراليين تتداعى، أو سقطت بالفعل، فالمشكلة تكمن في سوء فهم لكلمة ديموقراطية، ولاشتراطات تطبيقها.
فالديموقراطية هي الكلمة الأكثر تكراراً، ليس فقط على ألسنة المثقفين والساسة، لكن حتى على ألسنة العامة من الناس، كأنها كلمة السر التي تفتح أبواب الجنة الأرضية الموعودة، فتتحرر الشعوب المقهورة، وتغتني الفقيرة، تتبدل جميع الأحوال السيئة، ليعم الرخاء والرفاهية، لكن واقع الحال على الساحة العالمية يدلنا على تجارب ديموقراطية أتت فعلاً بثمارها المتوقعة، بينما تجارب أخرى كانت نتيجتها مخيبة للآمال، وعلى رأسها التجربة الديموقراطية التي أتت بالخوميني من منفاه محمولاً على الأعناق، بإرادة شعبية كاسحة، لا قبل لصناديق الانتخاب التقليدية بإبراز نظيرها، لتكون النتيجة ما رأيناه، ومازلنا نراه من قمع وتدهور لأجهزة دولة كانت - رغم نظامها السياسي السابق البغيض - تطمح لأن تجد لنفسها مكاناً في مقدمة الصفوف، وكان يمكن أن تصل الجزائر لمصير إيران، لولا تدخل الجيش لمنع سقوطها في براثن الثيؤقراطية عبر بوابة صناديق الاقتراع الديموقراطية، ولا ينبغي أن ننسى أن الديموقراطية في أثينا القديمة هي التي حكمت على سقراط بالموت، فقد رفضت الغوغاء أسئلة سقراط المقلقة، كما رفضها أولو الأمر، خوفاً مما تثيره من قلق قد يوقظ الناس من غفوتهم المريحة، فكان من السهل على قلة مفوهة ومخادعة قيادة الغوغاء، لتحكم على أعظم الحكماء بالموت، بتجرع كأس الشوكران.
هنالك سؤال محوري واحد، يمكن صياغته بعدة طرق:
•كيف يمكن أن يكون للتطبيق الديموقراطي نتائج متضاربة؟
•ما هي الظروف التي تجعل الديموقراطية تعيد إنتاج الماضي الشمولي، بل والوقوع في هوة الثيؤقراطية السحيقة؟
•ما هي الشروط اللازمة لتحقق الديموقراطية النتائج المتوقعة منها وليس العكس؟
•ما الفرق بين الديموقراطية والديماجوجية؟
الكلمتان ديموقراطية وديماجوجية أصلهما اللغوي متقارب من حيث اشتمالهما على مقطع demo أو dema بمعنى الشعب أو الجماهير، والكلمتان في المفهوم الاصطلاحي بالقاموس السياسي يجمع بينهما عنصر مشاركة الجماهير أو الاعتماد عليها، ومع ذلك فالمفاهيم المحملة عليهما يفصل بينها زاوية شديدة الانفراج، فالديموقراطية تعني حكم الشعب، وينضوي تحت هذا التعريف مفهوم حكم الأغلبية، فيما الديماجوجية محمل عليها مفهوم حكم الغوغاء، ومن الواضح أن الديموقراطية والديماجوجية متشابهتان من حيث المظهر العام، مختلفتان من حيث المضمون، وهذا واضح في حكم القيمة الذي يُخلع على رأي الجماهير في كلتا الحالتين، ففي الحالة المسماة ديموقراطية يطلق على رأي الجماهير تسمية "رأي الأغلبية"، وهي تسمية توحي بانطباع إيجابي عن محتوى الاصطلاح أو التسمية، بعكس التسمية المطلقة على رأي الجماهير في حالة الديماجوجية وهي "حكم الغوغاء"، بما يعكس إيحاء سلبياً، مصدره كلمة "غوغاء" وهي حكم قيمة على الجماهير، تتضمن أوصافاً غير حميدة كالجهل والعاطفة الجياشة غير المبررة ولا المنضبطة، والقابلية للانخداع، والاندفاع خلف من ينجح في استثارة عواطفها وغرائزها البدائية، مما يجعل رأيها في النهاية غير رشيد، ويؤدي إذا ما تم السير على هديه إما إلى الفوضى، أو ارتكاب جرائم مثل جريمة قتل سقراط التاريخية، أو جرائم التطهير العرقي، ومصادرة الأعمال الإبداعية، وإعدام المبدعين أدبياً وفيزيقياً، وهو ما يحدث كثيراً في شرقنا، تحت ضغط الجماهير، التي تكون عندها تستحق عن جدارة لقب "غوغاء"، فالكثير من جرائم التاريخ كان للجماهير (الغوغاء) اليد الطولى في ارتكابها، ليس فقط بتحريض من محترفي قيادة الغوغاء تحقيقاً للدوافع الشخصية، وإنما أيضاً بالمبادرة الذاتية للجماهير تفريجاً عن نوازعها وميولها، التي غالباً ما تعادي كل جديد، وتغتنم الفرص لممارسة العنف والتخريب الجماعي، فمتى يحق لنا إذن أن نعتبر الأخذ برأي الجماهير ديموقراطية، ومتى يجدر بنا أن نعتبره غوغائية؟
لا نميل للتفرقة بينهما على أساس تحكيم العقل في حالة الديموقراطية، وتحكيم العواطف غير المحكومة في الديماجوجية، فليس هنالك في الحقيقة ما يسمى عقل وعاطفة في حالة انفصال، حتى الفلاسفة لا يجب أن يصدقوا أنفسهم – أو نصدقهم – في أن إنتاجهم العقلي النظري منتج عقلي محض، كذلك من المبالغة وصم الجماهير – مهما كانت درجة تخلفها – بأنها تُعمل عواطفها فقط بدون عقل، فالفارق – على الأقل فيما يتعلق بموضوعنا – هو في المناخ الثقافي الذي يسود المجتمع، فإذا كان المناخ ليبرالياً، يعشق الناس فيه الحرية، ويعدونها قيمة عليا، لا تعلو عليها قيمة أخرى في الحياة، مما يستدعي ترحيبهم بالتعددية، وقبولهم بالآخر، ليس فقط من منطلق التسامح، كأن وجود آخر جريمة في حد ذاته، لكنني لفرط أخلاقي الحميدة أقابلها بالتسامح، ولكن من منطلق أن طبيعة الحياة أساساً مبنية على الاختلاف، وأن الإنسان – دون باقي الكائنات – فرد فريد unique لا يتكرر، فهو غير قابل للاستبدال شأن أي حيوان يمكن تعويضه إذا فقد، بحيوان آخر مماثل في النوع والوزن والحجم، وأنه بهذا ليس نسخة من أي فرد آخر، لا جسدياً ولا عقلياً، وأنني إذا ما حاولت بنيَّة طيبة ونوازع طوباوية ورومانسية، أن أجعل خيارات عقول من حولي مماثلة تماماً لخيارات ما أتصوره عقلي النابه الألمعي، فإنني أكون كمن يحاول اغتيال هؤلاء، حتى ولو بموافقة منهم، لأنني أعمل على تغيير طبيعتهم الإنسانية الفريدة، إلى طبيعة أخرى قابلة للاستنساخ والتكرار مثل طبيعة الدواب، لهذا قال جيته: "كن رجلاً ولا تتبع خطواتي"، وقال فولتيير: "إني أختلف معك في الرأي، ولكني مستعد لأن أدفع حياتي ثمناً لحقك في إبداء رأيك".
المسألة إذن ليست مسألة السعي لتطبيق الديموقراطية، كأسلوب أمثل للتحديث والتنمية، فالديموقراطية ليست قيمة في حد ذاتها، لأنها قيمة تابعة، أي تتبع قيماً أخرى مثل قيمة الحرية وقيمة حق التميز والتفرد والتعددية، فالديموقراطية في الحقيقة ليست أكثر من آلية لصنع القرار، تتميز بمراعاة أراء أكبر عدد ممكن من الناس، فإن كانت الثقافة السائدة ثقافة ليبرالية، جاءت النتيجة في صالح الأغلبية والأقلية، بل وكل فرد فريد في المجتمع، أما إذا كانت الثقافة السائدة شمولية، فإن تطبيق آليات الديموقراطية سيؤدي إلى خنق الأقلية ومحاصرتها، وخنق الأفراد وسلبهم حقهم الطبيعي في التفرد، إلى أن يؤدي في النهاية إلى خنق الأغلبية المسيطرة ذاتها، وهذا ما حدث في التطبيق الماركسي بديكتاتورية البروليتاريا، التي هي نوع من الديموقراطية في مناخ شمولي، أو في التجارب الثيؤقراطية بحكم ما يمكن أن نطلق عليه "حزب الله".
كلمة ديموقراطية إذن في حد ذاتها لا تعني شيئاَ، إلا إذا تم نسبتها لمناخ سياسي واجتماعي وثقافي ما، فليس صحيحاً ما يتصوره البعض أو يدعيه من أن الديموقراطية نظام ليبرالي، وأن أي نظام آخر كالأنظمة الشمولية يفتقد للديموقراطية بمفهوم الأخذ برأي الأغلبية، رغم ما قد يدعيه من تسميات أغلبها تحتوي على الكلمة، هذا الاعتقاد خاطئ تماماً، فرأي الأغلبية ليس من المحتم أن يكون عن طريق صندوق الاقتراع التقليدي على النمط الغربي، فمجيء الخوميني للسلطة كان بعملية ديموقراطية لا ريب فيها، كذلك التفاف الجماهير حول عبد الناصر، وحتى حول صدام في العقدين الأولين من حكمه، حتى الثورة البلشفية - رغم الأهوال التي صاحبت انتصارها – تضمنت نوعاً ما من سيادة رأي الأغلبية.
هنالك إذن نوعين أساسيين من الديموقراطية:
•الديموقراطية الليبرالية: وفيها يسود رأي الأغلبية مع تقديس حقوق الأقليات وحقوق الفرد.
•الديموقراطيات الشمولية، وتشمل مايلي:
1.ديموقراطية الطبقة الواحدة: مثل ديكتاتورية البروليتاريا في الأنظمة الشيوعية.
2.ديموقراطية الحزب الواحد: مثل الحزب النازي والفاشي وحزب البعث العربي والحزب الناصري (الاتحاد الاشتراكي) والأحزاب الدينية (حزب الله).
3.ديموقراطية النظم الأبوية: مثل النظم القبلية، فشيخ القبيلة يتقلد سلطته بناء على ما يشبه الإجماع الشعبي، ويحكم وفق تقاليد وأعراف غير قابلة للتجاوز، يؤمن ويقر بها جميع أفراد القبيلة.
فهذه النظم جميعاً تمثل على الأقل في بدايتها رأي أغلبية شعبية، وهي بذلك بحكم التعريف ديموقراطية، لكنها ديموقراطية فاشية، تُسخَّر في النهاية لصالح الطغمة الحاكمة، سواء كانت قيادة الحزب الجماعية، أو الديكتاتور الجالس على رأس السلطة، ومع ذلك فإنه من التصورات غير الصحيحة أن نظاماً ما يمكن أن يستمر يوماً واحداً بغير استناد إلى قاعدة جماهيرية عريضة، حتى لو كان نظاماً بوليسياً من الدرجة الأولى كأنظمة حزب البعث، وهذا هو الدرس الواجب أن نتعلمه من وجود قاعدة شعبية بالعراق حتى الآن، علاوة على سائر الأقطار المسماة بالعربية، تهتف للفأر المذعور صدام حسين، وقواعد شعبية متعددة في أنحاء شرقنا تعتبر عبد الناصر بطلاً قومياً صنديداً، ناهيك عن الملايين التي ودعته وهي تجهش بالبكاء إلى مثواه الأخير،ألم يكن هذا استفتاء ديموقراطياً على رأي الشعب في مجمل عصر عبد الناصر؟!!
ضالتنا وحلمنا إذن هو الليبرالية، بكل ما تتضمنه من نظم ديموقراطية وعلمانية ومجتمع مدني، وتعددية باختلاف تصنيفاتها، وقيم إنسانية رفيعة، تبدل وجه الحياة في شرقنا المتشرنق في كهوف الأزمنة الغابرة، ليبرالية تحيل القطاعات الغوغائية العريضة من شعوبنا إلى كائنات بشرية متحضرة، تقدس قيمة الحرية، معطية إياها الأولوية والأسبقية على كل ما عداها من قيم، فعندها، وعندها فقط ستثمر الديموقراطية ما يتوقعه منها الأحرار من ثمار، ولا تعود بعد أداة في يد الفاشيين، يستأصلون بها الحضارة من أرضنا.


[email protected]