... بإسرائيل وأمريكا؟!

-1-

شاهدت في الأيام الماضية برنامجاً في احدى الفضائيات اللبنانية عن الحالة السائبة والمتدهورة والتراجيديا السوداء المُقامة الآن في أراضي السلطة الفلسطينية، بفضل طيبة شعب، وديكتاتورية مختار وصاحب "العزبة" الفلسطينية. وقد كان معظم ضيوف هذه الحلقة من عناصر "القبيلة الفتحاوية" الحاكمة في أراضي السلطة الفلسطينية، التي تحكم وتتحكم بالعمل الفلسطيني منذ عشرات السنين، ممثلةًً بشخص واحد أحدْ وفرد صَمَدْ، هو ياسر عرفات (1929- ) البطل الأزلي – على ما يبدو – في التاريخ الفلسطيني الحديث، والتي تسيطر على القرار الفلسطيني منذ عشرات السنين سواء في الحرب وفي السلام - ولهذا، فلا أصاب الفلسطينيون حرباً ولا سلاماً – والتي تسيطر على المال الفلسطيني منذ عشرات السنين، ولهذا فلا ثورة في الثورة كما دعا من قبل المرحوم عمر الخطيب (سلسلة مقالات في "القبس" الكويتية، 1984) ، ولا انتفاضة من داخل فتح، لأن الواحد الأحدْ والفرد الصَمَدْ يُمسك بالمال الفلسطيني الذي هو مال ياسر عرفات ومال آبائه وأجداده، ويضع دفتر الشيكات الفلسطينية في جيبه، ولا توقيع على فلس يُصرف ما لم يكن ممهوراً بتوقيع القائد الأزلي.

لقد كان غباءً وتجنياً على القضية الفلسطينية أن يعكف الإعلام العربي بين حين وآخر على احضار عناصر من "القبيلة الفتحاوية" الحاكمة في فلسطين لمناقشة سبب فساد الحكم الفلسطيني، ولماذا يسفّ الفلسطينيون تراب الديكتاتورية وهم مجبرون، صاغرون، طائعون، ساجدون، شاكرون، حامدون؟

فماذا يمكن للفتحاويين الحاكمين الآكلين الناهبين السارقين أن يقولوا لوليّ النعمة، وولي الأمر، الآمر الناهي، القابض على الدينار الفلسطيني، قبض الصقر على طائر الحبارة، وهم الذين قتلوا الحرّاس، وفكّوا الترباس، وشفطوا اللبنات، كما وصفهم أمثالهم من قبل، أحمد فؤاد نجم في أغنيته المشهورة (بقرة حاحا) التي غنّاها الشيخ إمام عيسى بعد هزيمة 1967؟

كيف يجرؤ أي مسؤول فلسطيني داخل فتح أو خارجها أن يقول للشعب الفلسطيني أن سبب الفساد هو الحوت الفلسطيني الذي يقشُّ في طريقه كل ما يمكن أن يؤكل. وأن نجاة الشعب الفلسطيني وخلاصه لن يتمان إلا بدقِّ رأس المسمار الكبير. وأن غير هذا الكلام ما هو إلا هُراء، وطحن هواء، وأكل خراء، وتجديف، وضياع وقت؟

كيف يطالب الفلسطينيون بالاصلاح ومفتاح الاصلاح في جيب ياسر عرفات، والذي يرفض تسليمه لأحد، لأن ذلك يعني نهايته كقائد أزلي. ولذا، أجبر محمود عباس على الاستقالة، وطرده من ساحة السياسة الفلسطينية. ولكن محمود عباس باقٍ في ذمة التاريخ الفلسطيني بالحق، وفي الوعي الفلسطيني بالحقيقة. كما أجبر عرفات أحمد قريع على تقديم استقالته بأن حرمه من ممارسة صلاحياته، وافتعل مسرحية "رفض الاستقالة"، وهو الممثل المسرحي السياسي الفاشل، فلا دور له في المسرح السياسي العربي والاقليمي والعالمي إلا فتح الستارة واغلاقها؟

من يجرؤ من المسؤولين الفلسطينيين من خارج "القبيلة الفتحاوية" أو من داخلها على أن يعلن أن رأس السلطة الفلسطينية هو الفاسد أولاً، ودون ذلك لن يتم أصلاح أو فلاح، وكافة المسؤولين الفلسطينيين يأكلون رغيفهم من مخبز عرفات، ويشربون من بئر عرفات، ويشوون لحومهم على موقد عرفات، وينامون على سرير عرفات؟

-2-

الشعب الفلسطيني الطيب، حين يُسئل عن سرِّ الفساد في السلطة الفلسطينية يقول بكل بساطة وطيبة، إن السبب هو اسرائيل وأمريكا. ولأن أمريكا واسرائيل تطالب بازاحة عرفات وتنحيته، فإن الشعب الفلسطيني يصر على ابقائه ليس حباً في عرفات ولكن نكايةً باسرائيل وأمريكا.

ولو قالت امريكا واسرائيل للفلسطينيين غداً إن الشمس تشرق من الشرق، وتغرب من الغرب، لرفض الفلسطينيون ذلك، ليس جهلاً، أو انكاراً للحقيقة العلمية، ولكن نكايةً باسرائيل وأمريكا.

نعم، إن سكوت الشعب الفلسطيني على بقاء عرفات واستمرار فساد حكمه على هذا النحو الشنيع متأتٍ بالدرجة الأولى من أنه نكايةً باسرائيل وأمريكا، وليس حباً بعرفات الذي ألقم الفلسطينيين حصىً في أفواههم حتى لا يقولوا الحقيقة. وكانت هذه الحصى امساكه وقبضه على المال الفلسطيني، لكي يُطعم به من يشاء، ويجوّع به من يشاء، ويكسي به من يشاء، ويعرّي به من يشاء. وهذا الامساك والقبض على المال الفلسطيني ليست سُنَّة جديدة استنها عرفات، بل هي تراث عربي سياسي قديم، منذ ظهر الإسلام إلى اليوم.

فقد نقم الأنصار على المهاجرين في عهد الرسول، لأن الرسول كان يخصّ المهاجرين بأكثر أموال الغنائم، ويخصَّ قريش – قومه - دون غيرها بالهبرات الكبار من الغنائم، ويُبقي الفتات لمن هم دونهم منزلةً (أنظر كتابنا: المال والهلال).

فمن قتل الخليفة عثمان بن عفان غير احتكاره للمال العام له ولاقاربه من بني أمية؟

ومن ذلَّ المسلمين، وجعلهم يخضعون لحكم بني أمية غير المال الذي أمسك به معاوية بن أبي سفيان، وقال فيه قولته المشهورة: "أنا خليفة الله على أرضه، والأمين على ماله" ( والأمين تعني هنا المالك الوحيد)؟

وامتد مسلسل قبض الحاكم على المال العام واستملاكه له منذ ذلك الوقت إلى الآن.

وعرفات جزء من التراث السياسي العربي الممتد. لذا، فهو لم يأتِ بجديد عندما قبض على المال الفلسطيني العام وجعله ماله الخاص، منذ أن تولى رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1969 .

-3-

لم يكن المال العام مَشاعاً عاماً للحاكم في التراث العربي السياسي فقط، ولكنه كان مَشاعاً عاماً في التراث السياسي الانساني المظلم كله.

فالحاكم المطلق، صاحب الحق الإلهي في أوروبا في القرون الوسطى وما قبلها، كان ماله هو مال الدولة. ولا فرق بين المال العام ومال الحاكم الخاص. مثله في ذلك مثل الحاكم العربي قديماً وحديثاً.

ولكن ما الذي حال بين اختلاط المال العام بمال الحاكم الخاص، بعد ذلك؟

انها وسيلة واحدة فقط وهي: شفافية الديمقراطية.

شفافية الديمقراطية هي الحارس الوحيد على المال العام من سطو الحاكم وحاشيته عليه.

ولماذا كانت الشفافية الديمقراطية هي الحارس الوحيد على المال العام من سطو الحاكم وحاشيته عليه؟

لأن الشفافية الديمقراطية هي حرية الرأي والرأي الآخر.

هي حرية الإعلام.

هي كشف المستور، والمسكوت عنه، والمُحرّم، والمقدس، والمحظور.

هي الرقيب على السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.

فلا سرقة للمال العام إلا وتظهر، ولا محاولة للسطو على المال العام إلا وتُحبط، ولا محاولة لسلب المال العام إلا ويُلقى القبض على المجرمين.

وفي غياب شفافية الديمقراطية وسيطرة عتمة الديكتاتورية ينتشر الظلام، وتعمّ الفوضى، وينتشر اللصوص للسطو والنهب.

وفقدان الشفافية الديمقراطية في العالم العربي هو السرُّ الأكبر والسبب الأخطر لنهب المال العربي العام على النحو الذي نراه الآن. ولا حول لنا ولا قوة إلا الشكوى لله القادر وحده - إذ لم تتدخل قوى الأرض العظمى – على كشف الغمّة عن ظهر الأمّة.

وفقدان شفافية الديمقراطية في السلطة الفلسطينية وسيطرة الديكتاتورية الفتحاوية التي حوّلت فلسطين إلى "مزرعة ثورية" و"ضيعة نضالية" و "عزبة تحررية"، هو سبب سفّ الفلسطينيين للتراب والنوم في العراء، دون أن يقول:

آآآخ.. يا بطني!

وكل ذلك نكاية باسرائيل وأمريكا.

-4-

النكاية سلاح عربي معروف في التاريخ العربي المعاصر ولكنه ثلمٌ، ولا يقطع رأس بصل.

الشريف حسين بن علي – شريف مكة – وقف إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى نكايةً بتركيا والمانيا، وهو يعلم أن الحلفاء سيكذبون عليه، ولن يولوه مُلك العرب.

عبد الناصر في 1956 أمم قناة السويس نكايةً في الغرب الذي تخلّى عن تمويل السد العالي، وهو يعلم بأنه مشروع اقتصادي خاسر، وسيجر الكوارث على مصر.

عبد الناصر في 1958 قبل الوحدة الطفولية مع سوريا نكايةً بالأنظمة الملكية العربية المحافظة، وهو يعلم أنها وحدة انفصالية، فصلية، (مُشمشية) لن تدوم غير موسم واحد أو موسمين على الأكثر. وأنها ليست وحدة، ولكنها طلبٌ من عبد الناصر شخصياً لكي يحكم سوريا، ويشملها ببركاته السياسية، باعتباره كان "بابا العرب" السياسي في الخمسينات والستينات، وقبل هزيمة 1967.

السادات في منتصف السبعينات احتضن التيار السياسي الديني في مصر نكايةً بالتيار الناصري وكسراً لعظامه، لا حباً فيه ولا ايماناً برسالته، فكانت الطامة الكبرى التي أودت بحياة السادات نفسه، ونشرت الارهاب في العالم العربي الذي انتشر كانتشار البعوض والناموس، نتيجة لقنوات الصرف الصحي السياسي المهترئة والمفتوحة على جانبيها.

الإخوان المسلمون في 1990 وقفوا إلى جانب الطاغية صدام في عدوانه الأثيم على الكويت والسعودية، لا حباً بالطاغية – كما ادعوا – ولكن نكايةً بامريكا ونكايةً بالغرب الكافر المستعمر الذي يعيش في جاهلية مُطبقة كما قال سيد قطب في (معالم في الطريق).

حافظ الأسد في 1991 أيّد ضرب العراق، وأرسل قواته إلى الخليج لتقاتل صدام إلى جانب قوات التحالف، لا حباً في امريكا ولا حباً في الخليج ولكن نكايةً بصدام حسين الذي كان الأسد يكرهه كُره العمى.

والعربان الآن في سرادقات العزاء، وعلى مصاطب المساء يبكون صدام وعهده، لا حباً بصدام ولكن نكايةً باسرائيل وأمريكا.

ويطول مسلسل النكاية العربية إلى ما لا نهاية.

-5-

الشعب الفلسطيني شعب طيب، شعب يعترف بالجميل لكل من حاول مساعدته ودعمه. وهو شعب صبور صبر أيوب، مُحتمل للمشاق تحمّل الحمير، مُجد، ومجتهد، ويعشق المعرفة. ويؤمن ايماناً راسخاً بأن الطريق إلى الخلاص الفلسطيني هو العلم. والأم الفلسطينية تبيع حليب ثدييها من أجل تعليم أولادها. وشعب بهذه الصفات الكريمة أصبح وفيّاً، حافظاً للمعروف والجميل، يدين بالولاء لمن تصدروا منذ نهاية الستينات إلى الآن قضيته، وأوهموه بأنهم أدلاء طريق الخلاص. ولكنهم كانوا بئس الأدلاء في طريق الحرب وفي طريق السلام على السواء. فلم يحققوا نصراً في حرب، ولم يحققوا فلاحاً في سلام. وكانوا كالمُنْبَت، لا ظهراً أبقوا ولا أرضاً قطعوا.

ولهذا، فإن الشعب الفلسطيني الوفيّ، صابرٌ على فساد سلطته، مُغمضٌ عينيه على نهبها لماله، قافلٌ أذنيه عن سماع من ينتقد لصوصها، عاقدٌ لسانه عن لومها، غالقٌ أنفه لكي لا يشمَّ رائحتها التي تعفّنت وزكمت الأنوف، كاظمٌ غيظه من ضياع حقوقه. وكل هذا وفاء واعتراف بالجميل من هذا الشعب الطيب للسيوف الخشبية المهترئة الوحيدة التي تقف في وجه اسرائيل الآن، والتي لم تقم بعمل واحد نافع للقضية الفلسطينية من عشرات السنين حتى الآن. والدليل القاطع أن الأرض الفلسطينية منذ نصف قرن وإلى الآن، وهي تتقلص وتؤكل قطعة قطعة.

والشعب الفلسطيني منذ نصف قرن وإلى الآن، يزداد شتاتاً وفقراً وبطالة وفقداناً للأمل في الخلاص.

والقضية الفلسطينية منذ نصف قرن وإلى الآن، تفقد الصديق تلو الصديق بفضل قُطّاع الطريق.

فمتى يدرك الشعب الفلسطيني بأن لا آباء مُخلدين له؟

ومتى يدرك الشعب الفلسطيني بأن النكاية لن تؤدي به إلا بما أدت بالعرب في الماضي والحاضر؟

ومتى يدرك الشعب الفلسطيني بأن السمكة تفسد أولاً من رأسها، وعليه وحده العلاج، من حيث رأس الفساد.

فما الفائدة من الدقِّ على المسامير الصغيرة (الدبابيس) في حين أن رأس المسمار الأكبر هو الذي يجب أن يُدقَّ، وإلا بقي الباب الفلسطيني مخلوعاً ، لا يصدُّ ريحاً، ولا يمنع سارقاً.

أم أن الشعب الفلسطيني على استعداد لأن يبلع المزيد من سكاكين الدكتاتورية الطاغية، نكايةً باسرائيل وأمريكا، سيراً على طريق العُربان في ماضي وحاضر الزمان!

(تنشر بالتزامن مع جريدة "السياسة" الكويتية، و "المدى" العراقية و "الأحداث المغربية")

[email protected]