هذا المقال مُهدى لكلِّ مَن تعب في الحصول على شهادة دكتوراه حقيقيَّة.
المشهد الأوَّل، مطار عاصمة عربيَّة: استقبلتني مضيفتي وهي موظَّفة كبيرة تعمل في مؤسَّسة دوليَّة، داخل قاعة المستقبلين، زيادة في التكريم. بعد القبلات والتهاني بسلامة الوصول، طلبت منِّي جواز السفر، فسلَّمته للسائق/المرافق (حلاَّل المشاكل) وعرِّفتني بالقول: "الدكتور فلان." وحين لاحظت أنَّ اعتراضًا يوشك أن يفلت من بين شفتيَّ، أمسكت بذراعي وقادتني بعيدًا قائلة: "إن لم تكن دكتورًا لا أحد يعيرك أيَّ اهتمام." ذهلت، وقلت: ولكنَّني لا أطلب اهتمامًا. أنا هنا في زيارة عائليَّة. الاهتمام المطلوب كان للسيِّدة المضيفة، إذ أنَّه لا يليق أن يكون بين أصدقائها من هو أدنى رتبة من دكتور.
المشهد الثاني، بهو فندق مشهور في عاصمة عربيَّة ثانية: كنت استمع إلى محدِّثي وهو دكتور حقيقي متخرِّج من جامعة غربيَّة بتفوُّق، وصل إلى مراكز استشاريَّة وإداريَّة عالية في الحزب الحاكم لسنوات خلت. دخل شخصان يبدو من قيافتهما أنَّهما مسؤولان في أحد الأجهزة الأمنيَّة. قطع الدكتور كلامه وقال لي دعني أعرِّفك إلى بعض الأصدقاء. طبعًا عرَّفني إلى كلٍّ من "الدكتور" فلان، و"الدكتور" علتان، ومع الأسف، لم يتمالك سوى أن عرَّفني أيضًا "دكتور". حين هممت بالاعتراض، شعرت بدعسة خفيفة على قدمي الأقرب إليه. صَمَتُّ. بعد دقائق، غادر "الدكتوران" بهو الفندق. فقلت لمحدِّثي: "يا سيِّدي، أنا لست دكتورًا وأكنُّ احترامًا لكلِّ مَن بذل جهدًا مثل حضرتك لكي يحصل على شهادة دكتوراه عن جدارة واستحقاق، فلا يحقُّ لي أن استعمل هذه اللقب، وإلاَّ لكان ذلك بمثابة سرقة. ضحك جليسي من سذاجتي وقال: "ليس هناك من اعتبار لمن لا يحمل شهادة دكتواره."
في اليوم التالي كنت على موعد لإعطاء حديث صحافي عن موضوع زيارتي، فقلت للمحرِّر وكان شابًا يشعُّ بريق الذكاء من عينيه: ر"جاء، لا تكتب عنِّي أنَّني دكتور، فأنا لست كذلك." ضحك المحرِّر من أعماقه، وربَّت على كتفي، وكأنَّه لقي شريكًا في جريمة خفيَّة، وقال: "لا يهمَّك أستاذ، اللي بدنا نضحك عليه مناديه "دكتور."
المشهد الثالث، قاعة إحدى اللجان البرلمانيَّة في عاصمة غربيَّة: وقف مترئس الجلسة، دكتور أمضى سنوات مدرسًا في أفضل معهد للعلاقات الدوليَّة في تلك العاصمة، ليقدِّم المتكلِّم التالي في جلسة نقاش ضمَّت نخبة من مثقَّفي ذلك البلد وأعضاء برلمانها وأكاديميِّيها، وبعض الدبلوماسيين العرب والأجانب قال: "والآن يسعدني أن أقدِّم لكم الدكتور فلان "سفير"، المنظمة العربيَّة الفلانية، وهو لا يحمل شهادة دكتوراه واحدة بل ثلاثة." وراح يعددها وهي في مواضيع عملية وأدبية واقتصادية مختلفة، والناس بين مذهول وشامت.
المشهد الرابع كافيتريا في جامعة في إحدى العواصم الغربيَّة: نظر الرجل إلى ساعته حين وصلت ابنة صديقة له متأخِّرة عن الموعد نصف ساعة. كانت والدتها قد طلبت منه مقابلتها لغرض عائلي. لاحظت الصبيَّة حركته، فقالت بدلال، ومن بين شفتين استغرق تحميرهما دهرًا، "طوَّلنا السهرة مبارح." قال الرجل، ولكن أليس الآن وقت تقديم أوراق الدراسات! فمن أين لك الوقت للسهر؟ أجابت: "ليس هناك من مشكلة، إنَّنا نشتريهم." قال الرجل: "ولكن هذا غش وخداع." قالت، "الكلُّ يعملها." أجاب: "ولكن إذا تمكَّنت من خداع الناس، هل تخدعين نفسك أيضًا؟" نظرت إليه لكأنَّه هبط من كوكب آخر، ولم تزد. أما هو فصمت سادرًا لكأنَّه يبحث عن ذلك الكوكب الآخر.