-1-

الملك الأردني عبد الله الثاني نموذج فريد للحكام العرب الليبراليين.

الشعب الأردني بأحزابه القائمة الآن، وبصالوناته السياسية شعب متخلف سياسياً إلى أبعد حدود التخلف، رغم أن نسبة الأمية في الأردن هي من أخفض نسب الأمية في العالم العربي، ورغم أن نسبة المتعلمين وحملة الشهادات العليا هي من أعلى نسب التعليم في العالم العربي. فهل نقول أن الملك عبد الله الثاني ملكٌ بلا شعب!

وهل نقول بأن الملك الأردني سيء الحظ مع شعبه؟

فهو بوعيه وتطلعاته وأحلامه، يسبق الشعب الأردني بخطوات واسعة كثيرة، وهو ملكٌ يصلح أن يكون لشعب أكثر انفتاحاً وأقل تعصباً كالشعب اللبناني مثلاً لا حصراً.

وهل نقول أن خطط الملك عبد الله للتحديث السياسي والتعليمي التي بدأها منذ أن تولى الحكم عام 1999 كانت حبراً على ورق حيث لم يجد الملك الحكومة القوية والنخب الحداثية التي ترقى إلى مستوى تفكيره وتطلعاته وخططه في الارتقاء بالأردن وتحديثه حداثة سياسية وتعليمية واجتماعية كبيرة؟

ومن هنا تعددت الحكومات في عهد عبد الله الثاني ففي غضون أربع سنوات (1999-2004) جاءت إلى الأردن ثلاث حكومات، وهو معدل منخفض نسبة لعدد الحكومات التي حكمت في تاريخ الأردن. ولعل سبب هذا يعود إلى الاستقرار السياسي النسبي في المنطقة وإلى هدوء الحدود السياسية الأردنية (مصر سوريا العراق) التي كانت مصدر قلق وازعاج سياسي للنظام الأردني، بدءاً من الخمسينات وحتى نهاية القرن العشرين.

ومن هنا لم يستطع الملك عبد الله أن يحقق ما كان يحلم به خلال أربع سنوات من حكمه حتى الآن.

فلو أجرينا جرداً فعلياً ودقيقاً للمنجزات التي أتمها الملك عبد الله خلال فترة أربع سنوات (وهي فترة حكم أي حاكم غربي) لوجدنا أن الملك قد أضاع وقته إما في تطبيب القضايا العربية العالقة وعلى رأسها القضية المرضية المزمنة وهي القضية الفلسطينية، وأضاع النصف الثاني من الوقت للرد على حديث الصالونات السياسية التي تمتلئ برؤساء الوزارات السابقين وبالوزراء السابقين والمستوزرين العاطلين عن العمل السياسي إلا من وراء مكاتب وزاراتهم، والذين يطلقون النار من خلال دخان سجائرهم وغلايينهم وكؤوس الشراب وقرض الفستق على كل وزارة تأتي إلى الحكم وينتظرون اليوم الموعود لتشكيل وزارة جديدة دون خطاب سياسي أو اقتصادي أو ثقافي جديد. وهكذا ظل الملك عبد الله ومن قبل والده الراحل هم أصحاب الخطابات السياسية التي كانت تأتي ضمن ما يُعرف في القاموس السياسي الأردني بـ "كتاب التكليف".

-2-

مرة أخرى، نقول أن الملك عبد الله الثاني حاكم عربي حداثي من طراز رفيع، وربما يتهمنا البعض – كالعادة - بأننا أصبحنا من كتبة السلطان، أو من عملاء للمخابرات الأردنية، أو من حاشية الملك عبد الله، أو في قائمة عطايا البلاط الهاشمي الذي هو من أفقر البلاطات العربية، فليس لديه شيء يعطيه، ولذا فهو يحسن القول مع السياسيين والمعارضة على غير العادة العربية المتبعة، عملاً بحكمة المتني:

لا خيل عندي أهديها ولا مالُ فليُحسن النطقُ إذ لم يُحسن الحالُ

الملك عبد الله الثاني حاكم عربي حداثي من طراز رفيع بالشواهد وليس بالقصائد، وحداثته تتجلى في المظاهر التالية:

- سعيه الدؤوب إلى توحيد الأحزاب السياسية في حزبين رئيسيين، حزب يحكم وحزب يعارض، وذلك على غرار ما هو قائم الآن في الدول الغربية الديمقراطية. ولكن عشائرية الأحزاب الأردنية وتفردها القبلي يأبى عليها إلا أن تظل متفرقة حتى يكون في الأردن أكثر من عشرين زعيماً سياسياً لعشرين حزب سياسي، بدلاً من زعيمين سياسيين لحزبين فقط.

- تأييده المطلق لعملية السلام الشامل في المنطقة، وهو صدى للعملية السلمية الجريئة التي قام به والده الراحل من خلال اتفاقية وادي عربة في 1994. وايمانه الراسخ بأن المشكلة الفلسطينية مشكلة سياسية ويجب حلها سياسياً وسلمياً. وأن لا مجال للصراع المسلح مطلقاً مع اسرائيل، نظراً لافتقاد توازن القوى بين الجانب العربي والاسرائيلي. وهو خطأ عربي ولا علاقة لاسرائيل فيه، وهي التي بنت قوتها العسكرية بجد واجتهاد ودون سرقة لأموال التسلح وتكديسها في المخازن دون موجب أو مبرر إلا مبرر قبض العمولات الباهضة بمليارات الدولارات، واجبرت العرب جميعاً على الاستماع لصوت السلام السياسي بقوة السلاح العسكري. في حين أن العرب يريدون سلاماً سياسياً عادلاً بدون قوة عسكرية. وهو أمر مضحك وطفولي في قواميس السياسة المعاصرة. ولكن صوت الملك في هذه النقطة لا يعلو كثيراً، ولا يُسمع كثيراً نتيجة لهيمنة اليمين واليسار الأصولي الفلسطيني على مرافق الحياة الأردنية (أكثر من 60 بالمائة من الشعب الأردني من أصل فلسطيني، وهي النسبة التي تشكل الحراك الأردني العام).

- نداؤه الدائم إلى تحقيق مجتمع ديمقراطي في مجتمع أبوي بطريركي ذكوري قبلي متعصب، تتجلى فيه الديكتاتورية بكل مظاهرها في البيت والمدرسة والمصنع والمكتب والشركة والبرلمان كذلك.

- تأييده المبطن والخجول لعملية اقتلاع النظام الديكتاتوري في العراق، وتحرير العراق من الديكتاتورية الصدامية، رغم معارضة الشارع الأردني الذي تسيطر عليه قوى اليمين واليسار الأصولي الفلسطيني الكارهة كراهية مطلقة لأي شعاع أمريكي أو غربي. ورغم معارضة النقابات الأردنية والصحافة الأردنية لاقتلاع النظام الديكتاتوري الصدامي نتيجة للأموال التي كان يغدقها صدام على هذه الجهات والتي فضحت جزءاً بسيطاً منها جريدة "المدى" العراقية، وكشفت كيف أن سر بكاء بطل المعارضة المزعوم (ليث شبيلات) على سقوط الديكتاتورية العراقية هو استلام شبيلات 16 مليون برميل نفط من النظام الديكتاتوري فيما عرف بـ"الكوبون البلاتيني". ورغم هذا كله فقد كان الملك عبد الله هو الحاكم العربي الوحيد الذي درّب الشرطة العراقية، وقام بحملة سياسية عالمية واسعة لارسال قوات إلى العراق، واستقبل اياد علاوي رئيس وزراء العراق استقبالاً يليق باستقبال الأحرار، رغم احتجاج السلفيين الدينيين والقوميين الأردنيين.

- سعي الملك الدائم إلى تغيير وتطوير أنظمة التعليم الأردنية منذ العام 2000، وهو ما كان والده الحسين الراحل ينادي به. ولكن تحكّم جماعة الإخوان المسلمين بوزارة التربية والتعليم التقليدي، وانبثاثهم فيها انبثاثاً كبيراً، إضافة إلى قوى يمنية ويسارية أصولية أخرى، حالت وتحول الآن بين أي اصلاح جذري لنظام التعليم الأردني، الذي يبقى في المحصلة النهائية من بين أرقى مناهج التعليم العربية، ولكنه لا يتفوق بأب حال على مناهج التعليم التونسية التي قطعت شوطاً بعيداً وجريئاً وفريداً في الإصلاح التعليمي، وخاصة الاصلاح التعليمي الديني حيث حولت التعليم الظلامي إلى تعليم تنويري.

- سعيه المتواصل إلى الانفتاح الاجتماعي. ولقد وقف إلى جانب عدة قوانين اجتماعية منها قانون جرائم الشرف وغيرها. كما أن الملكة رانيا العبد الله تقوم بدور اجتماعي انفتاحي كبير يذكرنا بالأدوار التي قامت بها هدى الشعرواي وأمينة السعيد ونوال السعدواي وغيرهن. إلا أن الجماعات الإسلاموية الأردنية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين يقيدون حركة الملكة الحداثية. كما ان النظام القبلي الأردني يحول دون تغيير الكثير في بنية المجتمع الأردني.

- سعيه الحثيث إلى نقل الأردن من مجتمع زراعي قبلي عشائري إلى مجتمع تعليمي مدني.

هذا هو ملخص خطاب الملك عبد الله السياسي والاجتماعي والتعليمي، فكيف يمكن للملك أن ينفذ هذه الطموحات ويسير بها في طريق المستقبل؟

في المقال القادم سوف نتعرف على طريق الثورة الملكية الأردنية/

(ينشر بالتزامن مع جريدة "السياسة" الكويتية، و "المدى" العراقية، و "الأحداث المغربية")

[email protected]