تعاني الجامعات العربية قاطبة من الارتخاء والوهن والخمول والضعف الشديد على مستوى التدريسات والمناهج والبحث العلمي كما تؤكد اغلب التقارير والدراسات.. واعتقد كما كنت قد نشرت سابقا بأن اوضاع جامعاتنا العربية تسير من سيىء الى أسوأ بحكم عوامل معقدة لا حصر لها.. ان المشكلات لم تعد تنحصر بالمسائل الفنية والاكاديمية بقدر ما تعدّتها مشكلات سياسية وفكرية واجتماعية ودينية مما يعمل اليوم على توليد الانقسامات وانتاج نزعات الانغلاق وغيبوبة التفكير العلمي والحر فضلا عن غياب المنطق والتقاليد العلمية في تلك الجامعات العربية قاطبة، والجامعات العراقية من ضمنها ولكن مشكلات هذه الاخيرة ليست كمشكلات بقية الجامعات العربية اذ ليس هزال المناهج والاساليب سببا في ما نثيره اليوم من اشكاليات ومعالجات، فمعضلاتها أكبر واخطر، اذ انها انتقلت اليوم من رهبة الفاشية البعثية الى سطوة القيود الدينية بعد ان عانت طويلا.. ولابد من معالجة خلاصها من رهبة السياسات الفاشية وهوس المؤدلجات الراديكالية التي تمكنّت فيها منذ خمسين سنة.. وكل الخوف اليوم الا تنغمر جامعاتنا العراقية في فوضى الصراعات الاصولية الدينية والنزعات الطائفية المقيتة التي تغذيها اطراف عديدة لها مصالح واجندة معينة..

أروقة الجامعات المخيفة
كان من المؤمل الى وقت قريب ان تتحّول الجامعات العراقية وخصوصا العريقة والاساسية منها الى اروقة اكاديمية حقيقية خالية من كل عوامل القهر والخوف والتجسس والمخابرات بعد ان كانت بمثابة اوكار قبيحة للسياسة المؤدلجة الفاشية التي انتهجها البعثيون على عهدي الرئيسين السابقين احمد حسن البكر وصدام حسين.. ولكن الذي حدث على امتداد السنة المنصرمة وما يحدث اليوم من المصادمات والتدخلات والوصايات هي جميعها حصيلة ما تراكم من ترسبات معقدة في ظل المتغيرات التي حصلت في العراق وخصوصا في عقد التسعينيات من القرن العشرين وتأثير كل من غزو الكويت 1990 وحرب عاصفة الصحراء 1991 وفرض الحصار الاقتصادي على العراق.. ناهيكم عما حصل في دواخل العراق التي عانت من دمار الحروب وآثارها البشعة منذ ربع قرن. اننا نسمع ونقرأ عن حالات ومشاهد لا يمكن ان تحدث في حرم جامعات ورحاب اروقتها حيث تتشّكل جماعات وتتبلور اساليب لا يمكن ان تسّمى باخلاقية ولا مبدئية ولا حضارية على الاطلاق من حيث التصرفات وعقم العلاقات.. والاخطر من كل هذا وذاك: تنامي نزعات طائفية حادة جدا في العاصمة بغداد حيث المظاهرات والاعلانات والشعارات والبوسترات والصور واللافتات التي تعّبر عن بنية من التناقضات الغريبة التي لم يألفها المجتمع العراقي في السابق ابدا !
لقد وصلتنا اخبار في السنة الدراسية المنصرمة عن تحول نزاع نشأ بين أستاذ من طائفة معينة، ومجموعة من الطلاب من طائفة اخرى إلى حصول مظاهرة، تقرر على إثرها إغلاق الجامعة لمدة ثلاثة أيام. وكما جاء على لسان رئيس الجامعة المستنصرية قبل استيزاره للتعليم العالي: إن الجماعات الدينية تقوم باختطاف الجامعة، وإنه لو تركت الأحزاب السياسية تتدخل في الجامعات كيفما تشاء وتريد، فإن اروقة جامعات العراق ستتحول إلى ساحة للدماء وتصفية الحسابات. وعليه، فان مسؤولي الجامعات ومعهم ألاساتذة معرضون لمخاطر تجعلهم يشعرون بخوف دائم، يدفعهم للتفكير في الاستقالة من وظائفهم الجامعية. هذا ما تابعناه عن كثب في ما يخص الجامعات في بغداد.. ولكن لا تختلف الصورة عما يجري في جامعات اساسية في كل من الموصل والبصرة باستثناء الجامعات في اقليم كردستان العراق أي في اربيل والسليمانية ودهوك التي تتمتع جميعها بالامان والطمأنينة وضبط الامور بحكم الاستقرار في الاوضاع السياسية والاجتماعية والامنية مقارنة بما هو عليه الحال في بقية انحاء العراق.

الاصولية تهدد المجتمع العراقي
لابد ان نعترف بأن ايران هي اول من ادخل الاصولية الى الجامعات منذ انتصار الثورة فيها العام 1979، وكان لسياساتها وسياسات النظام السابق في العراق تأثير في خلق اسوأ التناقضات الفكرية والسياسية والمذهبية والطائفية في جامعاتنا العراقية.. واذا كانت التناقضات متأججة تحت الارض على امتداد اكثر من عشرين سنة، فلقد انفتحت جروحها وانفجرت تقيحاتها بعد سقوط صدام حسين في العام 2003، وبالرغم من المكتسبات التي حصلها الجامعيون والانتقالة الصحية التي ظهرت في الجامعات بانتخاب المسؤولين واصلاح نظام الرواتب ومحاولة اصلاح بعض المناهج الدراسية، ولكن بدا هناك في الوقت الراهن تيار متصاعد من الأصولية يهدد المجتمع الجامعي العراقي واقلياته ومؤسساته، ويهدد في الوقت ذاته بإهدار المكاسب التي تحققت في مجال الحرية الأكاديمية، بفضل الجهود التي بذلها المسؤولون الجدد على الجامعات منذ نهاية الحرب. ان ما يؤلم حقا هذا الذي تتناقله التقارير والاخبار التي تنقل عن الاساتذة والطلبة قولهم: إن أعضاء الجماعات الدينية يقومون بفرض أنفسهم فرضا على حرم الجامعات، ويعلنون عن اجندة خاصة باحزابهم ومنظماتهم، وإنهم يعملون على نشر الفرقة بين الطلاب، ويهددون الأساتذة.
لقد كانت " الحملة الايمانية " التي مارسها صدام حسين مجرد لعبة دينية بليدة انتجت تأثيرا واضحا في الساحات الجامعية العراقية.. كما وان المئات من الخريجين الذين يحملون شهادات دينية قد تأهلوا على ما كنت اسميته منذ اربع سنوات بـ " الاسلام البعثي " والذي رسم ملامحه الاصولية ( المزيفة ) صدام حسين نفسه من اجل تثبيت ركائزه بعمائم بعثية تشارك الموجات الدينية المتصاعدة يوما بعد آخر ! فكان ذلك الماراثون قد اثمر ما نشهده اليوم من تكتلات طائفية وتيارات سلفية واحزاب دينية وجدت نفسها تعمل فوضويا وقد خرجت من تحت الارض لتعلن وصاياها الصارمة ليس على المجتمع وحده، بل على الجامعات والمرافق الحيوية الاخرى.. لقد كان للجماعات الدينية وجود ضئيل في الجامعات على عهد صدام، وكانت هناك مجموعات بعثية معينة يطلق عليها اسم " الاتحاد الوطني لطلبة العراق " ترتبط بدوائر السلطة، وخضعت في السنوات الاخيرة تحت اشراف عدي صدام حسين شخصيا.. كما وكانت الجامعات قاطبة باستثناء جامعات كردستان العراق تخضع كاملة لاشراف اجهزة الامن والمخابرات. معنى ذلك ان اجهزة متعددة تتداخل في ما بينها لتسيير اللعبة الدينية، ولكنها تختلف في تقييماتها من قبل المسؤول المباشر الاول في النظام عليها.

الانقسامات تحدث لأول مرة !
ان الذي حدث عقب الحرب، هو أن طلابا من الشيعة والسنة ظهروا تحت قناع أحزاب طلابية تنادي بالديمقراطية مثل حزب (طلاب من أجل المستقبل). وأخذوا يحومون في الجامعات وكأنهم شرطة وعسس واوصياء يأمرون الطالبات بتغطية رؤوسهن، ويفرقون بين أي فتى وفتاة يتحدثان أو يجلسان سويا، ويضغطون على الأساتذة كي يقوموا بالفصل بين الطلبة والطالبات في المحاضرات، ويستخدمون لغة نزقة وملتهبة وعنيفة لخلق الفرقة. ومما ساهم في تفاقم الوضع سوءا بعض ما اقّره مجلس الحكم العراقي السابق من قرارات !! وكم نادى العراقيون الخيّرون بضرورة ان تنأى الجامعات عن الاصوليات الدينية او التعصبّات الطائفية او الاحزاب الاسلامية.. وعدم ادخال " الدين " حرم الجامعات ! فاذا وصل تأثير الاصوليين الجامعات، فستكون عملية انقاذ المجتمع عموما صعبة للغاية !
اذا كان صدام حسين قد اشتغل سرا لتخريب المجتمع من دواخله وباساليب ذكية جدا من خلال خلق طبقة انتهازية ( متدينة ) ولكنها لا تعرف من الدين الا ترديد النصوص والشعارات، فان ادارة الاحتلال المؤقت قد ارتكبت من الحماقات العلنية وباساليب غبية جدا.. ان جملة قرارات قد انتجت جملة هائلة من الكوارث في دواخل الجامعات ! كان الدكتور جون أجريستو، وهو كبير المستشارين الأميركيين في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي – الذي لا اعرف هل ما يزال في منصبه حتى اليوم ام لا – قد تغاضى عما كان يجري، وان سلطة الائتلاف السابقة قد أحيطت علما بالشكاوى، ولكنها عدّت مسألة انتشار الجماعات الدينية في الجامعة شأن داخلي، فضلوا تركه للمسؤولين العراقيين. وبالرغم من ذلك، قام اجريستو بوضع (قانون سلوك) يؤكد على أهمية الحرية الجامعية، ويعتبر ممارسة الإرغام أو التهديد بواسطة طالب، أو عضو هيئة تدريس بمثابة مخالفة موجبة للفصل فورا.
ولكن اعتقد ان اخطاء جسيمة قد ارتكبت في هذا الباب خصوصا وأن المستشار الأميركي كان يشعر بالقلق من قيامه بالتعبير عن معارضته للأصوليين الإسلاميين وكأنه كان يريد ان يفتح بابا للديمقراطية من دون ضوابط ولا اية مرجعية وهذا الغباء بعينه، او انه اراد ان يفتح الباب للصراعات العراقية السياسية باسم الدين في اوساط الجامعات وهذا هو الذكاء بعينه ! وهو يدرك ادراكا حقيقيا تلك المخاطر التي يقول إنه قد سمع أن المتعصبين الدينيين قد اجتاحوا الجامعات وخصوصا تلك الواقعة خارج بغداد، وأن رؤساء الجامعات غير قادرين على إيقافهم بسبب خوفهم الشديد منهم. علاوة على ذلك فإن الطرق إلى مدينة الموصل تعتبر خطيرة جدا وهو ما يحول دون قيامه أو قيام أحد من طاقمه بزيارة المدينة. وفي جامعة بغداد كان الطلاب يقولون بإنهم قلقون بشأن المشكلات التي تحدث حاليا في الجامعة، ولكنهم في الوقت نفسه يعتقدون أن معظم تلك المشكلات سببها الطلاب المتطرفون، الذين يقومون باستغلال جو الفوضى، وغياب القانون في العراق، في تخويف الطلاب، وإرغامهم على الاستماع إليهم.
وتنقل الروايات ان أحد الطلاب الاصوليين قد أحضر مكبرا للصوت وبدأ ينادي الطالبات ويقول لهن إنه يتعين عليهن عدم ارتداء التنورات القصيرة وإن من ترتديها سوف يكون مأواها النار. ووصل الامر بأن اي طالب من هؤلاء الطلاب يمكن أن يأتي إلى الجامعة ويقوم بقتل أية طالبة دون أن يتصدى له أحد، لأنه لا توجد هناك سلطة. خاطب البعض من الطلبة إدارة الجامعة كي لا تسمح للطلاب المتعصبين دينيا بدخول الحرم الجامعي، إلا أنهم يواصلون الحضور مع ذلك. ويقول بعض الطلاب المنخرطين في أنشطة دينية في الجامعة انهم يمارسون التعبير عن الحرية الدينية ويلزمون بقواعد الإسلام !! ويقول بعض المراقبين إن هذه الفورة من النشاط الديني في الجامعة سببها أن الطلاب العراقيين أصبحوا ينعمون حاليا بحرية التعبير بعد سنوات من القهر. ولكن آخرين يشيرون إلى أن الأصولية قد تلبي حاجة لدى هؤلاء الطلاب. فمعظم الطلاب قد تربوا تحت حكم طاغية قوي ومستبد ولا يشعرون بالراحة بسبب انتشار الفوضى واعتقد ان من اولى مهام حكومة العراق المؤقتة اصدار جملة من التعليمات تحّد من الانشطة الدينية في حرم الجامعات، بل وتحد من تدخل الاحزاب السياسية قاطبة بدافع الرغبة في الاستقرار وابعاد طغيان الجماعات الدينية.

ردود الفعل الجارفة
يؤكد العديد من الزملاء في العراق من الذين اتصلت بهم اتفاقهم ان العراق كان يعيش تحت سطوة حاكم جبار، وبعد أن سقط فإن الطلاب يريدون أن يبحثوا عن شيء يقوم بتنظيم حياتهم، ومن الطبيعي أن يحدث نوع من الفوضى في البداية. البعض الآخر، يتوجس من أن يكون الإسلاميون يقومون الآن بمحاولة لشغل فراغ السلطة الذي نشأ عقب سقوط نظام البعث، بحيث يسيطرون على الساحة انتظارا لمغادرة القوات الأميركية، ثم يقومون بعدها بممارسة المزيد من الضغط من أجل إنشاء دولة إسلامية. ولقد عانت الجامعة المستنصرية اكثر من غيرها كثيرا بفعل ازدحامها بالبعثيين والاصوليين معا !! إن الاضطرابات في الجامعة المستنصرية بدأت منذ العام الماضي. لقد كان لمتابعة السيدة كريستينا اسكويث في مقالاتها عن العراق في الكريستيان ساينس مونيتور لها اهميتها البالغة في الكشف عن المزيد من الاخطاء التي ارتكبت في المجتمع العراقي وخصوصا في الجامعات التي نأمل ان تستقر الاحوال بها لصالح التطور النوعي بعيدا عن فوضى المصادمات والانشقاقات ورهبة التكفير وايذاء الطالبات باسم الدين.. واحلال مبادىء الحريات العامة بديلا عن الحريات السياسية والدينية وخصوصا في الجامعات..
وأخيرا: هل باستطاعة الحكومة العراقية المؤقتة ان تسرع مع مطلع العام الدراسي الجامعي الجديد من ضبط الامور ضبطا محكما؟؟ هذا ما يتأمله منها المجتمع العراقي اليوم. اتمنى ان تدرك الحكومة العراقية المؤقتة مثل هذه المبادىء والاساليب من اجل تطور العراق برمّته.