خناجر "ألموت" تحت ثياب النساء والمكدين والدراويش


نعماء الجنة وإغراءاتها لا يحويها خيال، فمَنْ يعتقدها كل الاعتقاد، إن وجد ضيقاً في دنياه أولم يجد، قد لا يتأخر عن مقايضة نفسه بها. يروي أبو نعيم الأصفهاني عن وكيع حول عمرانها: "لبنة من ذهب ولبنة من فضة ملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران"(صفة الجنة). فيها "حور مقصورات في الخيام فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يُطمثهنَّ إنسٌ ولا جانٌّ"(سورة الرحمن). ويصفها إجمالاً أبو حامد الغزالي بالقول: "فتفكر في أهل الجنة، وفي وجوههم نضرة النعيم، يسقون من رحيق مختوم جالسين على منابر من الياقوت الأحمر في خيام من لؤلؤ الرطب الأبيض فيها بسط من العبقري(بساط مميز بالأصباغ والنقوش) الأخضر متكئين على الأرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل، محفوفة بالغلمان والولدان، مزينة بالحور العين من الخيرات الحِسان كأنهنَّ الياقوت والمرجان"(مكاشفة القلوب). لكن طريق هذا النعِيم كما قيل محفوف بالمكاره، لا يصل إليه إلا مَنْ زهد في ملذات الدنيا وصفا قلبه، قال الإمام علي بن أبي طالب عن النبي: "إن الجنَّة حُفَّت بالمكاره، وإن النار حُفَّت بالشهوات"(نهج البلاغة). وورد في الحديث "يدخل في الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير"(الدار قطني، الألزامات والتتبع). وعبارة أفئدة الطير كناية عن الرقة والرحمة. إلا أن أسهل الطرق وأسرعها لنيل الجنة هو الجهاد بالنفس، حتى من غير هدف ومبدأ. وبين أن تكون الجنَّة "تحت ظلال السيوف" وأن تكون "تحت أقدام الأمهات" مسافة شاسعة هي ما بين القسوة والرحمة، ما بين فؤاد الطير وفؤاد الجزار. فلقولة ظلال السيوف زمنها ومحدوديتها بينما تتسع كل الأزمنة والأكوان لقولة أقدام الإمهات.
وردَ في الآية الكريمة "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقتلون في سبيل الله"(سورة التوبة)، جاء في أسباب النزول "لما بايعت الأنصار رسول الله (ص) ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً، قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله أشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع لا نقبل ولا نستقبل، فنزلت هذه الآية"(الواحدي، أسباب النزول).
لعب الترغيب في الجنة دوراً أساسياً في الجهاد والإقدام في الغزوات، إلا الفتوحات فكانت غنائمها من البلاد الغنية أكثر وقعاً في نفوس الفاتحين من الجنة. ففي المعارك مع قريش وقبائل الجزيرة كان المجاهدون يسمعونها من النبي مباشرة، وكل منهم لا يرى ما بينه وبين عالم النعيم الأبدي سوى القتل. إن قراءة أسباب نزول "ولا تحسبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون"(سورة آل عمران) تكفي شاهداً. قال ابن عباس عن النبي: "لما أُصيب إخوانكم بأُحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: مَنْ يبلغ إخواننا أنا في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا في الحرب، فقال الله عزَّ وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى الآية"(أسباب النزول). وقال النبي معزياً الصحابي جابر بن عبد الله بقتل أبيه: "ألا أخبرك؟ ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحاً (وجهاً لوجه)، فقال: يا عبدي سلني أعطك، قال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأُقتل فيك ثانية، فقال: إنه قد سبق مني أنهم يرجعون"(أسباب النزول).
أخذ الخوارج آية شراء الجنة (التوبة 111) الزمنية، حسب أسباب نزولها، فأعلنوا أنفسهم شراةً لأنهم "شروا أنفسهم من الله بالجهاد"(الحميري، الحور العين). ربما كان أول إنتحاري خارجي أدعى شراء الجنة بقتل علي بن أبي طالب هو عبد الرحمن بن ملجم، وصاحباه البُرك وعمرو بن بكير الموكلان بإغتيال معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص لكنهما لم ينجحا مثلما نجح ابن ملجم. إن قتل خليفة المسلمين في محراب الصلاة بحضور أولاده وأتباعه لا يعني غير تنفيذ عملية إنتحارية، فليس هناك أي إحتمال لنجاة القاتل من سيوف المصلين.
أشارت رواية قتل ابن ملجم إلى تعبيره عن السعادة بتقطيع أطرافه وحرقه بالنفط. لما تقرر قتله بعد موت الإمام علي قال ابن أخيه عبد الله بن جعفر: "دعوني حتى أشفي منه، فقطع يديه ورجليه، وأحمى له مسماراً حتى صار جمرة كحله به (سمل عينه)، فقال: سبحان الذي خلق الإنسان! إنك لتكحل عمَّك بملمول مضاض، ثم أن الناس أخذوه وأدرجوه في بواري ثم طلوها بالنفط وأشعلوا فيها النار فاحترق"(المسعودي، مروج الذهب).
صحيح أن قتل الإمام علي ليست أول عملية إغتيال في الإسلام، فقد تعرض النبي محمد إلى عدة محاولات إغتيال مرة بالسيف وأخرى بالحجر والسم، والمسلمون الأوائل مارسوا الإغتيال الفردي ضد خصومهم سوى كان في العهد النبوي أو الخلافة الراشدية. مورس الإغتيال ضد شاعرات أتهمنَّ بهجاء النبي، وضد نساء أتهمنَّ بالتأليب عليه مثل أم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن بدر التي إغتالتها سرية بأمرة مولى النبي زيد بن حارثة، قيل "قتلها قتلاً عنيفاً، ربط برجليها حبلين ثم ربطهما إلى بعيرين حتى شقاها"(الطبري، تاريخ الأمم والملوك). كذلك إغتيل سعد بن عبادة بعد عقد السقيفة مباشرة، التي أسفرت عن خلافة أبي بكر الصديق، فأشيع أن الجن أغتالته لأنه بال وقوفاً، ومَنْ إغتالهم معاوية بن أبي سفيان ليسوا بالقليل. لكن ما يميز إغتيال علي بن أبي طالب على يد ابن ملجم أنه كان عملاً إنتحارياً من أجل شراء الجنة حسب عقيدة الخوارج. واللافت للنظر أن فرقة من فرق الخوارج تدعى الأخنسية حرمت الإغتيال على أتباعها أو كما عُرف بالبيات، وهم جماعة أخنس بن قيس "حرموا الإغتيال والقتل والسرقة بالسر"(الشهرستاني، الملل والنحل).
ما كادت تخفت حركة الخوارج، التي اشتدت في العصر الأموي والقرون العباسية الأولى، حتى ظهرت حركة إنتحارية أضطرت الأمراء والوزراء والقضاة إلى لبس الدروع تحت الثياب، وهو ما كان يعرف بالزرد. عرفت بعدة أسماء الأبرز بينها الباطنية(راجع كتاب الغزالي بالاسم نفسه) أوالفداوية(السبكي، طبقات الشافعية الكبرى). تعني الفدائية أو الفدائيين الإنتحاريين. غير أن الفدائي عادة مَنْ يكون صاحب قضية وقد لا يحصر هدفه بالجنة، مثلما أشتهرت بذلك منظمات الكفاح المسلح الفلسطينية. أما الإنتحاري فهو صاحب عقيدة دينية مغلوب بفكرة الفوز بالجنة مقابل قتل النفس، تتقدم هذه الرغبة أي قضية أخرى، فيقيناً أن تفجير النفس في متجر أو باص أو طائرة لا يحقق عودة السلف وحكم الدين وسيادة الشريعة بقدر ما يضمن دخول الجنة عبر أسرع السبل، سبيل يختصر عقوداً من العبادة والزهد، قد لا تُضمن بها الجنة، بلحظة ضامنة تهيأ لها الإنتحاري إلى حد يصبح عنده الموت رغبة ومنال. تبدو فكرة دخول الجنة مؤثرة تأثيراً كبيراً في جهاد المسلمين ضد المشركين، حتى كادت تحل محل الإسلام نفسه، فأغلب المقاتلين ينتظرون الفوز بالجنة. عموماً، قوة الدين ترتبط أساساً بالثواب، وعليه نشأت الإخلاقية الدينية، هذا ما أعلمتنا فيه الآية التالية وآيات أخرى"فمَنْ يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره ومَنْ يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره" (سورة الزلزلة).


اضطراب التسمية
أبرز التسميات الشائعة في الغرب والشرق لهذه الجماعة الإنتحارية أو الفداوية هي الحشاشون (Assassin). فحسب رحالة ومؤرخين أوروبيين عرفوا بذلك نسبة لتعاطي الحشيش المخدر بفرض من زعيمهم حسن الصبَّاح. غير أن كتب التاريخ الإسلامي، ومنها تواريخ القرون الوسطى العربية، وكتب الملل والنحل لا تفيد بشيء عن أصل تسمية الحشاشين، ولا المخدر المقصود أو علاقة قاطني ألموت به، ما عدا ما أورده بنيامين في رحلته، قال: "أرض الملاحدة التي تسكنها طائفة لا تؤمن بدين الإسلام، يعتصم أتباعها بالجبال المنيعة، ويطيعون شيخ الحشيشين، ويقيم بين ظهرانيهم نحو أربعة آلاف يهودي، يسكنون الجبال مثلهم ويرافقونهم في غزواتهم وحروبهم، وهم أشداء لا يقدر أحد على قتالهم"(رحلة بنيامين، ص153-154)، بطبيعة الحال أن بنيامين كان ضيفاً على الخليفة العباسي المستنجد بالله (555-566هـ)، لذا قال بما كان يقوله العباسيون عن جماعة ابن الصبَّاح. أما مشاركة اليهود في غزواتهم فأرجو أن لا يؤول بتواطؤ ديني، وما يسقطه هذا التأويل من اختلاقات على تاريخ النزاريين. كذلك تأتي إشارة ابن الجوزي في "المنتظم" و"تلبيس أبليس" إلى تناول أصحاب ابن الصباح الجوز والعسل والشونيز لبسط الدماغ (سنأتي على تفصيل ذلك لاحقاً).
قلنا خلت مؤلفات عديدة معاصرة للحركة ورئيسها ابن الصباح من هذه التسمية، مثل: "فضائح الباطنية" لأبي حامد الغزالي (ت505هـ)، "الملل والنحل" للشهرستاني (ت548هـ)، الذي جادلهم ولم يقبلوا منه، وكان يسمعونه عبارة: "أفنحتاج إليك؟ أو نسمع منك، أو نتعلم عنك؟"(الملل والنحل)، "الحور العين" لنشوان الحميري (ت573هـ).
قال أبو حنيفة الدينوري (ت282هـ): الحشيش "يبس العشب ولا يُقال للرطب حشيش، وقد حش العشب يحش إذا جف، وحشت يد الرجل إذا جفت، والحش هو جز الحشيش(كتاب النبات). وأفاد الجاحظ: الحشيش بمعنى "القطعة من النخل، وهي الحشّان، وكانوا بالمدينة إذا أرادوا قضاء الحاجة دخلوا النخل، لأن ذلك استر، فسموا المتوضأ الحشّ وإن كان بعيداً عن النخل"(كتاب الحيوان). وعدّ أبو الخير الأشبيلي (القرن السادس الهجري) للحشيش أربعين نوعاً، ليس بينها المخدر المقصود. منها: الحشيش البابلي، وحشيش الأفعى النافع لنهشها، وحشيش الداحس النافع للسعال، وحشيش الرئة النافع لذات الرئة، وحشيش الطلق النافع للولادة(عمدة الطبيب). كذلك لم يذكره ابن سينا (ت 347هـ) في "القانون في الطب"، ولا ابن البيطار (ت607هـ) في "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية) بين المهدئات أو المخدرات.
يا تُرى كيف أقترن الحشيش بالمخدر؟ هناك حشيش يعرف بحشيش الخشخاش، أي اليابس منه "يخدر الدماغ، وإن أكثر منه قتل للوقت بلا تأخير، وخاصة للبارد المزاج من الناس ... يتخذ منه شراب فيكون أبلغ في التنويم وتسكين اللهيب وجميع الأوجاع"(الفلاحة النبطية)، والخشخاش البستاني منه "لا يؤكل خبزه إلا مع الحلاوات من العسل والدبس" (نفسه)، فهل هذه المادة هي التي قصدها ابن الجوزي بالشونيز؟ قال فيما قاله حول حسن بن الصبَّاح: "كانت سيرته في دعاته ألا يدعو إلا غبياً، لا يفرق بين يمينه وشماله مثلاً، ومَنْ لا يعرف أمور الدنيا ويطعمه الجوز والعسل والشونيز حتى ينبسط دماغه"(المنتظم في تاريخ الملوك والأمم). على صعيد آخر يعني الشونيز، وهي مفردة فارسية، الحبة السوداء أو الكمون الأسود، تسمى الكمون الهندي أيضاً، وهي الخردل، أو الحبة الخضراء (ابن قيم، الطب النبوي). عُرفت هذه المادة بفائدة طبية متعددة الأغراض، ليس من بينها التخدير كفعل الخشخاش أو ورق القنب. وردت فوائدها في أحاديث نبوية منها: "عليكم بهذه الحبة السوداء، فإن فيها شفاء من كل داءٍ، إلا السام" أي الموت(نفسه). غير أن أبا حنيفة الدينوري في كتاب "النبات" شبه الحبة السوداء بالشونيز، وهي مادة تستعمل عادة في توقير الإبل. وتوقير الدابة بمعنى تسكينها، أو ترزينها (القاموس المحيط). إن قصد الدينوري هذا المعنى فملاحظة ابن الجوزي "حتى ينبسط دماغه" تكون جائزة.
بعد صلة مادة الحشيش المخدرة بالخشخاش تأتي صلتها بنبات الشَّهدانج، وهو بذر شجرة القنب، فورقه يسمى الحشيش أيضاً. قال أبو الخير الأشبيلي في القِنب: "كثيره يصدع الرأس، ويجفف المني، ويقطع النسل، ويسكر كما تسكر الخمر"(عمدة الطبيب). إلا أن المصادر الإسلامية لا تخبر عن صلة الحشاشين بأي حشيش، سواء كان حشيش الخشخاش أو شجر القِنب، وهم، حسب رواية مبغض لا محب، كانوا يتناولون الحبة السوداء فقط. بعد هذا تبقى لدينا رواية متأخرة يسوقها ابن الفرات تؤكد وجود الحشيش كمخدر، يُعد التعامل فيه وبالتالي تعاطيه من المحرمات، قال في حادثة يؤرخ لها في تموز 1387م، أي بعد زمن جماعة ابن الصبَّاح بمئتي عام: "أرسل الأمير سودن الفخري الشيخوني نائب السلطة جماعة إلى موضع يعرف بحكر واصل سولاق يباع فيه الحشيش، فهجموا بيوت جماعة من أهل ذلك الموضع، وحملوا أثني عشر حمل جمل، وعشر بغال وحمير، وعلى بعض الجمال أربعة أفراد، وبعضهم ثلاثة أفراد، وبعضهم فردين، وجميع ذلك مملوء من الحشيش، وشاع أنهم مضوا بذلك إلى تحت القلعة وأحرقوه وأتلفوه بالتراب"(تاريخ ابن الفرات). أشارت عبارة "أحرقوه وأتلفوه" إلى أنه المادة المخدرة لا غيرها.
أطلق تسمية الحشاشين (Assassin)، التي كما تقدم لا أصل لها في كتب التراث والتاريخ الإسلامي، الرحالة الغربيون القدماء على إسماعيلي القرون الوسطى من المتحصنين بقلعة ألموت، تأكيداً لمزاعم وقوعهم تحت تأثير مادة مخدرة. لكن للتسمية دواعٍ أخرى، ليس بينها المادة المخدرة، منها أنهم حشائشون وليسوا حشاشين، والفرق كبير بين التسميتين، فالأولى نسبة للدواء والثاني نسبة للمخدر. قال المؤرخ اللبناني حسن الأمين: "الحشائشيون وهي الصفة التي كانت تطلق في تلك العهود على مَنْ يتعاطون جمع الحشائش البرية، التي تستعمل هي نفسها أدوية، أو تستقطر منها الأدوية، وقد كان يختص بذلك أفراد، فيهم مَنْ هم من الأطباء أو الصيادلة، كان يطلق على الواحد منهم لقب: الحشائشي، حتى لقد أصبحت هذه المهنة من المهن المشتهرة، وكان لها أسواق خاصة بها، وتجار يتعاطون بيع الحشائش الطبية وشراءها"(الإسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي).
إن وجود لقب الحشائشي، الذي أشار إليه الأمين أكثر من مرة في كتابه "الإسماعيليون والمغول"، يؤكد صحة النسبة، وخاصة إذا كان أحد وكلاء الحسن بن الصبَّاح حشائشياً، وهو محمود السجستاني. قال: "كان في كل مدينة سوق خاص يسمى سوق الحشائشيين، وكانت الحشائش تجمع بألموت في جوالق يكتب عليها اسم المرسلة إليه، واسم المدينة مع كلمة سوق الحشائشيين. أما ما يستقطر منها فيوضع في قوارير خاصة محفوظة من عوامل الكسر وترسل مع أحمال الحشائش"(نفسه).
بطبيعة الحال أن ماذهب إليه الأمين كان جديراً بالإهتمام، لكن ماذا عن نسبة التسمية إلى الحشاشة بمعنى "بقية الروح في المريض أو الجريح"، فربما لقدرة هؤلاء على الاغتيال، وتمرسهم في أساليبه وشهرتهم فيه أرتبط أسمهم بالحشاشة حتى ذاع صيتهم بالحشاشين، أو إلى نسبة لعملية حش الرقاب لكثرة القتل؟ وحسب برنارد لويس وردت تسمية الحشاشين أول مرة في تقرير كتبه مبعوث الأمبراطور فردريك إلى مصر وسوريا السنة (1175) ميلادية، أي بعد وفاة ابن الصبَّاح بثمانية عشر سنةً، بعد أن "لاحظ جنس معين من العرب يعيشون في الجبال يسمون أنفسهم بالحشاشين"(الحشاشون). ولعل عبارة "يسمون أنفسهم"، تفيد في أنهم سموا أنفسهم بهذا الاسم لإرهاب الخصم، أو أطلق عليهم هذه التسمية المحيطون بقلاعهم.
فالتسمية عربية قطعاً، مصدرها بلاد الشام وليس بلاد فارس كي تفسر بمعنى آخر. قال برنارد لويس: "نلاحظ إنه عندما كان ماركو بولو... يتحدث عن الإسماعيلية في فارس باعتبارهم حشاشين، وعن زعيمهم باعتباره شيخ الجبل كان يستخدم تعبيرات شائعة في أوروبا جاءت من سوريا لا من فارس، فالمصادر العربية والفارسية على السواء تدل أن كلمة حشاشين كلمة سورية محلية، كانت تعني فحسب إسماعيلية سوريا وليس إسماعيلية فارس أو أية دولة أخرى"(نفسه). فلو كانوا يتناولون ورق القنب المعروف بالمخدر آنذاك ما فات الغزالي ولا ابن الجوزي وغيرهم من ذكر هذا المثلب الخطير. إضافة إلى أن عمليات الإغتيال والتدريب تحتاج الصحوة والإنتباه، ومعاينة دقيقة للمكان، ورصد حركة المغدورين، فهم عادة من أرباب السلطة والجاه تحيطهم الحراسة، وكل هذا لا يتوفر لمتعاطي المخدرات.
شاعت تسمية الحشاشين (Assassin) بأوروبا، حتى أخذت تطلق على كل مَنْ يمارس الإغتيال من أهل الجبل أو غيرهم. وردت التسمية في جحيم دانتي عندما تحدث عن الحشاش الخائن، ووردت في رسائل العاشقين، مثل: "أنتِ تسيطرين عليَّ بسحرك أكثر مما يسيطر الشيخ على حشاشيه الذين يذهبون لقتل أعدائه الفانين"، و"كما يخدم الحشاشون سيدهم بإخلاص لا ينضب كذلك أحبكِ بولاء لا يكل"، و"أنا حشاشكِ الذي يتمنى أن يحظى بفردوسك عن طريق تنفيذ أوامرك"(نفسه).


مخيال الفردوس
الرعب من الحشاشين كان أبلغ من الرعب من أي جيش من الجيوش الجرار، لأنه الفتك سراً، كان لهم قدرة عجيبة على التمويه والتستر ما يمكنهم الدخول إلى غرف النوم، لذا حذر القس الألماني بروكاردوس ملك فرنسا فيليب السادس من أساليبهم، قال: "لا ينبغي السماح باعطاء وظائف القصر الملكي، أو أية خدمة فيه مهما كانت صغيرة أو مختصرة أو متواضعة إلا للمعروفين تماماً، كما لا ينبغي السماح لأحد بدخول القصر إلا لهؤلاء الذين تعرف بالتحديد دولتهم، وحكامهم، ونسبهم، وحالتهم. أي ينبغي بإختصار أن يكون الشخص المسموح له بالاقتراب من الملك معروفاً"(نفسه). فأول قتيل أوروبي بخناجرهم هو أمير القدس كونراد أوف (1192م).
إن فسر ابن الجوزي إندفاع الحشاشين إلى الموت بسبب غبائهم، وإستحواذ ابن الصبَّاح عليهم بمواد تبسط أدمغتهم، فسرها الرحالة ماركو بولو في تقريره حولهم بشراء أو نيل الجنة. قال واصفاً جنتهم التي شيدها لهم ابن الصبَّاح في وادي مغلق بين جبلين: "حوله حديقة فيحاء، أكبر وأجمل حديقة يمكن أن تقع عليها العين، وملأها بكل أنواع الفواكه، وأقام فيها قصوراً ومقصورات من أروع ما يمكن تخيله، وجميعها مغطاة برسوم فاتنة، ومموهة بالذهب، وجعل فيها جداول تفيض بالخمر واللبن والعسل، وأقام على خدمة الحديقة فاتنات من أجمل نساء العالم يجدنَّ العزف على مختلف الآلآت الموسيقية، ويغنينَّ بأصوات رخيمة، ويؤدينَّ رقصات تخلب الألباب، ذلك لأن شيخ الجبل كان يريد أن يوحي لشعبه بأن هذه هي الجنة الحقيقية، ولذا فقد نظمها بالوصف الذي جاء به محمد للفردوس كحديقة جميلة تفيض بأنهار الخمر واللبن والعسل والماء، ومليئة بالحور العيّن، ومن المؤكد أن المسلمين في هذه الجهات يعتقدون أنها الجنة حقاً"(نفسه). أضاف ماركو في تقريره حول كيفية إستلهامهم الجنة قوله: "يشربون مخدراً معيناً يسلمهم إلى نعاس عميق ثم يأمر برفعهم وحملهم إلى هناك، وهكذا فأنهم ما أن يستيقظوا يجدون أنفسهم في الجنة"(نفسه).
لم يشاهد الرحالة ماركو فردوس الحشاشين، لأنهم جماعة سرية دائمة الارتياب والحذر من الغرباء، كذلك لا تبدو القصة خالصة من إختلاق مخيلته دون السماع من حشاش أو قريب منهم، تحدث إليه عن جنة الآخرة لا جنة الدنيا، ثم ركب ماركو الوصف على وادٍ مغلق بين جبلين ترتفع فوقه قلعة ألموت، وجعل منها عرشاً إلاهياً في أسفله الجنة. إن تمكن ابن الصبَّاح من شق جداول ماء وغرس فاكهة وأعناب فماذا عن الخمر واللبن والعسل وغيرها من المرغبات، والمعروف عن ابن الصبَّاح أنه كان متديناً شديد الورع، قتل ولده لشربه الخمر!
صحيح ما قاله ماركو حول شراء الحشاشين الجنة مقابل عملياتهم الإنتحارية، فهذا ما مارسه المسلمون الأوائل، وما يعتمد الجهاد الإسلامي عليه، وقد أشرنا إلى نماذج معاصرة قامت بعمليات إنتحارية مقابل الجنة. هذا من جانب ومن جانب آخر تحولت النزارية أو الباطنية إلى عقيدة هيمنت على عقول الأتباع ليكونوا فدائيين من أجلها. ما يكذب معلومة ماركو حول مادية جنة الحشاشيين هو أن مكان وادي الفردوس المزعوم يجتاحه الشتاء وبرده القارس شمال إيران، فيحوله إلى أرض غير ذي زرع "سبعة أشهر في العام"(الإسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي)، فكيف يكون فردوساً عامراً.
إن تلقين المنضمين إلى تنظيم الحشاشين، وهم حسب ابن الجوزي ينتقون من الجُهلاء، بمفاهيم الشهادة وشراء الجنة والتبسط في الحديث عن نعيمها وملذاتها الدائمة هَيَّأهم للقيام بالعمل الإنتحاري دون وجل. ينقل المؤرخ الحنبلي المذكور صورة من صور هيمنة أمير الإنتحاريين على أتباعه: قال لجماعة من أصحابه أمام رسول ملك شاه السلجوقي إليه: "أريد أن أنفذكم إلى مولاكم في قضاء حاجة، فمَنْ ينهض لها؟ فأشرأبَّ كل واحد منهم لذلك، وظن رسول السلطان أنها رسالة يحملها إياهم، فأومأ إلى شاب منهم، فقال له: أقتل نفسك. فجذب سكينة وضرب بها غلصمته فخرَّ ميتاً، وقال لآخر: أرم نفسك من القلعة. فألقى نفسه فتمزَّق، ثم ألتفت إلى رسول السلطان فقال: أخبره أن عندي من هؤلاء عشرين ألفاً هذا حدُّ طاعتهم لي، وهذا هو الجواب"(المنتظم). هذا ما نراه اليوم، فما أن تصدر فتوى القتل أو التفجير لا يفكر المرشح لتنفيذها إلا بالجنة ونعيمها الدائم، بعد الخضوع لعملية غسل دماغ لافراغه من أي تعقل.
شغلت الجماعة الإنتحارية بزعامة الحسن بن الصبَّاح (ت518هـ) الدولة العباسية حوالي القرنين من زمنها. ظهرت في خضم الصراع بين السلطة الفاطمية بمصر والسلطة العباسية، أو على وجه الدقة السلطة السلجوقية ببغداد، ولم تسلم من عملياتها الإنتحارية كلا السلطتين، بل لم يسلم منها أمراء الأطراف وأمراء أوروبا. ولعل أول خلع لولاية عهد في تاريخ الدول الإسلامية عامةً يسفر عن تنظيم سري إنتحاري، لا يضاهيه عنفاً غير تنظيم فرقة الأزارقة الخارجية، وإن كانت لهؤلاء جيوش يغيرون بها على عدوهم أقتصر نضال جماعة ابن الصبَّاح على ممارسة الإغتيال الفردي.
كم من ولي عهد خذله أخوه الخليفة أو أبوه السلطان واستسلم للأمر الواقع إلا نزار بن المستنصر بالله الفاطمي بمصر (ت488هـ).لم يمر خلعه لصالح أخيه الأصغر المستعلي بالله (ت495هـ)، ثم دفنه حياً تحت حائط من قبل أخيه، بسلام على الخلافة الفاطمية والعباسية على السواء. أسفر خلع الأمير نزار عن حركة أرهبت وأفزعت المدن، لكنها لم تتعدَ إلى فعل المجازر الجماعية والقتل العشوائي للنساء والشيوخ والأطفال، مثلما فعلته منظمات الإرهاب بالجزائر، وبالعراق اليوم، استخدمت في قتل الناس الفؤوس والخناجر، وتعدت إلى استخدام المواد الهائلة الإنفجار في تقويض الأماكن المَأهُولة بالناس.
أشهر جماعة النزارية الحسن بن الصبَّاح الإسماعيلي، نعته المؤرخون بداهية من دهاة العالم، "قوي المشاركة في الفلسفة والهندسة، كثير المكر والحيلة بعيد الغور"(العسقلاني، لسان الميزان). قال ابن الأثير: كان "شهماً كافياً عالماً بالهندسة والحساب والنجوم والسحر وغير ذلك"(الكامل في التاريخ). ونقل ابن حجر عن كتاب أبي حامد الغزالي "سحر العالمين": " شاهدت قصة الحسن بن الصبَّاح لما تزهد تحت حصن ألموت (أشهر قلاع النزارية بقزوين من إيران) فكان أهل الحصن يتمنون صعوده إليهم، ويمتنع ويقول: أما ترون المنكر قد فشا وفسد، فتبعه خلق، ثم خرج أمير الحصن يتصيد فنهض أصحابه وملكوا الحصن، ثم كثرت قلاعهم"(نفسه).
بدأ أمر النزارية أو الباطنية يشتد ويأخذ منحى الخطورة عند صعود حسن بن محمد بن الصبَّاح "على قلعة ألموت في شهر شعبان سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، وذلك بعد أن هاجر إلى بلاد إمامه (مصر)، وتلقى منه كيفية الدعوى لأبناء زمانه"(الملل والنحل). يروي ابن الأثير كيفية إستيلاء ابن الصبَّاح على قلعة ألموت(أي تعليم العقاب، قيل عرفت بهذا الاسم لأن عقاب صيد دلَّ أو علم مشيد القلعة على مكانها الحصين، وقيل تعني عش النسر)، وهو ابن ذاك الزمان، بالقول: إنه هيمن عليها بإظهار الزهد والعبادة لصاحبها العلوي، وبعدها "دخل يوماً على العلوي بالقلعة فقال له ابن الصبَّاح: إخرج من هذه القلعة، فتبسم العلوي، وظنه يمزح، فأمر ابن الصبَّاح بعض أصحابه بإخراج العلوي، فأخرجوه إلى دامغان، واعطاه ماله ومَلك القلعة"(الكامل في التاريخ 10ص317. تبدو رواية زمالة حسن الصبَّاح (1037-1124م) للوزير نِظام المُلْك (1018-1092م) وعمر الخَيَّام (ت1121م) في صف دراسي واحد مختلقة، اختلقتها مخيلة كاتب ترجمة الخَيَّام أدوارد فيتزجرالد لمجرد الإثارة، تبعه في ذلك أركون دارول في "تاريخ الجماعات السرية"، وتبع الأخير أمين معلوف في رواية "سمرقند" جاء في الرواية "إن حسن الصبَّاح والشاعر عمر الخيام والوزير نِظام المُلْك كانوا زملاء دراسة لإستاذ واحد، وتعاهد ثلاثتهم على أن أي واحد منهم يحقق قبل زميله نجاحاً أو ثراءً في هذا العالم عليه أن يساعد الآخرين"(لويس، الحشاشون، ص81). زاد أركون على الرواية أن تحقق هذا الإتفاق فساعد الوزير الخَيَّام وابن الصبَّاح في إيجاد وظيفتين لائقتين لهما(تاريخ الجماعات السرية، ترجمة: عبد الهادي عبد الرحمن، الرباط: تانيت للنشر، 1993). ولا ندري، كيف تكون الزمالة ويكون الإتفاق بين أثنين وفارق السن بينهما حوالي عشرين عاماً؟).


[email protected]