لم تتوافد جموع المحامين العرب، المشهورين منهم و المغمورين، الى فلسطين المحتلة مثلا دفاعا عن مناضل بحجم البرغوثي، و لم تذرف هذه الجموع دمعة على آلاف من معتقلي الرأي و غير الرأي في بلدانهم ذاتها أو في اي مكان اخر في هذه المنطقة المنكوبة بين المحيط و الخليج حيث تزهق حياة المئات في أقبية مظلمة سرية على مدار الساعة، و حيث يرحل الاباء تاركين زوجاتهم وابنائهم و بناتهم الى "جهة مجهولة" يوميا، و حيث تنام المئات من العوائل تحت اديم الارض في مقابر جماعية، و حيث تحصد خناجر السلطة و غازاتها الرقاب و الاعراض و الكرامات..فالخطوط حمراء، و الابواب موصدة..

فقط بغداد، تلك الاميرة الجريحة، فتحت بابها للنطيحة و المتردية من "المجاهدين" و " المقاومين" و "المحامين" و تجار السلاح و السموم، و تجار الدين و العقائد، و مناضلي القرون الوسطى، و رجال المخابرات، و المغامرين و المقامرين، و قبلهم تجار الكوبونات و الشعارات و قصائد التمجيد السمجة.. بغداد، التي لم تكفها دماء الملايين التي سالت عبر عهود القمع الاسطوري، و اكفان ابنائها في قادسياته و أمهات معاركه و "انفاله" و "حلبجاته"، فسمحت لمن يشاء بالدفاع عن جلادها..

فرق كبير بين الكراهية المزعومة للاحتلال الأمريكي و الكراهية الوقحة للشعب العراقي.. قد نحاول أن نفهم ان يدافع فلان عن صدام و نظامه لدواعي العقيدة أو المصلحة، و لكن ليس لأحد الحق في ان يمتهن كرامة ملايين العراقيين بادعاء ان لا جرائم قتل جماعية ارتكبت، و لا غازات سامة استخدمت، و ان كل ذلك كان خدعة.. كما صرح ذلك المحامي..

ليس لهذا المحامي سئ الصيت ان يدخل العراق، فقد تجاوز مسألة الدفاع عن متهم الى مسألة ادانة شعب بأكمله بالكذب.. كان تصريحه الاخير مؤشرا بأن الغرض من مسرحية الدفاع – بالاضافة الى الملايين المنهوبة من دماء شعب العراق التي ستدخل الجيوب- سياسي دعائي، يطرح وجهة نظر تفوح منها روائح الكراهية لهذا الشعب المسكين، و احتقار لآلامه و نكباته لصالح دكتاتور مختل و ثقافة مهزومة و فكر ظلامي..

ليس لنقابة المحامين العراقيين ان تسمح له و لفريقه بالدفاع عن نظام المقابر بعد ان اهان الشعب العراقي على الملأ.. فقد تجاوزت المسألة قضية قانون المحاماة العراقي لعام 1965 الى القانون رقم 1 لجميع الأعوام، و القاضي بأن لا مكان على ارض العراق لمن يهين آلام هذا الشعب بعد اليوم..

محظوظ ذلك الدكتاتور الضئيل، فقد نال ما لم ينله مجرمو العصر الحديث و القديم معا، فالملايين من الدولارات تدور في دواليب لا تنتهي دفاعا عنه، و المئات من المرتزقة حملة شهادة المحاماة التي اخلوا بقسمها يتهافتون للترافع، هذا من اجل دولاراته، و ذاك من اجل مصلحة سياسية أو انتخابية، و ذياك لشهرة ذاتية.. لم يشهد التاريخ مجرما تتداعى له ماكنات اعلام رسمية و اهلية كاملة دفاعا و تبرئة، متهمة ضحاياه بالكذب و اختلاق الموت كما هو الحال مع ذلك المأسور في يغداد التي تجاوزت عقدة الاعدام الفوري التي اعتادت عليها بلدان العرب عقب أي تغيير في نظام الحكم..

ان الراقدين تحت التراب ممثلون، و ضحايا الغازات ممثلون، والعراقيون المكلومون بأخ أو أب أو قريب أو عزيز كاذبون، و اصحاب الآذان و الاطراف المقطوعة و من جلس على القوارير في اروقة المخابرات و من جزت رؤوسهم بالمنشار الكهربائي كاذبون.. برئ هذا الحمل الوديع في قفصه، فقد كان الصادق الوحيد وسط عشرين مليونا من الكاذبين.. منحه آسروه الاميركيون فرصة لم ينعم بها أي مجرم اخر في التاريخ، فتكلم من قفصه الى العالم، و زاره الصليب الاحمر و الاخضر و الابيض، , بل و أحضروا له الكتب ليتسلى و يكتب رواياته الرديئة..ثم يشكو محاموه من سوء المعاملة!!

لو زار أحدهم معتقلا عربيا واحدا في حيواتهم الرثة، لعرفوا المعنى الحقيقي لسوء المعاملة، و لو زاروا معتقلا ت سيدهم بالتحديد، لعرفوا كيف يتحول الانسان حيوانا في أيام، كيف يغتصب الجسد و العقل، كيف تتساقط الاطراف حرقا و قطعا، كيف تقطع الالسنة و توشم الجباه، كيف يصبح الانسان كيسا للملاكمة على مدار الساعة، و كيف تخلق العاهات المستديمة في دقائق.. و لكنه ذلك النظام الجديد الذي ينعتونه بالعمالة و الخيانة، و الذي يحاول ان يرسي سابقة لا مثيل لها، بمحاكمة الدكتاتور الذي ندر مثيله، و الذي لو أعدم فلن يثير ذلك استغراب أحد في منطقتنا الموبؤة..

ماذا لو حاول اولئك الذهاب الى دمشق مثلا و المطالبة بالدفاع عن أقدم سجين رأي في العالم، أو الى عمان أو تونس أو القاهرة أو الرباط أو الرياض أو غيرها.. او بغداد قبل سقوط الصنم - الوهم، ماذا سيكون رد فعل السلطات؟ و ماذا ان تساءلوا عن مصير الآلاف اللذين اعدموا بدون محاكمات أو بمحاكمات صورية سريعة حيث لا قضاة او محامين أو جلادين سوى الانظمة ذاتها.. ؟ الجواب معروف طبعا، و لكنها بغداد الجديدة.. فاتحة ذراعيها.. بغداد الحزينة الحالمة التي تمزق احلامها بين الحين و الاخر انفجارات السيارات المفخخة و رشقات الرصاص من عتاة قتل لا يعرفون من بغداد و لغتها و ادبها و حضارتها غير لغة الموت و الدم.. رحلوا و بقيت بغداد، و سيرحل الاميركيون و الايرانيون و السوريون و السعوديون و اليمنيون و القاعديون و الزرقاويون و كل من ابتلت بهم هذه الحبيبة، و ستبقى بغداد..

لم يبن فريق الدفاع التعس دفاعه على مسؤولية صدام حسين عن الجرائم الفردية التي ارتكبها بيده و الجماعية التي ارتكبها نظامه، و عن مدى تورطه الشخصي بها كما كان أكثر المتفائلين يتصور، و لكنهم بنوه على أساس أن الدكتاتور صادق و الشعب بمجمله كاذب.. لقد أتوا ليحاكموا الضحية، و سكان المقابر، و ضحايا الغازات السامة..فيا له من زمن ردئ.