مجتمعات البلدان الناطقة بالعربية هي مجتمعات غير متجانسة، لا دينيا ولا مذهبيا ولا عرقيا ولا قوميا ولا ثقافيا، وهي متباينة أيضا في قدرتها على التطور والتفاعل مع الحضارة الإنسانية. والإصلاح السياسي الذي نسعى إليه جميعا، يجب أن يعي ويراعي هذا التنوع، الذي يُنظر إليه كمعضلة، وأن يصهره في بوتقة واحدة هدفها بناء الوطن وتحسين أوضاع مجتمعاته.
والحل الوحيد هو إقامة النظام الديمقراطي، الكفيل وحده بتحقيق المساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن جميعا دون أدنى تمييز. وكل ادعاء بوجود حل آخر ما هو إلا تخرص وتلاعب بعقول الناس، وضحك على ذقونهم، هدفه الإبقاء على واقع الحال، لتثبيت ملك الحاكم، والتصفيق له، عن طريق محاصرة الناس في أماكنها، إن لم نقل دفعهم أكثر تحو الخلف.
لا يمكن بناء نظام ديمقراطي، في ظل وجود مفاهيم وتوجهات وقوانين تكرس الانحياز للجنس أو العرق أو القومية أو المذهب أو الدين، وفي ظل الادعاء بتفوق فئة أو ثقافة أو مذهب ديني على آخر، وأن هذا المذهب يمتلك الحقيقة المطلقة التي وهبها الله له دون الآخرين.
إن السماح بانتشار هكذا أفكار هو البلاء الذي حل بمجتمعاتنا وجعلها تعيش خارج الزمان والمكان. وهو الوباء الذي ضربها، وأفقدها صوابها، والسبب الرئيسي للجهل والتخلف، والكره والحقد والإرهاب.
لا يمكن أن يكون الدين أو القومية عامل توحيد وتعاون بين الناس في مثل هذه المجتمعات المتنوعة والغير متجانسة، و لا يمكن أن يساهما في معركة البناء والتنمية، ولا يمكن أن يكونا من الركائز السليمة التي تعتمد عليهما الدولة في رسم سياستها نحو مواطنيها. وإلا كيف يمكن أن يوحد الدين جهود الوهابي والشيعي والإسماعيلي، وأن يكون عامل تعاون في معركة البناء والتنمية، وينشر المحبة والتسامح بينهم. وكيف يمكن للقومية أن تكون عامل توحيد أيضا في بلد تتعد فيه الأعراق مثل العراق مثلا؟
كيف يمكن لمجموعتين أن يتفاهما ويتسامحا ويتعاونا ويتوحدا، إذا كانت إحدى هاتين المجموعتين تتهم الأخرى بالزندقة والكفر، أو بالخيانة والتآمر على الوطن؟ كيف يمكن لفئتين متمايزتين أن يتفاهما ويتعاونا، إذا توهمت وادعت إحداهما أن الله فضلها على غيرها، وخصها وحدها دون سواها بعلمه وفضله؟ وأن الوطن بالتالي ملكية خاصة لها، مسؤولة عنه، لا ينازعها فيه أحد غيرها، تتحكم في أهله ومقدراته وترسم خطواته؟ أن الوقائع تشير إلى أنهما(الدين والقومية) في مثل هكذا مجتمعات، عاملا هدم وفرقة وتناحر، ويُستخدما كأداة اضطهاد من فئة ضد فئات أخرى.
لم يختر أحد من أبناء البلدان الناطقة بالعربية دينه، ولا يسمح له بالاختيار، ودون ذلك الموت الزؤام، فقد ولدوا جميعا على دين آبائهم، بمعنى أن أحدا منهم لا يستطيع أن يدعي أنه اختار الأفضل. وعلى كل حال فالأديان كلها ملك لله، بينما اختار جميعهم العيش في هذا الوطن الذي عاش أجدادهم من قبل على أرضه.
في البلدان التي يطيب لنا أن نسميها بلاد الكفار، لإيهام أنفسنا أننا مؤمنون صادقون، نتمتع بأخلاق تنبذ الكذب والنفاق والغش والخداع والزنى والسرقة وشرب الخمر والربا، ونحسن التعامل مع الناس، باعتبار أن الدين معاملة، ونعطف على اليتيم والضعيف والفقير ، في تلك البلاد الكافرة يحصل الغريب عن دينها ولغتها وقوميتها وأرضها، وقد يكون معاديا لها، على جنسيتها خلال خمس سنوات من إقامته النظامية، ويتمتع بجميع الحقوق التي أقرتها قوانين تلك البلاد، لا فرق بينه وبين أبنائها الأصليين، تحترم حقوقه ومعتقداته، يرشح نفسه وينتخب، ويساهم في رسم سياساتها، وصياغة تشريعاتها. هذا في بلاد الكفار. أما في بلاد المؤمنين، فتنتهك حقوق أبناء البلد الأصليين الذين عاش أجداد أجدادهم على هذه الأرض، وتداس كرامتهم، وتُنهب ممتلكاتهم، ويُعتدى على نسائهم، وتقمع حريتهم في الإعلان عن/ وممارسة شعائرهم، ويمنعون من وظائف معينة في الدولة، ويبعدون عن مراكز القرار، والمشاركة في رسم سياسات الوطن، لا بل يُتهمون بالخيانة والكفر والزندقة.
لقد بقيت الشعوب الغربية تعيش في جهل وظلام مطبق طيلة الفترة التي سيطر فيها الدين على حياة الناس ومقدرات البلاد، ولم تنهض من حفرها وترى النور وتتنشق الهواء إلا بعد الإطاحة بسلطة الدين ورجالاته. لهذا لا بد من أجل الوصول إلى الديمقراطية، من تكريس قوانين تفصل الدين عن الدولة، وتساوي بين المواطنين جميعا، وتحمي حقوقهم الثقافية، وحقهم في حرية الاعتقاد وممارسة شعائرهم الدينية، وتمنع تأسيس أحزاب سياسية على أساس عرقي أو قومي أو ديني، تدعي التفوق وملكية الوطن واحتكار الحقيقة المطلقة، كي لا تكون فتن وصراعات وتناحرات، ولا بد من وجود هيئة أو مؤسسة، تمتلك من القدرة ما يكفي لحماية هذه القوانين، والسهر عليها، ووضعها موضع التطبيق.
أن مسألة الاعتقاد الديني هي مسألة ظنية فردية، لا أحد يمتلك الدليل العلمي على صحتها، ويجب أن تبقى ضمن هذا الإطار الفردي الظني ، كعلاقة خاصة بين الفرد وربه ، كي لا يتحول الدين والقومية إلى بؤرة للفرقة والخلاف تقضي على جهود المواطنين في بناء أوطانهم، فالوطن ملك لجميع أبنائه نساء ورجالا، مسيحيين ومسلمين، شيعة وسنة، إسماعيليين ودروز وأباضيين وزيديين ووهابيين وصوفيين ....الخ.


[email protected]