المعارضة المصرية ليس لديها البديل

يثور الجدل كثيرا علي الساحة السياسية في مصر حول مستقبل مؤسسة الرئاسة، و إن كانت غالبية الشعب المصري كالعادة لا تشغلها هذه القضية كثيرا، ولا تعيرها اهتماما كبيرا، فقد اعتاد الشعب المصري أن يتعامل مع الأمر الواقع عند حدوثه علي ما هو عليه، ولا يسعى لتغيير ما هو قادم أو الحيلولة دون قدومه، والمعارضة المصرية الممثلة في الأحزاب الرسمية منها وغير الرسمية لا تُمثل في نهاية الأمر إلا نسبة ضئيلة جدا من قطاعات الشعب المصري، وهذا واقع لا يمكن تجاهله أو إنكاره، ويجب التعامل معه بواقعية وموضوعية بعيدا عن الشعارات والمبالغات، هذا إذا كنا نريد تغييره أو تحسينه، وإن كنا نري أن هذا أمرا صعبا للغاية في ظل الظروف الحالية علي الساحات الداخلية والإقليمية والدولية، و خاصة أن المعارضة السياسية في مصر بمختلف توجهاتها وتشكيلاتها الحزبية وغير الحزبية لا تملك برنامجا سياسيا واضح المعالم ومحدد البنود وجاهز للتطبيق وفق معطيات الواقع في المجتمع المصري، كما أنها لا تمثل كما قلنا قطاعات شعبية، ولا تملك قواعد جماهيرية، وكثير من الأحزاب السياسية الموجودة في مصر الآن إن لم يكن جميعها لا تضم في عضويتها أكثر من الحد الأدنى المطلوب لتأسيس الحزب قانونيا، وغالبية هؤلاء الأعضاء لا يزيدون عن كونهم مجرد أسماء داخل كشوفات أو قوائم موضوعة في أدراج الحزب ومكاتبه في بعض المحافظات، وليس لهؤلاء الأعضاء أي دور أو فاعلية لا علي الساحة السياسية ولا حتى داخل أنشطة الحزب نفسه، ولا يستطيع أي حزب في مصر مهما كان تاريخه وتواجده وقوته أن يحشد أكثر من خمسمائة شخص من أعضائه و مائة أو مائتين علي الأكثر من المهتمين والفضوليين في أية فعالية جماهيرية سواء مؤتمر أو مظاهرة أو غيرها، وتدار هذه الأحزاب كلها بشكل أقرب إلي القبلية، حيث يعامل رئيس الحزب معاملة الكبير الذي لا يجب مخالفة أوامره، وتحيط به حاشية من كبار الأعضاء وأكثرهم قدرة علي الكلام والخطابة، وهؤلاء هم اللذين يستأثرون بكافة المميزات والامتيازات داخل الحزب، و تحاول هذه الحاشية الملتفة حول رئيس الحزب ألا يزيد عددها، وأيضا تحاول ألا تبذل جهودا كبيرة في العمل الحزبي حتى لا تُهدر المزيد من الامتيازات التي تستأثر بها وخاصة الامتيازات المادية، ولا يوجد في مصر حزب واحد يملك مؤسسات اقتصادية صغيرة أو كبيرة،أما النشاط المعارض للحكومة فيتم من خلال هذه الأحزاب في الإطار المسموح به والشبه متفق عليه بين قياداتها وبين الحكومة.
ولا نريد أن نسترسل كثيرا في قضية أمراض الأحزاب السياسية في مصر، فهي معروفة للجميع وقيل عنها الكثير وكُتب فيها الكثير أيضا، لكن ما نريد أن نقوله هنا أن الحزب الوطني الحاكم في مصر لا ينطبق عليه ما ينطبق علي باقي الأحزاب المعارضة، وذلك لأنه في الحقيقة ليس حزبا بقدر ما هو مؤسسة حكومية كبيرة تملك كافة زمام الأمور في البلاد، وتضم داخلها كافة المؤسسات التي تصنع القرارات في مصر بما فيها مؤسسة الرئاسة نفسها، وتهيمن علي كافة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بشكل مباشر أو غير مباشر، كما أنها أيضا تهيمن بشكل غير مباشر علي أنشطة جميع الأحزاب الأخرى كبيرها وصغيرها، و جميع قادة الأحزاب الأخرى يسعون بشكل غير معلن لكسب ود قادة الحزب الوطني، وذلك ببساطة لأنهم هم الحكومة وهم السلطة التي لا يمكن تغييرها، وتمويل كافة الأحزاب الأخرى يأتي منهم وعن طريقهم، أما لعبة الانتخابات في مصر فلا مجال للحديث عنها هنا لأن الجميع يعرفها جيدا ويعرف كيف تتم، ولا أقصد هنا أنها تتم بالتزوير لصالح مرشحي الحزب الوطني الحاكم، لا.. هذا ليس صحيحا كما يعتقد البعض، فعملية الانتخابات هذه تتم أيضا وفق الأمر الواقع الذي شرحناه مسبقا، والذي يقول أن هذه الأحزاب المعارضة ليس لها قواعد شعبية في الشارع المصري، وأي مرشح من أحزاب المعارضة ينجح في الانتخابات لا ينجح بقواعد الحزب ولا بتوجهاته السياسية، وإنما ينجح بتكاتف أقاربه وأصدقائه وأهل دائرته التي أتي منها و ينتمي إليها، وأيضا لضعف مرشح الحزب الوطني أمامه في الدائرة، وكل هذا يتم في إطار ترتيبات وخطط الحزب الوطني الحاكم الذي يسمح بنسبة محددة من المعارضة لتشاركه الحديث في البرلمان لا أكثر ولا أقل، وذلك بهدف إيجاد شكل من الديمقراطية، والقضية في النهاية ليست قوة في الحزب الوطني بقدر ما هي ضعف شديد في الأحزاب الأخرى جميعها ( بلا استثناء).
في ظل هذه الأوضاع والظروف يصبح الحديث الدائر الآن عن مستقبل مؤسسة الرئاسة في مصر درب من الهرطقة البعيدة عن واقع الحياة السياسية في مصر، وخاصة أن ما تطرحه المعارضة السياسية في مصر من خلال الأحزاب أو غيرها من الجمعيات والمنظمات الأخرى لا يتعدى كونه شعارات تهدف فقط إلى رفع الحرج حتى لا يُـقال أنهم صامتون أو غائبون أو متفقون مع الحكومة.
والملاحظ أن الطرح الوحيد المطروح علي الساحة في مصر هو " جمال مبارك " نجل الرئيس حسني مبارك، و الرافضون لهذا الطرح يؤسسون رفضهم على نقطة واحدة فقط وهي مسألة " توريث الرئاسة " من الأب للابن، ويصورونها على أنها أمر خطير للغاية و يهدد كافة جوانب "الحياة السياسية" في مصر، و نقول هنا " الحياة السياسية " فقط لأن الرافضون لجمال مبارك لا يناقشون قضايا أخرى في المجتمع المصري خلاف القضايا السياسية، وحتى عندما يناقشون القضايا الأخرى الاقتصادية والاجتماعية وغيرها فإنهم يناقشونها من منطلق سياسي بحت يفرضه واقعهم كمعارضين يجب عليهم الرفض، لكنهم لا يطرحون البديل ولا الحلول لهذه القضايا، وربما يكون السبب في ذلك أن هذه الأحزاب والجمعيات المعارضة لم تهتم في عملها بأي شأن أخر غير السياسة، ولم تسعي في تأسيسها ونشاطها إلي ضم الخبرات والكفاءات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وليس لديها مؤسسات اقتصادية واجتماعية تدعم نشاطها، ولهذا فهم يرفضون جمال مبارك لأسباب سياسية بحتة، ولا يناقشون ما يمكن أن يفعله هذا الشاب الذي يُمثل جيل جديد وفكر جديد.
من الصعب علينا أن نناقش قضية توريث الرئاسة من الأب للابن إذا كنا لا نملك البديل ولا الخيار، إذا ما هو الحل ؟.
الحل في رأينا هو التعامل مع الأمر الواقع الذي لا مفر منه ولا بديل له، والكف عن عزف اسطوانة الرفض من أجل الرفض ومن أجل إثبات الوجود، وعندما تتجمع المعارضة والمثقفون المصريون ليطالبوا بوضع حد لاحتكار الحزب الوطني للسلطة عليهم أن يكونوا موضوعيين وواقعيين في طرحهم، وألا ينسوا أو يتناسوا أنهم يتقدمون بطلباتهم هذه إلي الحزب الوطني نفسه الذي يملك السلطة ويحتكرها، وأنهم لا يقدمون أي بديل علي المدى القريب أو البعيد، و عليهم أن يستوعبوا جيدا مدي حجمهم و مدي تواجدهم في الشارع المصري، ولا يعزفون علي أوتار الفقر والمشاكل الاقتصادية في مصر لأنهم بخلاف الكلام لا يملكون فيها ناقة ولا جمل.
علي الرافضون لجمال مبارك أن يُنّحوا جانبا فكرة أنه " ابن الرئيس "، ويسألوا أنفسهم هل هناك علي الساحة السياسية في مصر خيار مُـتاح أفضل منه ؟، وإذا كان بينهم في صفوف المعارضة وقياداتها من يعتقدون أنه أفضل منه و أكثر خبرة، فهل يستطيعون الاتفاق عليه وحشد التأييد الشعبي له ؟، وإذا كانت المعارضة لا تملك البديل ولم يكن هناك جمال مبارك، فمن سيكون ؟، الإجابة معروفة للجميع، بالقطع سيكون واحدا من عواجيز الحزب الحاكم طالما أن الأوضاع علي الساحة السياسية كما هي ولا أمل في تغييرها علي المدى البعيد أو القريب، فأحوال المعارضة السياسية في مصر تسير كما نري للأسوأ دائما، والانقسامات والصراعات علي القيادة داخل الأحزاب تزداد حدة، إلا إذا كان هناك من يأمل ويحلُم بأن يأتي التغيير من الخارج كما نسمع كثيرا الآن.
لو أتي جمال مبارك للرئاسة في مصر فإنه يأتي في ظروف أفضل بكثير من التي تولي فيها أبيه الحكم عام 1981، فقد ورث الرئيس مبارك في الحكم تركة مثقلة بمشاكل كبيرة تركها سلفه السادات، وكانت الظروف الداخلية والخارجية لا تسمح بإجراء تغييرات جذرية سريعة، وكان علي مبارك أن يتعامل مع هذه الظروف بهدوء وحكمة، وقد حاول ذلك بالفعل، ويري البعض أنه أخفق في الكثير، بينما يري البعض الأخر أنه حقق نجاحات وإنجازات كبيرة، وظلت المعارضة المصرية علي حالها توجه الانتقادات للحكومات المتتالية، وتتهمها الواحدة تلو الأخرى بالفشل، لكن هذه المعارضة علي مدي قرابة ربع قرن لم تتناول قضية مؤسسة الرئاسة، ولم تقدم أية مقترحات حول منصب الرئيس أو نائبه، حتى عندما تعرض الرئيس مبارك لحادث الاغتيال في أديس بابا سارع قادة المعارضة لتهنئته بالنجاة، لكن أحدا منهم لم يطرح آنذاك قضية منصب الرئيس أو نائبه، فقط عندما تعرض الرئيس مبارك لوعكته الصحية مؤخرا بدأ الحديث يدور حول هذه القضية، علي الرغم من أن صحة الرئيس مبارك أكثر استقرارا بكثير من صحة العديد من الحكام العرب وغيرهم، إلا أن الحديث والجدل ثار حول هذه القضية مرتبطا في الأساس بصعود نجم جمال مبارك، وأيضا بسبب الحديث عن التغييرات في الحكومة المصرية، وهي التغييرات التي حدثت أثناء علاج الرئيس مبارك في ألمانيا وبعد عودته، وربط الكثيرون التغييرات بجمال مبارك، وقالوا أن الوزراء الجدد يمثلون تيار جمال مبارك، لكن الغريب في الأمر أن المعارضة المصرية ذهبت تكرس نقدها للتغييرات بأنها أتت بالتكنوقراط البعيدين عن السياسة، وقالوا أن رئيس الحكومة الجديد ليس لديه أية خبرة بالسياسة، ولا ندري بالضبط ماذا تقصد المعارضة، هل تريد وزير صحة ومواصلات و زراعة وغيرهم من السياسيين، ولماذا ؟، لقد كان الوزراء من قبل معظمهم من السياسيين والعسكريين والأكاديميين، وكانت المعارضة ترفضهم لهذا السبب لأنهم ليسوا خبراء في مجالات عملهم، وعندما أتوا الخبراء قالوا أنهم ليسوا سياسيين، إنها كما قلنا المعارضة من أجل المعارضة ومن أجل إثبات الوجود فقط.
إذا كان التغيير القادم بالفعل سوف يأتي بالتكنوقراط فمرحبا به، وإذا كان التكنوقراط سوف يلقوا بنا في أحضان الغرب وأمريكا اقتصاديا كما تقول المعارضة فهم بالقطع أفضل من السياسيين اللذين ألقوا بنا في أحضانهم السياسية، وإذا كان هذا هو توجه جمال مبارك و رجاله فإننا نري أنه هو التوجه الصحيح الذي تحتاج إليه مصر الآن بالتحديد، أما السياسة والسياسيين فلا حاجة لمصر بهم الآن، وإذا كنا جميعا نرفض احتكار الحزب الوطني الحاكم في مصر للسلطة فإن رفض الاحتكار شئ وقبول ما يقدمه لنا الحزب من تغييرات ومن جيل جديد شئ أخر تماما لا يُمكن رفضه، وخاصة أن المعارضة المصرية علي مدي عقود طويلة لم تُقدم أي جديد، ولم تسعي بجدية لتغيير الواقع.