-1-

ما يجري الآن على الساحة الفلسطينية شيء مُخجل ومعيب، بل هو كارثة من الكوارث التي تنصبّ على رأس الشعب الفلسطيني صبحاً ومساءً، الذي لا يستأهل كل هذه النكبات، وكل هذه الكوارث، وكان يمكن أن يبني دولته، ويقدم عطاءه الانساني الكبير، كأي شعب آخر معطاء.

فكيف يمكن لديكتاتور عجوز تائه يحمل دفتر الشيكات الفلسطينية، ويضع مال الشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية، وبإسمه الشخصي، ويمسك بزمام السلطة الفلسطينية من قمة رأسها ختى أخمص قدميها، ولا يدع مجالاً لمسؤول بالحكم، حتى ضجر منه وضاقوا بديكتاتوريته من تطوعوا لخدمة الشعب الفلسطيني، أن يحكم شعباً عظيماً كالشعب الفلسطيني، فاستقال محمود عباس من رئاسة الوزراء، وتبعه أحمد قريع فقدم استقالته من رئاسة الوزراء – كما توقعنا في مقالنا قبل شهور، وعند تولي قريع رئاسة الوزراء فوراً - ويبني قصراً فخماً في تونس على غرار قصور صدام في بغداد، بينما شعبه ينام في العراء والمخيمات، ويسفّ التراب، ويعيش على مساعدات وكالة الغوث الدولية؟!

لقد استطاع ياسر عرفات أن يختصر قضية عربية عظيمة كالقضية الفلسطينية في شخصه الكريم، وهو الذي لم يُضفْ إلى القضية الفلسطينية منذ أكثر من نصف قرن إلى الآن أية ايجابية واحدة، بقدر ما أضاف اليها من نكبات، تلت نكبة 1948.

فقولوا لنا يا مؤرخو القبيلة الفتحاوية الغازية، ماذا قدم شيخكم الهرم للقضية الفلسطينية، منذ أن قامت "فتح" عام 1961 إلى الآن؟

فاينما حلَّ وارتحل شيخ القبيلة الفتحاوية الغازية، الذي يعتبر ما ملكت أيمانه من فلسطين "حاكورة" أو "مُختارة"، وهو مُختارها (عمدتها) الأوحد، أفسد البلاد والعباد.

فبئس "المختار" الصغير، وسلاماً لهذا الشعب الكبير.

-2-

ففي نهاية الستينات، عندما حلّ عرفات في الأردن ضيفاُ عزيزاً على قلب النظام الأردني وقلب الشعب الأردني، حاول حرق الأردن وقلب النظام واحلال قيادته محل النظام القائم في أيلول الأسود 1970. ولم تنطفيء النار التي أشعلها عرفات في الأردن إلا بثمن غال جداً، وهو حياة عبد الناصر الذي انفجر قلبه، ومات قهراً من "ولْدَنَة" وطفولة عرفات السياسية، وعبثه بمقدرات الشعوب وثوابتها.

وكاد عرفات بفعلته الأثيمة في الأردن 1970، أن يشقّ الشعب الأردني الواحد إلى شقين ويقسمهم إلى قسمين متنافرين متعاديين: شقٌ اردني، وشقٌ فلسطيني. ولولا حكمة الشعب الأردني، ووعيه، وكشفه للعب المخاتير الصغار بالنار لقامت حرب أهلية في الأردن بين الأردنيين والفلسطينيين، كما حصل في لبنان 1975 بين الشعب اللبناني وبين الفلسطينيين هناك. ولكانت المحرقة الكبرى التي تعوّد عرفات أن يقيمها في كل مكان يحلّ فيه.

فبئس "المختار" الصغير، وسلاماً لهذا الشعب الكبير.

-3-

وعندما حلّ عرفات في لبنان، بعد أن تم طرده من الأردن، فعل في لبنان أكثر مما فعل في الأردن. فأحرق لبنان حريقاً كبيراُ من خلال صدامه مع المليشيات المسيحية في 1975، وكان سبباً في اقامة حرب أهلية لبنانية استمرت أكثر من خمسة عشر عاماً، راح ضحيتها مئات الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين. وشقَّ عرفات الشعب اللبناني إلى شقين: مسيحيون ومسلمون. كما كان سبباً في غزو لبنان من قبل اسرائيل في 1982، وكان سبباُ مباشراً في قتل ودمار الشعب الفلسطيني في لبنان من خلال مجزرتي صبرا وشاتيلا. فالقاتل ليس من يقتل بيده فقط، ولكنه أيضاً من يجرّ الذبيحة إلى المسلخ. وكان عرفات هو الذي جرَّ سكان صبرا وشاتيلا إلى مسلخ شارون. ولو كانت هناك قيادة فلسطينية سياسية حكيمة غير رعناء، ولا شمطاء، ولا متهورة، وواقعية، وواعية للتاريخ الحديث ومساراته وأحكامه وشروطه، وتقرأ الأحداث بلغة العقل والواقعية السياسية، لا بالشعارات التي تقولها للدهماء والغوغاء في الشارع الفلسطيني لما حدث للبنان وللفلسطينيين ما حدث في لبنان من نكبة كبرى، لا تقل أثراً وخسائر عن نكبتهم الكبرى في عام 1948.

فبئس "المختار" الصغير، وسلاماً لهذا الشعب الكبير.

-4-

وعندما اعتدى صدام حسين على الكويت والسعودية في 1990، وقف عرفات إلى جانب الديكتاتور يدعمه في اعتدائه، ويرمي الحجارة في البئر التي كان يشرب منها، ويقدم كافة امكانات القبيلة الفتحاوية لدعم الديكتاتور في متاهته. وتمت النكبة السادسة للشعب الفلسطيني في بلدان الخليج (النكبة الأولى 1948، النكبة الثانية ضياع الضفة الغربية 1967، النكبة الثالثة في الأردن 1970، النكبة الرابعة في لبنان 1975، النكبة الخامسة في مجزرتي صبرا وشاتيلا 1982، النكبة السادسة في بلدان الخليج 1990، النكبة السابعة عندما تولى عرفات السلطة في غزة واريحا أولا في 1994، النكبة الثامنة بدء الانتفاضة الدينية الأصولية المسلحة 1999، وما زال مسلسل النكبات الفلسطينية مستمراً). وخسر الشعب الفلسطيني نتيجة لموقف عرفات الأرعن غير المسؤول، وظائف الآلاف من أبنائه في الخليج والتي كانت تصب المليارات من الدولارات في جيب الشعب الفلسطيني. وتم الاستغناء عن مئات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني البريء، وطردهم إلى الأردن والى غزة، وتشتيتهم من جديد. وكأن هذا الشعب الفلسطيني الكبير والعظيم، قد كُتب عليه الشتات من قبل أبنائه وأقاربه وأعدائه، كلٌ بدوره، وفي زمانه.

فبئس "المختار" الصغير، وسلاماً لهذا الشعب الكبير.

-5-

وعندما حلَّ عرفات في "غزة واريحا أولاً" بعد اتفاقية اوسلو 1993، ومن ثم في الضفة الغربية التي كانت تحكم أجزاء منها السلطة الفلسطينية نكبة جديدة، حوّل السلطة الفلسطينة إلى مُلك من أملاك آبائه وأجداده. وحوّل أراضي السلطة الفلسطينية إلى مزرعة له ولحاشيته الفتحاوية، فسيطروا على الاستثمارات، وشركات المقاولات، والمشاريع الحيوية، وبناء البنية التحتية الفلسطينية، ونهبوا أموال السلطة التي كانت تنهال عليهم من الدول العربية ومن الاتحاد الأوروبي، مما دفع الدول العربية والاتحاد الأوروبي إلى وقف مساعدتهم عن السلطة الفلسطينية، التي باتت تشحذ رغيف الخبز على أبواب الدول، وبات الشعب الفلسطيني جائعاً وعارياً ومضطهداً ومقتولاً. واعتلى الديكتاتور عرفات كرسياً خشبياً متهالكاً متأرجحاً في سجنه الصغير في رام الله، دون رثاء أو شفاعة من أية دولة عربية أو غربية. ولكن الديكتاتور الذي يرفع علامة النصر المزيف دائماً، وهي علامة لا معنى لها، وتخصّه هو وحده، ولا تخصّ الشعب الفلسطيني الذي انكسر ولم ينتصر بفضل دونكيشوتية عرفات، وتحكّم الديكتاتور الصغير بشعبه الكبير من وراء قضبان رام الله، وقبض على المال الفلسطيني كأي مختار لحارة فلسطينية. وأصبحت السلطة لا تصرف فلساً فلسطينياً واحداً إلا بتوقيع عرفات، ولا يُعيّن حارس، أو فرّاش، أو بوّاب، إلا بتوقيع عرفات. ولا يأكل الشعب الفلسطيني إلا عندما يطبخ له عرفات، ولا يشرب الشعب الفلسطيني إلا عندما يفتح له عرفات الصنبور، ولا تُعلن صلاة الشعب الفلسطيني إلا عندما يؤذّن عرفات، ولا يُصلّي الشعب الفلسطيني إلا عندما يؤم به عرفات، ولا تلد الأم الفلسطينية إلا إذا باركها عرفات، وكان هو "الداية" أو القابلة القانونية التي تولّدها، ولا يكتب الكاتب الفلسطيني أو الصحافي الفلسطيني إلا إذا أشار له عرفات. وعندما كتب ادوارد سعيد دون أن يطلب الإذن من عرفات، منع عرفات كتب سعيد من أراضي السلطة الفلسطينية. وعندما رسم ناجي العلي عرفات منتقداً علاقته مع رشيدة مهران، هدده عرفات في الكويت بأنه سيضع أصابعه في الأسيد، ثم كانت نهاية العلي المأساوية المعروفة في لندن عندما تخطّى الخطوط الحمراء العرفاتية. وعندما صدر كتاب "أكله الذئب" الذي يحكي قصة تورط عرفات في مقتل ناجي العلي صادره عرفات وضرب صاحب المكتبة التي تبيعه في رام الله علقة ساخنة، ومنع ناشره من طبعه طبعة ثانية بعد نفاده من الأسواق. وكأن عرفات الديكتاتور قد أصبح قدر الشعب الفلسطيني، وكان له ذلك بالفعل، كأي ديكتاتور صغير آخر في التاريخ الحديث، يختصر تاريخ شعبه في تاريخه، وحياة شعبه في حياته، ويقول ويردد شعار الديكتاتوريين:

أنا الشعب، والشعب أنا.

فبئس "المختار" الصغير، وسلاماً لهذا الشعب الكبير.

-6-

المهزلة الفلسطينية مهزلة انسانية وسياسية كونية هائلة.

المهزلة الفلسطينية تتمثل في شعب كبير وعظيم، تشرّد وقُتل منذ أكثر من نصف قرن، وما زال حتى الآن موجوداً وعائشاً وعاطياً وبانياً، رغم كل نكباته المتعددة والمتتابعة منذ 1948 إلى الآن.

المهزلة الفلسطينية تتمثل في شعب كبير وعظيم، يُعتبر أكثر الشعوب العربية رُقياً تعليمياً وثقافياً، ويمتلك مهارة في كافة المجالات، وأكثر الشعوب العربية حباً للعمل والجد فيه.

المهزلة الفلسطينية تتمثل في شعب كبير وعظيم، ظهر فيه أعظم الشعراء العرب في الماضي والحاضر، وظهر فيه أكبر الروائيين العرب، وظهر فيه أكبر الكتاب العرب والمسرحيين العرب والفنانين التشكيليين العرب والرسامين العرب والصحافيين والاعلاميين العرب.

المهزلة الفلسطينية تتمثل في شعب كبير وعظيم، استطاع أن يبني في كل مكان حلّ فيه. بنى في الأردن عندما حلَّ فيه بعد نكبة 1948، وبنى في لبنان، وساهم في بناء الخليج كله، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه.

المهزلة الفلسطينية تتمثل في شعب كبير وعظيم، هاجر إلى الغرب بعد أن ضاق به العالم العربي، فكان في طليعة العلماء، ورجال القانون، والأكاديميين، والباحثين، والدارسين، والأدباء، والشعراء.

المهزلة الفلسطينية تتمثل في شعب كبير وعظيم، ظهر فيه رجال أعمال عمالقة، استطاعوا أن يبنوا امبراطوريات اقتصادية ومالية في غضون سنوات قليلة ( آل شومان، وآل المصري مثالاً لا حصراً) رغم التشرد والنكبة والشتات والقهر والفقر.

كل هذا الشعب الكبير والعظيم يقوده الآن، ويتحكم في مصيره، وقدرِه، ومقدراته، وحاضره، ومستقبله ديكتاتور ضعيف، ومهزوم، وسجين، وعجوز، وفاسد، يتهم من يكشف عوراته وفساده - مثلما فعل المبعوث الخاص للأمم المتحدة للشرق الأوسط تيري لارسن قبل أيام - بأنه تافه ومدسوس، وتم منع لارسن من دخول أراضي السلطة الفلسطينية، واعتباره شخصاً غير مرغوب فيه، نتيجة لذلك.

كل هذا الشعب الكبير والعظيم، يقوده الآن، ويتحكم في مصيره وقدره ومقدراته وحاضره ومستقبله ديكتاتور، ولا يجرؤ أحد أن يقول له لا. وعندما يجرؤ من يقول له لا، يكون جواب الديكتاتور:

أنتم أحذية، وأنا صانعها، ألبسها متى أشاء، وأخلعها متى أشاء.

وهو قول كان يردده الديكتاتور نيرون الذي أحرق روما كما أحرق عرفات عمان وبيروت وساعد في حريق الكويت، وكما يحرق فلسطين الآن.

ولكن نيرون رحل وبقيت روما.

وعرفات رحل وبقيت عمان وبيروت والكويت.

وسيرحل عرفات غداً، وستبقى فلسطين.

(تنشر بالتزامن مع جريدة "السياسية" الكويتية، و "المدى" العراقية، و "الأحداث المغربية")

[email protected]