مقترح اَني وعاجل


قبل نحو إسبوعين أعلن الدكتور محمد البرادعي-المدير التنفيذي للوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة بأن الحكومة العراقية المؤقتة، ممثلة بوزير خارجيتها هوشيار زيباري، طلبت من وكالته رسمياً ايفاد مفتشين لاجراء حصر للمواد النووية في البلاد. وقد إستجاب البرادعي للطلب فوراً، واعداً بإرسال المفتشين الى العراق خلال الايام المقبلة. وأضاف للصحفيين، أثناء تواجده في القاهرة، انه ينبغي ان يعود مفتشي الاسلحة التابعين للامم المتحدة ايضا لاكمال مهمتهم. وقال ان مفتشين مكلفين بمهمة التحقق من وضع المواد النووية العراقية سيعودون قريبا، مؤكداً بأنهم لن يكونوا مفتشي أسلحة. بينما قالت المتحدثة باسم الوكالة الدولية للطاقة الذرية ميليسا فلمنج انها تامل ان تكون هذه خطوة نحو استئناف عمليات التفتيش الكاملة. وأوضحت: من المتطلبات الضرورية ان تقوم الوكالة الدولية بهذا الحصر. وبالاضافة الي هذا تتطلع الوكالة الي ان يعيد مجلس الامن الدولي تفويضه للوكالة للعودة الي العراق حتي يمكن استبعاد اي امكانية لاعادة بناء برنامج سري للتسلح النووي. ("وكالات الأنباء"، 20/7/2004).

وكانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد أبدت، في نفس اليوم الذي تم فيه تسليم السلطة في العراق للحكومة العراقية المؤقتة والبدء بطوي صفحة الإحتلال، في 28/6/2004، إستعدادها لمناقشة عودة مفتشيها الى العراق. وأعلن مديرها التنفيذي البرادعي، في مؤتمر صحفي بموسكو مع رئيس الوكالة الفدرالية الروسية للطاقة الذرية، عقب اجتماعه مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، إنهما اتفقا على ضرورة عودة مفتشي الأمم المتحدة للعراق لإكمال مهمة التحقق ما إذا قام نظام صدام حسين بتفكيك برامج الأسلحة المحظورة قبل الحرب أم لا. وأكد البرادعي أن محادثات الوكالة ستكون الآن مع الحكومة العراقية ومع مجلس الأمن، مشيرا إلى أن المراقبة المستمرة ضرورية للتأكد من أن العراق "لن يحيي" برامجه لأسلحة الدمار الشامل. وتوقع البرادعي أيضا أن يناقش احتمال حدوث تلوث إشعاعي للمناطق المحيطة بالمنشآت النووية العراقية بسبب عمليات النهب الواسعة النطاق خلال الفوضى التي أعقبت الغزو الذي قادته الولايات المتحدة العام الماضي (" رويترز"، 28/6/2004).

ويذكر أن خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يعثروا قط في عمليات التفتيش التي قاموا بها علي مدي 4 اشهر قبل شن الحرب على العراق في اذار عام 2003، علي اي دليل على ان العراق كان يعيد احياء برنامجه الخاص بالاسلحة النووية، علي الرغم من تأكيد الولايات المتحدة وبريطانيا انه يسعي لامتلاك اسلحة نووية. غير ان الوكالة الدولية المذكورة لم تستبعد قط، في التقارير التي قدمتها الي مجلس الامن قبل الحرب، احتمال ان تكون الاتهامات الامريكية والبريطانية صحيحة. والان يرغب مديرها التنفيذي بوضع نهاية لهذا الفصل من تاريخ العراق. وقال البرادعي بأن عودة المفتشين الدوليين الي العراق تعد ضرورية، لا للبحث عن اسلحة الدمار الشامل، بل كي يمكن للوكالة ان تكتب تقريرا نهائيا بخصوص عدم وجود اسلحة للدمار الشامل حتي يمكن للمجتمع الدولي ان يرفع العقوبات عن العراق. وكانت الوكالة الدولية قد تولت البحث عن برامج نووية، بينما تولت "لجنة الامم المتحدة للرصد والتحقق والتفتيش" البحث عن اسلحة كيماوية وبيولوجية وعن صواريخ محظورة. .

وفيما تعود قضية أسلحة الدمار الشامل العراقية الى الواجهة من جديد، تتواصل عملية تجاهل التلوث الإشعاعي في العراق، عراقياً ودولياً، مع أن قضية التلوث الإشعاعي هي الأهم والأخطر بالنسبة للشعب العراقي، وما أنفكت تشكل سيفاً مسلطاً على رقاب العراقيين، مهددة حاضر العراق ومستقبله. وبدلاً من معالجتها اَنياً وبشكل جدي، لم تحض للأسف بالإهتمام المطلوب لا من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة، حتى بعد الخلاص من النظام البعثي الفاشي المقيت، ولا من قبل الوكالات الدولية المتخصصة المعنية، وفي مقدمتها الوكالة الولية للطافة الذرية، ولا من قبل سلطة الإحتلال، التي ضربت عرض الحائط بالتزامتها المنصوص عليها بموجب إتفاقات جنيف المتعلقة بحماية المدنيين أثناء الحرب والإحتلال.
والمؤسف حتى المفاوضات الجارية بين الحكومة العراقية والأمم المتحدة، والرامية لعودة خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية والمفتشين عن الأسلحة، لم يرد فيها أكثر من أشارة للسيد البرادعي بـ"إحتمال مناقشة التلوث الإشعاعي في المناطق المحيطة بالمنشآت النووية العراقية"، ولم تتطرق لا الحكومة العراقية ولا الوكالة الدولية للطاقة الذرية الى التلوث الإشعاعي الخطير المنتشر في أرجاء العراق والناجم عن إستخدام القوات الأمريكية والبريطانية لذخائر اليورانيوم المنضب Depleted Uranium المشعة والسامة في حربين طاحنتين خلال 12 سنة على العراق، وهو أوسع وأخطر بكثير من التسرب الإشعاعي الذي حصل أبان عمليات النهب، التي طالت مخازن الطاقة النووية العراقية عقب سقوط النظام السابق، ورمي حاويات اليورانيوم وعناصر أخرى مشعة، سائلة وصلبة وبشكل مسحوق، على الأرض وفي الأنهر والحقول القريبة وفي البالوعات المنزلية، لجهل العابثين، اَنذاك، بمخاطر ما سكبوه من مواد مشعة كانت محفوظة في براميل وصناديق وحاويات أخرى .

والغريب والمريب ان يتواصل تجاهل مشكلة التلوث الإشعاعي من قبل المسؤولين المعنيين، عراقيين ودوليين، رغم كل ما سببه الإشعاع من كارثة صحية وبيئية وخيمة، من أبرز معالمها:إنتشار أمراض السرطان، وخاصة سرطان الدم، وأورام الغدد اللمفاوية، وسرطانات الرئة، والمعدة، والثدي، والعظام، وتلف الكليتين والكبد، ودمار جهاز المناعة، والولادات المشوهة، والميتة، والإحهاض المتكرر، والعلل العصبية والعضلية، وغيرها من الأمراض غير القابلة للإصلاح، والتي ستنتقل من جيل الى اَخر مدى الحياة. . ومعظم الضحايا هم من المدنيين، وخاصة النساء والأطفال، في جنوب العراق، ووسطه. .
وضمن هذا الموقف يجري إهمال نتائج الأبحاث والدراسات العلمية، المحلية والأجنبية، واَخرها الدراسة الميدانية الإشعاعية العلمية الكبيرة، التي أجراها المركز الطبي الدولي لأبحاث اليورانيوم UMRC في العراق، وشملت كافة مدن وسط وجنوب العراق- من بغداد وضواحيها، الى أبو الخصيب، وشارك فيها:العالم الأمريكي أساف دوراكوفيتش والعالم الألماني هورست غونتر والعالم الكندي تيد وايمان والعالم العراقي محمد الشيخلي، وأثبتت تلوثاً إشعاعياً خطيراً في الهواء والتربة وبالقرب من الركام المضروب وفي المزارع والمناطق السكنية، بلغ ما بين 10 أضعاف و 30 ألف مرة عن الحد المسموح به دولياً. وهذا ما إعترفت به وزارة البيئة العراقية في حزيران الماضي. وأكدت الندوة التي نظمتها لجنة الصحة والبيئة في مجلس مدينة بغداد، في تموز الجاري، وشارك فيها ممثلو وزارات الصحة، والبيئة، والصناعة، والعلوم والتكنولوجيا العراقية، وجود التلوث الإشعاعي في العديد من المناطق العراقية، الذي بدأت أعراضه تظهر كتشوهات ولادية، وحالات سرطانية. علماً بأنها المرة الأولى التي تنظم فيها مثل هذه الندوة وتشارك فيها مؤسسات حكومية منذ غزو العراق وإحتلاله.

كل هذا، ويستمر تجاهل البعض للكارثة البيئية والصحية في العراق. . فلماذا ؟!!. . وما تبريرات التفرج المشين على الضحايا الأبرياء منذ 13 عاماً ؟!!. . ولمصلحة من يجري التستر على جريمة إستخدام البنتاغون وحلفائه لذخائر اليورانيوم المنضب المشعة والسامة وما سببته للمدنيين الأبرياء من فواجع واَلام، تعتبر، بحسب حقوقيين في القانون الدولي، جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية ؟!

إننا ومن منطلق خدمة الحقيقة، ندعو، ونطالب بقوة بان تشتمل المهمة القادمة لخبراء الأمم المتحدة في العراق، الرامية للتحقق من وضع المواد النووية العراقية، على إجراء تقييم ميداني شامل للبيئة وللوضع الصحي الراهن في العراق، يكون هدف التقييم التأكد من إنتشار التلوث الإشعاعي، وتحديد أعداد ضحاياه، وحجم مخاطره وتداعياتها في العراق، الى جانب وضع المعالجات الفاعلة والعاجلة، اَملين أن تدعم طلبنا هذا منظمات المجتمع المدني العراقية. ولا ينبغي نسيان أن إتمام عملية المراقبة والتحقق من المواد النووية، التي ستنفذ خلال عودة خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومفتشي الأسلحة الدوليين للعراق، طمأنة العالم، وبخاصة دول المنطقة، من عدم وجود اي امكانية لاعادة بناء برنامج سري للتسلح النووي. بينما دراسة وتقييم ومعالجة مشكلة التلوث الإشعاعي في العراق، أياً كان مصدره، هي لصالح ملايين العراقيين، إذا كان هدفها :
أولاً- التحقق من وجود الإشعاع ومصدره، وبذلك يضع حد للتشكيك المحموم، والمشكوك بعلميته، الذي يواصله خبراء البنتاغون للتنصل من جريمة إستخدام الذخائر الحربية المشعة والسامة، ومن الكوارث التي سببتها.
ثانياً- السعي لإنتشال المجتمع العراقي من أخطار التلوث الإشعاعي وتداعياته البيئية والصحيةً، والعمل على معالجتها.
ثالثاً- محاولة إنقاذ من تبقى حياً من العراقيين ضحايا التلوث الإشعاعي جهد الإمكان.
وكل هذا هو من إختصاص الوكالات الدولية المتخصصة المعنية، وهو مهمة إنسانية دولية عاجلة من صمبم مهمات الأمم المتحدة !

من هذا المنطلق، و كمهمة وطنية اًنية وعاجلة، ندعو حكومة الدكتور أياد علاوي الى تقديم طلب اَخر وعاجل الى وكالتين دوليتين أخريين، هما: برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP، ومنظمة الصحة العالمية WHO، تدعوهما فيه الى مشاركة الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA في المهمة القادمة في العراق. ذلك لأن الوكالتين المذكورتين لا معنيتان بشأن التلوث البيئي وتداعياته في العراق فحسب، بل وأن الأولى / البرنامج/ قد أعدت دراسة مهمة عن الواقع البيئي الراهن في العراق، وأضرار الحروب والذخائر المشعة التي إستخدمت خلالها، وطالبت سلطة الإحتلال عقب إنتهاء العمليات العسكرية في نيسان 2003 بالسماح لخبرائها بدخول العراق فوراً وإجراء تقييم شامل للبيئة العراقية ولحجم التلوث البيئي ومصادره. بيد ان سلطة الإحتلال لم تسمح لها لحد اليوم. علماً بأن لخبراء البرنامج تجربة غنية في هذا المضمار، إكتسبوها من أبحاثهم في البوسنة وكوسوفو وفلسطين، وغيرها. . أما منظمة الصحة العالمية فقد كان فريق علمي منها، مكون من 8 خبراء، قد زار العراق في اَب 2001، وإطلع على الواقع الصحي، وإتفق مع وزارة الصحة العراقية اَنذاك على إجراء دراسات ميدانية وفحوصات وتحاليل لضحايا اليورانيوم المنضب، بيد أن المنظمة لم تنجز الإتفاق تحت تأثير أحداث أيلول 2001، والضغوط الأمريكية المحمومة للتهرب من تحمل مسؤولية نتائج إستخدام ذخائر اليورانيوم المنضب. ولذات الأسباب وقفت منظمة الصحة العالمية موقفاً سلبياً من ضحايا التلوث الإشعاعي عقب الحرب الأخيرة وتداعياتها. ولم تطلب دخول العراق لمعرفة أسباب إنتشار السرطان والتشوهات الولادية بعد الحرب.

نأمل أن تستجيب الحكومة العراقية المؤقتة لهذا المقترح العاجل، وأن توافق الوكالات الدولية المتخصصة المدعوة، على الطلب، والعمل مع زميلاتها، وأن تؤدي جميعها واجبها المهني والعلمي بكل إخلاص ونزاهة، متمسكة بإستقلاليتها وموضوعيتها ومصداقيتها العلمية، وأن تسعى جهد إمكاناتها لتقديم العون اللازم والعاجل للضحايا، ولإنتشال المجتمع العراقي من تداعيات التلوث الإشعاعي. وبذلك تنفذ الوكالات الدولية إلتزاماتها المهنية والإنسانية المنصوص عليها، والتي وجدت من أجلها، وبذلك تستعيد إحترامها وهيبتها ومصداقيتها، التي تزعزعت نوعاً ما في ظل الهيمنة الأمريكية وتدخلاتها وضغوطها على الأمم المتحدة!

وإلا فإن مواصلة الموقف السلبي، وعدم الإكتراث لمحنة العراقيين ضحايا التلوث الإشعاعي، من أي جهة كانت، ومهما كانت، ومواصلة الخضوع والخنوع للضغوط الأمريكية، أوالتواطئ مع البنتاغون ومساعيه المحمومة للتنصل من جريمة إستخدام الأسلحة المشعة والسامة في حربين ضد العراق وتداعياتها البيئية والصحية، ما هو إلا مشاركة فاعلة بجريمة متعمدة لا تغتفر بحق المدنيين العراقيين. ولم يعد سراً ان مثل هذا الموقف بالنسبة للوكالات الدولية المتخصصة قد أساء الى حياديتها ونزاهتها ومصداقيتها المهنية والعلمية، وهي التي وجدت بالأساس لخدمة قضايا الشعوب، وحماية حياتها وصحتها، وضمان أمنها وسلامتها من الأخطار النووية والإشعاعية ومن السموم الكيمياوية والبايولوجية، لا لخدمة الولايات المتحدة !


باحث عراقي