يعيش الفكر العربى فى مرحلته الراهنة حالة من القلق والاضطراب، اللذين قد يقودانه إلى فوضى مريعة. وهو لم يكن من قبل أحسن حالا. ولكنه يجد نفسه الآن أمام اختبار انعطافي بالقياس التاريخي، من الداخل والخارج. فهو إذا كان قد واجه تحديات بنوية كبرى منذ تجربته النهضوية فى العصر الحديث وما بعده، فانه راهنا ومع بروز النظام العالمي الجديد يواجه تحديا أكثر جذرية وشمولية. تمثل بصورة أكثر تحديدا فى مبادرة الشرق الأوسط الكبير. حيث
أصبح مشروع الشرق الأوسط الكبير من أهم بنود الأجندة الدولية في الوقت الحاضر والشرق الأوسط الكبير، وفق ما تتصوره الإدارة الأمريكية يشير إلى كل البلدان العربية بالإضافة إلى تركيا ،إسرائيل، إيران، باكستان وأفغانستان. اى أن تصبح البلدان العربية ليست كيانا متفردا بذاته ولكنه جزء من تصور اقليمى اكبر. ان الشرق الأوسط الكبير يستوعب تركيا ودولا عربية وغير عربية فى داخل منظومة واسعة تشتمل على تفاعلات إقليمية، وليست تفاعلات عربية فحسب. ووفق التصور الامريكى فان هذه المنطقة مصدر خطر وتهديد، ليس فقط للمجتمع الامريكى بعد أحداث 11 سبتمبر، ولكن لمجموعة الدول المتقدمة والغنية، ان لم يكن للمجتمع الدولي ككل.
وأول تساؤل أثاره المشروع :هل يمكن اعتبار الشرق الأوسط الكبير كتلة واحدة تصدر بشأنها أحكام عامة وتصاغ على أساسها سياسات تنموية واحدة، بغض النظر عن التباينات الضخمة فى التواريخ الاجتماعية الفريدة لكل قطر، والتي تتضمن بالضرورة تنوعات لا حدود لها فى النظم السياسية، والتشكيلات الطبقية، وأنساق القيم، ونوعية النخب السياسية الحاكمة، وأنماط تحالفاتها مع العالم. وانه مع الاعتراف والإقرار بالقواسم المشتركة بين كل البلاد العربية بتأثير وحدة اللغة والدين والتراث إلا أن هذا لا ينفى أن هناك اختلافات واضحة بين عديد من البلاد العربية، ولذلك وفق هذا الاتجاه فأنه من الخطأ العلمي الفادح تعميم الحديث عن الوطن العربى كما فعلت تقارير التنمية الإنسانية العربية وكما فعل وفقا لها المشروع الامريكى للشرق الأوسط الكبير.
واقع الامران تلك الملاحظة النقدية سبق إثارتها فى إطار نقد الخطاب القومي العربى التقليدي وتجاهله تجاهلا صارخا أمورا ثلاث:
الخصوصيات الثقافية لكل قطر عربي
، وتفاوت مراحل التطور الاجتماعي
، واختلاف الخبرة التاريخية السياسية
حيث تحدث الخطاب القومي التقليدي وكأنه موجه إلى مجتمع واحد متجانس خال من الصراعات تسوده سمات التشابه وتقل فيه الخلافات على أساس أن العوامل المشتركة كفيلة بأن تؤدى بصورة حتمية إلى الوحدة مما أدى الى فشل ذلك الخطاب. وبالقياس فان المشروع الامريكى مصيره الفشل.
هناك اتجاه آخر فى الفكر السياسي والثقافي العربى يرى أن تلك الرؤية تنطلق من النظرة القديمة للعالم فى ظل سواد نظرة تدفع لصياغة العلاقات مع النظام العالمي بصورة محددة تحت تأثير الرغبة العارمة لتأكيد الذات فى مواجهة الآخر. أحيانا بدون وضع حسابات المصالح بشكل مدروس وان ذلك العهد قد مضى وخابت غالبية ثورات العالم الثالث، ليس بتأثير القوى المهيمنة فحسب ولكن أيضا نتيجة لازمة لسلطوية النخب السياسية الحاكمة وعدم ديمقراطيتها وحصارها لدائرة المشاركة السياسية وانه رغم الاعتراف بعدم وجود نظرية متكاملة للديمقراطية فان هناك مثال ديمقراطي ينهض على مجموعة من القيم العالميةاهمها سيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، وحرية الفكر والتعبير والتفكير وحرية تكوين الأحزاب فى إطار التعددية والانتخابات الدورية كأساس للمشاركة الجماهيرية فى اختيار ممثلي الشعب.وانه آن الأوان للتخلي عن الأوهام التي سادت زمنا والتي ظنت انه يمكن التخندق حول شعارات الخصوصية سواء كانت ذات منبع ديني أو ايديولوجىوالانفصال عن مجرى التطور العالمىحيث أكدت حركات الإسلام السياسي المعاصر على النمط الاول من أنماط الخصوصية وظنت أنها يمكن أن تخلق عالمها الخاص فى فضاء مستقل لا يختلط مع الفضاءات الأخرى لا من الناحية السياسية ولا الاقتصادية ولا الثقافية.فالشورى تحل محل الديمقراطية الغربية، والبنوك الإسلامية تحل محل البنوك الربوية، والعلم الاسلامى –فى ظل شعار اسلمة المعرفة –يحل محل العلم الغربي المادي. فى حين نزعت بعض التيارات الماركسية والسياسية واليسارية العربية الى الدعوة الى نمط من التنمية أطلق عليه التنمية المستقلة ويصل بعض ممثليها الى ضرورة فك الارتباط مع النظام الرأسمالي العالمي، وان كانوا قد اخفقوا فى تحديد الوسائل التي يمكن أن تؤدى الى ذلك.
ومن ثم فان تلك الدعوات الى الخصوصية والتركيز المتزايد عليها هي دعوات تأّمرية على الديمقراطية والتطور الديمقراطي وهى ذريعة للتهرب من استحقاقات المشاركة السياسية. وان مفهوم الخصوصية هو مفهوم تأّمرى.
هذان هما المفهومان المتصارعان على الساحة الفكرية العربية تحت إطار الموقف مع أو ضد المشروع الشرق اوسطى الجديد ولكن هل تلك التصورات تعبر بالفعل عن الثقافة الشعبية العربية؟

باحث فى العلوم السياسية /زميل أكاديمية ناصر العسكرية العليا