جاء في الأخبار ا ن الجيش الأمريكي أعلن رسمياً عن انعقاد ا ول جلسة استماع لأحد معتقلي جوانتا نامو ووفقاً لصحيفة "لواشنطون بوست" تأتي الخطوة في اتجاه محاكمة ألمعتقلي إمام محكمة عسكرية لاشتراكهم المزعوم مع تنظيم ا لقاعدة.
وتتم هذه الجلسات في قاعة المحكمة التي تم إنشاؤها حديثاً في السجن العسكري التابع للقاعدة الحربية الأمريكية في الجزيرة الكوبية غوانتا نامو.

السائق عدو البشرية الأول
أتدري من هم المرشحون الأوائل للمثول إمام هذه المحكمة؟
إنهم: ديفيدهكس، استرالي الجنسية اعتنق الإسلام وسافر حول العالم والتحق بالمليشيات الإسلامية ـ على حد وصف المسؤولين الأمريكيين ـ وكانت السلطات الأمريكية قد أقنعته بالاعتراف ف ببعض التهم المنسوبة إليه، لكنه انسحب فيما يبدو من هذا الاعتراف أو الاتفاق بعد إن استشار محاميه.
إما الثلاثة الآخرون فهم: سالم احمد حمدان (يمني).
ماهي تهمته ؟
تهمته هي انه كان قائد سيارة إسامة بن لأدن. وثاني الثلاثة: علي حمزة احمد سليمان البهلول(يمني) ويعمل حارسا لأسامة بن لأدن
ومثله المتهم الثالث: إبراهيم احمد محمود القوصي الذي كان يعمل حارساً لإسامة بن لأدن حيث استقر الأخير في ضيافة الحكومة السودانية.
تصور إن إمبراطورية بحجم الولايات المتحدة تعلن حرباً كونية على الإرهاب, وتدخل العالم كله في أتون هذه الحرب , ثم لا تجد عنوانا لهذه الحرب الهلامية غير رجل واحد اسمه: أسامة بن لادن.
وحين تعجز برغم عتادها وآلتها التكنوليجية عن الوصول إلى هذا العنوان تذهب لاقتياد رجل كان يعمل حارسا أو سائقا لهذا الرجل حين كان في ضيافة بلده وحكومتها, ثم تقتاده إلى سجن في جزيرة معزولة, ويعزل هناك لأكثر من عام أو عامين , لتقدمه بعد ذلك لمحكمة عسكرية في معتقله ذاك!
بأي تهمة؟
تهمة انه كان يعمل سائقا (في بلده) لأسامة بن لادن!! هل رأيتم عدلاً مثل هذا في تاريخ البشرية أو سمعتم به؟
هنا تبدو ذاكرة الأمريكان الإمبريالية أخف من وزن الريشة, لان الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية وحين أرادوا محاكمة أركان النظام النازي في لورينجبنج والذي أنتحر زعيمه بعد الهزيمة, لم يحاكموا أو يطاردوا أو حتى يعبأوا بمن كان السائق والحرس الخاص, بل ولا حتى من هم قادة السرايا والألوية في الجيش , وإنما اتجهت أنظارهم صوب المفاصل القيادية في النظام.
ولكنها آفة ضعف الذاكرة التاريخية جعلت الإدارة الامريكية تلقى بثقلها على سائق أو حارس شخصي لأسامة بن لادن باعتباره عنوانا في حربها الكونية على الإرهاب والتي طالت دولاً عدة , بعضها –للسخرية- ممن كانوا يعتبرون حلفاء تقليديون للولايات المتحدة!!.

الكولونيل ومهزلة القضاء
ليس ذلك وحسب, المفارقة الأخرى لا تقل في دلالاتها عن الأولى وهي:
أن جلسات الاستماع المبدئية في محكمة جوانتا نامو ستقتصر في جلساتها على الكولونيل المتقاعد بيتر براون باك. إلا أن محامي الدفاع سيعترضون على حضوره وحده ودون وجود الضباط الأربعة الآخرين , الذين -حسب قانون المحاكم العسكرية- يشكلون مع المشرف أركان المحكمة العسكرية.
ولك أن تسأل: ماهو الفارق بين هذه المحكمة والمحاكم الصورية التي كان يعقدها نظام صدام حسين في العراق أو تلك المحاكم التي تعقد للخصوم السياسيين في غير العراق من الدول التي تحكم فيها نظم ديكتاتورية تاريخها وسجلها في البطش والعدوان أكثر سواءاً من نظام صدام حسين في بربر يته؟!.
أكاد أزعم أن سجل صدام حسين في هذا الشأن يبدو أكثر عدالة لأنه على الأقل , وإن كان هو الذي يصدر الأحكام على المتهمين في الحقيقة, لا القضاة , إلا أنه كان يحرص على المحافظة على الحد الأدنى من "شكليات" مسار عدالة القضاء, حيث يمثل المتهم أمام هيئة مكونة من ثلاثة قضاة, وإن كانت الأحكام مبرمة مسبقاً.
أما أن يمثل المتهم أمام قاض عسكري – كولونيل سابق – فيعتبر سابقة لا مثيل لها , حتى ولا في أكثر الدول تخلفاً, دعك من إمبراطورية تعربد في الكرة الأرضية تحت مظلة دعاوى أخلاقية مثل حقوق الإنسان والعدالة والديمقراطية وما إلى ذلك من "خرابيط" والعرب تصف مثل هذا الموقف السلوكي بأنه "كلمة حق أريد بها باطل".
محاكمة مثل هذه المواصفات ماذا تتوقع منها؟.
لقد وصف سجينان فرنسيان – فيما أوردت الأنباء يوم الأحد (1/8/2004م) فترة أعتقالهما التي دامت لأكثر من عامين في معتقل جوانتانامو بأنها كانت "جحيماً".
وقال جاك ديبراي محامي المتهمين الفرنسيين مراد بن شلال و نزار سامي أن الرجلين كانا يشعران بقلق "من أساليب الاستجواب والتجارب الطبية" في غوانتانامو. موضحا أنه تلقى رسالة من سامي يقول فيها أن أدوية "غريبة" كانت تعطى للنزلاء خلال الليل وأن أحدها تسبب في ظهور بثور على جلد بعض السجناء. وقال المحامي ديبراي أنه سيطلب إجراء فحص طبي شامل على موكليه عندما يمثلان أمام قضاة مكافحة الإرهاب.

قلعة الحرية وغياب العدالة

إذا حسناً.
لم تكن هذه قمة الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان فكيف إذن يكون الإرهاب؟!.
لو أن هذا كان يحدث في أي دولة من دول العالم الثالث المتخلفة التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية لوجدنا العذر للسلطة الحاكمة, (ولا أريد أن أسمي دولة باسمها).
ولكن أن يحدث في بلد – إمبراطورية – تدعى أنها قلعة الحرية, وتشن الحروب زاعمة بأنها تريد نشر الديمقراطية وترسيخ قيم ومباديء حقوق الإنسان وسيادة القانون في العالم كله, فأمر لا يدعو فقط إلى العجب , وإنما يستفز ذكاء وقدرة الفهم عند الآخرين.

كيف تحارب الإرهاب وأنت تمارس أبشع أنواعه؟!.
ولمن يريد أن يطلع على سجل إرهاب الدولة في أبشع أشكاله عليه أن يفتح ملف الإدارات الامريكية الحافل بهذه المخازي.

وكيف تدعى أنك تحارب من أجل حرية الشعوب وحقوق الإنسان وأنت تنتهك أبسط هذه الحقوق في حربك ضد الإرهاب؟!.
كيف تنادي بسيادة القانون وأنت تطبق قانون الغاب..لا بل ماهو أحط أخس من قانون الغاب الفطري؟!.

شيزوفرينيا مزمنة
أمام السياسات الامريكية نحن شعوب العالم كله في مواجهة حالة من الشيزوفرينيا المزمنة.
ازدواجية تكاد تصيب العالم كله بالجنون.
دولة, هي القوى العظمى في عالمنا المعاصر, ترفع شعاراتاً وتعلى من شأن قيم إنسانية, ثم تكون هي أول المتنكرين لهذه الشعارات والقيم, وتنتهك حقوق الإنسان, وتمارس الظلم من أبشع صوره, وتأبى التوقيع على المواثيق التي تهدف إلى إحقاق الحقوق والمحافظة على سلامة البيئة في الكرة الأرضية, ليس ذلك فحسب, بل وتقف ضد المجتمع الدولي بأكمله حين تستعمل حق النقض على أي قرار في مجلس الأمن يحاول أعضاءه إنصاف مظلوم ما في العالم.
ثم لا تكف عن التأكيد بأنها دولة الخير والحق والقانون والحرية وما إلى ذلك من هرطقات و خرابيط.
هل هناك ازدواجية أكثر من ذلك؟!.
لقد كانت الولايات على علم بمؤامرة العقيد القذافي لاغتيال ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبدالعزيز حسب إفادة المدعي العام الأمريكي , ولكن الإدارة الأمريكية لم تبلغ السلطات السعودية هذه المعلومة.
ولك أن تسأل: لماذا, طالما أن المملكة كانت دائماً في خط المواجهة الأمامي لمحاربة الإرهاب, وطالما هي أكثر الدول التي تأذت من هذه الظاهرة.
هل كانت الإدارة الأمريكية تنتظر نجاح مؤامرة القذافي الدنيئة.
لا نرجم بالغيب حين نحاول الإجابة على هذا السؤال..
ولكنها الشيزوفرينيا اللعينة.

أكاديمي و كاتب سعودي
[email protected]