حنتوش سلّم على منتوش


تفجير مروع آخر تشهده مدينة بعقوبة العراقية، وضحيته العشرات من المواطنين المدنيين الأبرياء، سلسلة تكاد لا تعرف الذواء أو حتى التململ أو الإرتخاء، من السلب والنهب والإختطاف والإغتصاب والإغتيالات والإبتزاز والفتل والتدمير.الىالحد الذي يجد المرافب نفسه إزاء مشهد شديد الظلامية والعتمة، حول كم الخراب والمقت والنبذ والكراهية، والتي باتت تغطي الواسع والشامل من المشهد العراقي. الى الحد الذي باتت فيه الأسئلة تنطلق حول ؛ الشخصية العراقية والمجتمع العراقي، وهل من المعقول أن يكون؛ هذا العراقي هو ذاته، الذي قيل فيه الكثير من مقولات الثناء والمديح، لاسيما فيما يتعلق بالتماسك الإجتماعي وتفوق قيم العائلة، والتمسك بالعادات والتقاليد والأعراف والقيم.


القابش الحابش
في الإتباع الذي يفرضه جرس اللغة، تكون الطرفة حاضرة بداهة، خصوصا وأن المفارقة في أقصاها، نراها متجسدة في التفاعلات الغريبة والعجيبة، والتي تكشف وقائعها عن المزيد من الترهات والمثالب والمنعرجات والمزالق، بل وحتى الخيارات البائسة. هو حال عصي على التوصيف، الى الحد الذي يكون فيه الكلام مجرد هذر لا يعود منه بطائل أو نتيجة. فالراهن العراقي هو بالفعل؛ (( قابش حابش، نابش طائش،كالش مالش)) أو ربما هو ((خابط نابط، زامط حامط،صامط لامط))، العراق اليوم هو التجسيد المباشر والفاضح لمسألة معنى اللامعنى ، والتي إجتهد في قراءتها شرّاح الحداثة ومابعد الحداثة واللاتمركز.صور مركبة من التناقضات والفوضى والعدمية، تبدأ بالزرقاوي ولا تنتهي بالملثمين، تتلفح بسيميولوجيا الرفض والمقاومة والجهاد، ولا تتردد من الإطاحة بعشرات الرؤوس من الأبرياء والعزل،(( والغافلين الذين ليس لهم سوى الله))، كما يقول المثل العراقي الدارج.
في مسألة الصيرورة الإجتماعية ، يكون التأكيد من قبل علماء السوسيولوجيا على أهمية الترصد في مجال التبدل والحراك الإجتماعي وأحوال وأوضاع التبدلات التي تطرأ على المجتمع هذا بإعتبار تحديد مجال التفكير الإجتماعي ورصد التوجه الكامن فيه. ومن واقع الحدث الكبير الذي تعرض له بلد بحجم وتراث وتاريخ وتنوع العراق، حيث الهروب الفاضح لقائد الجمع المؤمن الذي لم يتورع من الإختباء في حفرة تعف عنها الجرذان والأرانب، وسيطرة قوات الإحتلال على البلاد في زمان باتت المناهج والدراسات تنزع نحو توظيب منهج ما بعد الإستعمار.يتبرز للعيان مدى المفارقة الموغلة في الأسى حول مسألة التحرر من الهيمنة الداخلية التي فرضتها عقلية القبيلة والعائلة والحكم الفردي، واستحكام عقد النرجسية والأنا التي إستبدت بعقل فارس الأمة، والذي لم يتورع من المجاهرة العلنية بغبائه السياسي، عندما حمل دول الخليج مسؤولية دخوله في الحرب الضروس وعلى مدى ثمان سنوات عجاف مع إيران.ومن واقع التداخل المريع والمقلق للحقل السياسي وفرض وصايته على الحقل الإجتماعي، يتبدى المجتمعي في العراق في أشد حالاته ضمورا، على الرغم من التحميل المباشر للمسؤولية، للحكم السابق. ومن هذا كله تغيب جدوى ترصد التوجهات والغايات، أو حتى حالات التحليل للسياق السائد، بل أن التناقضات تكون بمثابة الحاضر الأهم وسط المعمعة، التي تتحول الى مجرد تنازع وثصادم لا ينجم عنه سوى المزيد من الفوضى ، بل ان التوصيف الماثل في الراهن العراقي يكون أشد إرتباطا، بالجانب السياسي والذي يكون كالعادة على حساب الجانب الإجتماعي. لتكون الخسارة مضاعفة والتقريط بالحقوق الإجتماعية، أشد وطأة من الحالة السابقة التي دبجها النظام السابق، بإعتباره أصل المشكلة، فيما يكون الحل المفترض والذي جاء على يد قوات الإحتلال، والنخب العراقية المعارضة التي دعت وعملت وضحت ونالت الأذى المباشر من قبل النظام السابق، مجرد أخيلة وتهويمات ، لا تكاد تتبين ملامحها في السياق الإجتماعي العراقي. ومن هذا المعطى برزت العديد من الظواهر والتي باتت تتلبسها المزيد من اللافتات والمانشيتات العريضة، والتي تبدأ بـ (( تقافة الداخل والخارج))، (( هيمنة الخطاب الديني على القطاع الواسع من الجماهير))،(( خيبة الأمل بالتغيير بعد أن تداخلت المصالح والإتجاهات لدى النخبة السياسية الجديدة)).


الكائن السياسي
هل يمكن الوثوق بأن مسألة التغير الإجتماعي في العراق قد بدأت بالفعل، بإعتبار سقوط النظام الشمولي فيه، هذا الأخير الذي لم يتورع عن تعطيل مسار الحياة والتاريخ والعلاقات، الى الحد الذي منع تواصل العراقيين مع التطورات والتقنيلا التي تشمل الحياة العامة، فعلى الرغم من الحديث الذي يملأ العالم حول الثورة التكنولوجية والإتصالية وتوصيف القرية الكونية، إلا أن العراقي ظل يعاني من الهدر لأبسط الحقوق الإنسانية، والتي تبدأ بالإعتداء المباشر على حق الحياة له، حيث القتل من دون الخضوع للمحاكمة القانونية، مرورا بالتوظيب الطويل والمخيف والصارم لقائمة الممنوعات، والتي تطال السمعي والمرئي وجميع وسائل الإتصال المتاحة والممكنة.
ترى هل يعاني المجتمع العراقي من مشكلة إتصال مثلا؟!هل يعاني من كبت الحريات أم أن الحرية أصبحت بمثابة العائق الذي يحيل الى التناقض!إن قولا كهذا يقوم على المزيد من التضمينات المخيفة والمقلقة بالنسبة للمستقبل العراقي.إذ ينتج حالة من التعالق في المعاني الى الحد الذي يكون الإختلاط سيد الموقف، ولعل المشهد المفجع الذي يشير الى قيام البعض من العراقيين الى رفع صور الدكتاتور والهتاف بحياته، على الرغم من كل هذا الهول من الجرائم والبشاعات التي اقترفها بحق المجتمع العراقي طرا من دون استثناء.ليشير لى الكم الهائل من التداخل في الغايات والأهداف السياسية والتي تتصدر المشهد على حساب الإجتماعي.
لقد عانى المجتمع العراقي من القبضة الحديدية للسياسي على حساب الإجتماعي على مدى تاريخه الحديث والمعاصر، مع التركيز على حقبة الخمس والثلاثين عاما، والتي تبدى فيها المقت المؤدلج في أبشع صوره وتجلياته، لكن البديل الراهن جاء على صورة السابق مع ظهور بعض التبدلات في التوصيفات والملامح، وإذا كان المجتمع يعي أن مافيا العائلة قد أمسكت بمقاليد البلاد والعباد، فإن العراق اليوم بات يجترع تسيد النزعات السادية من قبل العديد من الفئات والمجموعات السياسية، والتي لايشغلها سوى مسألة الحضور على حساب كل شيء، ليظهر الملثمون والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، والتفجيريون والتكفيريون والزرقاويون والظلاميون، والذين يتبعهم الفاسدون والمرتشون من دون شك.فيما يتبدى للعيان خطاب المتبرمون في أشد حالاته هزالا وضعفا، حيث الإرتكان الى أسلوب النبذ والتنابز والنقد المرير الخالي من طرح البديل الموضوعي، والذي يفترض أن يضع نصب عينه قضية الوطن في المكان الأسمى والأهم.

تورنتو