ذات صباح صيفي معتدل الحرارة في محلّ للحلاقة بشارع ابن خلدون بقلب العاصمة التونسية انصتّ بانتباه ومن دون أن أتفوه بكلمة واحدة إلى نقاش حام بين صاحب المحلّ ومعاونية الأربعة وجميعهم شبان بين العشرين والثلاثين من عمرهم وبين الزبائن وكانوا ثمانية بأعمار متفاوتة...أكبرهم كان في الخمسين على ما أظن. وجميع هؤلاء كانوا متحمّسين لصدام حسين معتبرينه بطلا عربيا خالصا نادرا وجوده اليوم في عالم عربي فاقد للرجولة وللشجاعة. وهم يرون أن غزوه للكويت كان فعلا مشروعا ذلك أن الكوتييين قوم فاسدون وفاسقون وأنا نيون وجبناء ومتعجرفون وووو.... إلى آخر القائمة. كما أنّ حربه ضد العالم كان فعلا شجاعا ذلك أن الأمريكان وحلفاءهم الأوروبيين يكرهون العرب والمسلمين كرها شديدا حدّ أنهم يتمنون أفناءهم من الوجود ويمدّون الصهاينة أعداء العرب والمسلمين ومغتصبي فلسطين بالمال والسلاح ويهبّون لنجدتها كلما أصدقا بها خطر أو مسّها سوء. وطبعا يعتقد هؤلاء جميعا أعني بذلك صاحب محل الحلاقة ومعاونوه وزبائنهم أن محاكمة صدام حسين ظلم صارخ واعتداء فظيع على الكرامة العربية كما أن التهم الموجهة إليه باطلة جميعها والدليل على ذلك أن الأغلبية الساحقة من العراقيين تعارض بشدة محاكمته أما الذين يرغبون فيها فهم عملاء للصهاينة والأمريكيين وخونة لشعبهم وللقضايا العربية والإسلامية برمتها. والغريب في الأمر أن الذين أتحدث عنهم كانوا يروون ودائما بحماس وهيجان بطولات خارقة لما سموهم ب المجاهدين العراقيين بطولات لم اسمع بها إلا من عندهم زاعمين أن عدد الجنود الأمريكيين الفارين تجاوز العشرة الأف جندي وأن ضباطا كبار من المارينز يفعلونها في سراويلهم في كل ساعة بل في كل لحظة حتى أن هواء العراق بات لا يحتمل بسبب رائحهم الكريهة وكانوا يروون ذلك واثقين من أنفسهم ومعا يقولون كما لو أنهم في ساحة القتال يراقبون بدقة كل ما يجري وكل ما يحدث. ولو كان الذين يتحدثون بمثل ذلك الحماس ويمثل ذلك التهيج من صنف المتزمتين العابسي السحنات الشاحبي الوجوه الجافي الطبع لما استغربت منهم مثل تلك المواقف المتشنجة ولكنهم كانوا جميعا من غير ذلك الصنف مجارين أخر التقليعات في هيئتهم وفي لباسهم ومقبلين على ملذات الحياة على ما يبدو ذلك أنهم حالما انتهوا من الحديث عن صدام حسين وبطولاته الخارقة بدأوا يصفون بدقة سهراتهم السابقة على الشواطئ أو حفلات الأعراس التي دعوا إليها مستعرضين مشاريعهم قبل انتهاء الصيف وجميعها تدلّ دلالة قاطعة على أنهم كائنات جديرة بالعيش على ساحة المتوسطي وليس في المغاور والكهوف الشبيهة بتلك التي عثر فيها على صدام حسين...
والحقيقة أن صاحب محل الحلاقة ومساعدوه وزبائنه لا يختلفون في شيء عن عدد كبير من التونسيين الذين يساندون صدام حسين مساندة شبه مطلقة ويعادون الأمريكان والغربيين عداء بدائيا. وبين هؤلاء صحافيون وكتاب ومثقفون وشعراء ومهندسون وأطباء و محامون وأساتذة جامعيون ورجال أعمال...الخ... وقد استغلّت بعض الصحف التونسية هذه الظاهرة لتتحول إلي مناشير دعائية لصدام حسين ولما تسمية ب"المقاومة العراقية" تفتح الواحدة منها فلا تعثر إلا على القليل القليل من الأخبار والتعليقات المتصلة بحياة البلاد وأحوالها في حين تمتلئ الصفحات الأخرى المخصّصة للشؤون السياسية بأخبار صدام حسين وابنته رغده واتباعه داخل العراق وخارجه.أما الذين يسبحون عكس التيار فهم فيضطرون غالب الأحيان إلي الركون إلى الصمت. فإن حاولوا بسط أرائهم في الموضوع وحاولوا اقناع المنصتين إليهم بان صدام حسين ارتكب أخطاء فادحة في سياسته الداخلية والخارجية وظلم قسما كبيرا من شعبه وحكم بالقوة والعنف وأهدر ثروات بلاده في حروب خاسره واعتدى على جيرانه المسالمين ولم يكن واعيا بموازين القوى على المستوى العالمي ولا عارفا بالغرب وسياساته فأنهم يسكتون في الحين وعادة ما يتمّ ذلك بعبارات بذيئة وبكلمات حادة.. فإن اصّروا على المواصلة, ارتفعت الهراوات وامتدت القبضات لتأديبهم.
والشيء الذي يحيرني هوان التونسيين لم يتربّوا تربية سياسية يمكن أن تحرضهم على العنف أو على الدفاع عن مستعمليه فهم كانوا دائما وأبدا مسالمين يحبذون الحوار ويتمسكون به حتى اللحظة الأخيرة وهم يكرهون الحروب ويفضلون بناء المدارس والمستشفيات والطرقات على شراء الأسلحة وتكديسها وهم موافقون في أغلبيتهم الساحقة على سياسة الحوار الدائم مع الغرب والتي انتهجها النظام التونسي منذ استقلال البلاد في عام 1956 وحتى هذه الساعة. ثم أن الإقبال السياحي الكبير على بلادهم من الأوروبيين بالخصوص وفي البرامج التعليمية في جميع المراحل الدراسية ليس هناك ما يدعو إلى التعصب والإنغلاق والتزمت وكراهية الأخر...
فمن أين جاءهم هذا البلاء إذن؟
طرحت هذا السؤال على صديق عارف بشؤون البلاد فأجابني بان بعض الفضائيات العربية قد تكون فعلت فعلها في التونسيين وأفسدت عقولهم وعواطفهم حتى أنه لم يعد باستطاعتهم التمييز بين الخطأ والصواب وبين الضار والنافع وبين العدو والصديق وأضاف صديقي قائلا بأن عددا كبيرا من التونسيين انصرفوا عن متابعة القنوات الغربية المتوفرة لديهم وأصبحوا مدمنين على مشاهدة تلك الفضائيات العربية التي لا هدف لها غير شحن الناس بالحماس المدمر وبالعواطف المهلكة لأصحابها وبالحقد والكراهية تجاه الأخر الغربي بالخصوص. وقد يكون صديقي على حق في ما ذهب إليه ولكني أعتقد أن خيال التونسيين أصيب هو أيضا بما أصاب خيال شعوب عربية أخرى من عقم لذا لم يعد البطل الذي يستحضره ذلك الرجل الشهم الشجاع النزيه المحبّ للآخرين والمتسامح معهم النافع للبشر الصادق في أقواله وفي أفعاله المتواضع في سلوكه وائما الديكتاتور المتعجرف القاتل المخادع الناكر للجميل المستبدّ برأيه الأناني والمتغطرس والحاقد على الآخرين القريبين منهم والبعيدين على حدّ السواء... وعندما يصبح خيال الشعوب مريضا إلى هذا الحدّ فإننا لا نملك إلا أن نرثيها في صمت في انتظار أن تقرأ عليها الفاتحة ويحثى عليها التراب!