ظاهرة الإعجاب والتعاطف مع صدام حسين، رغم ما كان معروفاً عنه منذ البداية، إضافة لما انكشف أخيراً من جرائم يستحيل على الضمير الإنساني مهما كانت بدائيته قبولها، ظاهرة تأييد من لا يمكن أن يجد في تاريخه ما يستحق تأييد من يتمتع بحد أدنى من العقلانية، هذه الظاهرة تستحق التأمل، لمحاولة فهمها ، وللبحث عن علاج لها، وهي الخطوة الضرورية قبل محاولة نشر الديموقراطية في شرقنا، وإلا لتحولت الديموقراطية إلى فوهة بركان تنصب علينا منه الويلات، مادام المثل الشعبي الأعلى على شاكلة عبد الناصر وصدام وبن لادن والزرقاوي، ولنحاول تصنيف الجماهير العريضة المعجبة بهذا المجرم ومن على شاكلته:
•مجموعات المرتزقة من المستفيدين بطريق مباشر بالمشاركة في هذه الأنظمة الفاشية.
•مجموعات المرتزقة المستفيدين بطريق غير مباشر، من الإعلاميين والصحفيين والكتاب.
•الجماهير العريضة المعجبة بهذا النموذج من الأبطال.
المجموعة الثالثة هي أهم المجموعات، فهي الرحم الذي يولد منه أمثال صدام وبن لادن، وهي أيضاً التي تنجب المجموعتين الأوليتين من المرتزقة، وهي القاعدة التي ينبغي أن يستهدفها التغيير المنشود، إذا أردنا تغيير الثمار لتخلو من الفاشيين والأشاوس المرتزقة، بطريق مباشر وغير مباشر.
المكانة التي يحتلها صدام ومن على شاكلته في قلوب الجماهير ليست مكانة الراعي الصالح، والذي قد يختلف الناس في تقييم مدى صلاحه، ولا حتى مكانة البطل الذي يحقق الانتصارات، والذي يحاول خداع الجماهير وإيهامها بانتصارات مزعومة، لتظل على تأييدها له والتفافها حوله، فربما استطاع عبد الناصر أن يخدع الجماهير ويوهمها بانتصار خالد على العدوان الثلاثي عام1956، لكن هزائم صدام ليست من النوع الذي يجدي معه الخداع، مهما بلغت كفاءة قطعان الإعلاميين العاملين في بلاطه، والمنتشرين في أنحاء شرقنا العامر، لذلك نستبعد أن مكانة صدام الجماهيرية مصدرها أنه يمثل لديها نموذج الحاكم المثالي، أو نموذج البطل المنتصر، لأننا نعتقد أن الجماهير تعلم جيداً أنه قد فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق ما يتطلبه كلا النموذجين، اللذين يتوقف ارتباط الجماهير بهما على ما يستطيع النموذج أن يحقق من إنجاز كل في مجاله، والنموذج الصدامي يتميز بخلو صفحته من أي نوع مادي ملموس من الإنجاز.
يتبقى للنموذج الصدامي موقع عزيز ليحتله في قلوب جماهير في مثل ظروف جماهيرنا الشرقية، وهو موقع لا يتطلب من صاحبه أن يحقق إنجازاً من أي نوع، فقط مجرد تهويمات وتهويشات وادعاءات بالقدرة على أداء فعاليات معينة، تصب في اتجاه القيمة الهامة في نفوس الجماهير، وهي قيمة التمرد.
ففي المجتمعات التي يسود فيها القهر، مع ضعف المقهورين وتخاذل إرادتهم، بحيث يكونوا فاقدين لأي أمل في تغيير واقعهم وقهر قاهريهم، تكون قيمة التمرد، مجرد التمرد، هي أقصى ما تطمح إليه الجماهير، ويكون بطلها المتمرد هو الشخص الذي يستطيع إقناعها بأنه قادر على إلحاق الأذى بالأقوى الذي هو الحاكم وحاشيته، أو الأغنياء وما شابه.
لا تطلب الجماهير من بطلها المتمرد أن يكون صالحاً أو قديساً، أو أن تجلب أفعاله الخير لأي طرف كان، بل وتتغاضى تماماً عما ينتج عن أفعاله من مصائب، وتتبرع في معظم الأحيان أن تنسج له من خيالها أفعالاً صالحة من قبيل تجميل الصورة ليس أكثر، لكن علاقتها به وارتباطها بشخصه قائم على أساس قيامه نيابة عنها بالتمرد على الأقوياء، كل الأقوياء وأيضاً بغض النظر عن كون هؤلاء الأقوياء المطلوب التمرد عليهم صالحين أو طالحين، المهم أنهم من طائفة الأقوياء الذين تشتهي الجماهير الضعيفة المقهورة أن تتمرد عليهم، مجرد شق عصا الطاعة كما يقولون، ليس أكثر.
فإعجاب الجماهير الشعبية بالشطَّار معروف، وكلمة شطَّار نفسها تستخدم لغوياً للدلالة على المجيدين في أدائهم، كما تستخدم للدلالة على اللصوص الذين يستخدمون الحيلة في السرقة، فسيرة على الزيبق مثلاً سيرة لص، وفي مصر سيرة أدهم الشرقاوي تروي عنه أنه كان مقاوماً للإنجليز فترة احتلالهم لمصر، رغم أن الحقيقة التي يقرها أهله الأقربون الذين مازالوا أحياء حتى الآن أنه كان لصاً وقاطع طريق، وفي صعيد مصر كان هناك البطل الشعبي ياسين، الذي لم يكن أفضل من أدهم.
في طرقات وحواري المدن المصرية، إذا ما طارد أحد الأهالي لصاً ساعده الجميع على الإمساك به، ثم المساهمة في ضربه حتى يسقط صريعاً، لكن لا أحد يقترح أو يقبل تسليمه للبوليس إلا في حالات الجرائم الكبيرة مثل القتل، فالناس جميعاً ضد الجريمة، لكن ليس إلى الدرجة التي تجعلهم مختارين يقفون في صف الحكومة، لذلك إذا ما طارد البوليس شخصاً في المناطق الشعبية، فإن الجميع سيعمل على مساعدته على الهروب دون أن يفكر في السؤال عن جريمته، وما إذا كان يستحق المساعدة أم القبض عليه، فالشخص الذي يهرب قد سبب إزعاجاً للحاكم، وهذا وحده كاف للتضامن معه، حتى إلى درجة اعتباره بطل شعبي لو كان مزعجاً بما يكفي لتقلده هذا المنصب الخطير، والمطلوب بشدة للجماهير التي اعتادت القهر وتعايشت معه.
لاحظت أيضاً في الأوساط العمالية، أن العمال تختار ممثليها النقابيين من الشخصيات التي تستطيع التحدث بصفاقة مع القيادات العليا، بغض النظر عما يجره عليها ذلك من جزاءات أو ما شابه، ولا تهتم العمال باختيار الشخصيات المثقفة والمخلصة مثلاً لتكون قادرة على المطالبة بحقوق العمال، فالحاصل أن العمال يعلمون أن ممثليهم النقابيين لن يحققوا لهم شيئاً، إما لأنهم غالباً لا يسعون إلا لصالحهم الشخصي، وإما لأن الحكومة تقيد حركة النقابات بحيث لا تكون أكثر من ذيل من أذيالها الكثيرة، المهم أن العمال شأنهم شأن جميع الجماهير المقهورة والفاقدة لمجرد الأمل في تحسن الأحوال، لا يتبقى لها إلا قيمة التمرد المجاني، مجرد القدرة على مشاغبة القيادات، أي أن المشاغبة أصبحت غاية في حد ذاتها، قيمة عليا تفوق كل القيم، حتى قيم مثل الأمانة والإخلاص وما شابه.
الخلاصة هي أن الجماهير التي طالت بها عهود القهر، ويأست تماماً من صلاح الأحوال، تتولد لديها قيمة تتصدر جميع القيم، قيمة عبثية لا جدوى من ورائها غير القيمة ذاتها، وهي قيمة التمرد، فما دامت قد يأست من ظهور البطل الصالح العادل (المهدي المنتظر)، ويأست من ظهور البطل المنقذ (المنتصر)، وهما النموذجان المتوقع منهما الإنجاز المادي الملموس، لا يتبقى لها إلا نموذج اللاجدوى، نموذج البطل المتمرد، وهي إذ تختاره وتقف خلفه رغم خيبته وجرائمه، لا يكون ذلك لغفلتها وعدم وعيها كما قد يتصور البعض، بل العكس هي تضعه في مكانه الصحيح وهي تقيمه تقييماً صحيحاً، تقييم البطل المتمرد، الذي تتجاهل ولا تجهل جميع عيوبه، لأنه يحقق لها الملاذ الأخير.
يحدث أن تلتف الجماهير حول رمز باعتباره البطل العادل، أو البطل المنقذ، فإذا فشل في تحقيق الإنجازات المرجوة، ونجح في أخذ صورة البطل المتمرد، فإن الجماهير لا تسقطه، وتقبله واعية بوضعه الجديد، حتى وإن كابرت وظلت مع زبانيته وأبواقه يخلعون عليه أوصاف البطل العادل أو البطل المنقذ، وهذا ما حدث تماماً مع عبد الناصر، وحدث مع صدام ولكن بصورة أكثر فجاجة، يتعجب منها العالم، كما يندهش ويغتاظ منها ذوو الألباب من الشعوب المقهورة، والتي تسلم نفسها لجلاديها المجانين.
لقد نجح صدام في الإضرار بالأغنياء في غزوه للكويت، ونجح في كيل التهديدات الكلامية لأمريكا وإسرائيل، كما أطلق عدة صواريخ سكود سقطت في الصحاري الإسرائيلية، ويعرف الجميع أن لا قيمة لها، وهذا غير مهم على الإطلاق، المهم أنه أثبت أنه المشاغب الجسور، ولن تنظر الجماهير بعين الاعتبار إلا لهذه الحقيقة، أما المقابر الجماعية، والقهر والإذلال للشعب العراقي، وسائر الجرائم والنكبات التي جرها على المنطقة، كل هذا تراه الجماهير ولا تراه، إنها ترى قيمة وحيدة رمزها صدام، هي قيمة التمرد.


[email protected]