قلنا مرارا نحن في عالم فقد شرف الحقيقة، وأصبح في أزمنة ما بعد الحقيقة، تلك قضية قوية الحضور والدلالة في سياق ثباتها العلمي والدلالي، فالإجباري، نظرا لصعوبة الخيارات والانتقال القهري إلى عالم مشحون بالانهيارات والهزائم الأخلاقية، وفلتان سدود التحوط الوجداني والذاتي، ربما كان خيار التطور المفرط وانتصار الثقافة الإعلامية والإعلانية من وراء التفريغ المنهجي لمحتوى العقود الأولى لمشروع اجتماعية البشر، وهذا الإجبار القهري ليس سيئا ولا استلابا، إنما هو توصيف الممكن والمتاح إزاء خياراتنا المزحومة والمخنوقة بانقلابات هائلة، لم تنحل أو تستشرف البعد العملي في وعيها وذهنها، أو تعترف به كواقع غير مشابه لتلك الأقنعة الوعظية والتوجيهية الكاذبة، التي تكاد لا تشكل إلا لغة ميتة أو لغة مجردة، لا تعدو أكثر من طنين صوتي أو صمت نصيّ. العالم اليوم تتحكم في مصائره طاقات شاذة من الإرهاب ونقيضه وتوحش الحاجات والمال، ما تسبب في فلتان مريع لمنظومات الأخلاق، في مساحة انضباطها الوجداني والذاتي، فأصبحت معها كل دستوريات أو قانونيات الاعتماد على قوة الأخلاق والصيانة الداخلية ضربا من الخداع والوهم، بل أصبح هذا الخطاب موئلا شيطانيا ( مع احترامنا لأبناء شعبنا من عبدة الشيطان) لشتى الانهيارات الأدبية والحصانات الوجدانية، لأنه يقدم غطاءا لفحشها وشائناتها المخزية، حتى ليبدو التطرف الديني والمجتمعات المحافظة أكثر المجتمعات انفلاتا وهدما للحصانات، لأنها عقدت اتفاقا سريا وضمنيا على التواطؤ واستلذاذ السري، كما لو إن المحافظة هي طقس فلتاني انحلالي يزيد من سعرة التلذذ والإمتاع!!ففي جردة بسيطة، في حقل المقارنة والإحصاء، سنجد شيوع الجرائم في هذا الوسط، وتفوقها على الوسط المنفتح والمدار عبر الاعتراف القانوني والدستوري بهزيمة الإنسان إزاء مثله الأولى، ما جعل الحرية صيانة للحد الأدنى من القيم والطاقة الأخلاقية المتبقية، وهي تشكل مصادر التخيير المعلن لفعل الإنسان ولم تحيل أفعاله إلى جرم ليفعلها سرا، فيتطور من شعوره ذميّ إلى ذنوب ضميرية تبيح له الانفصام والازدواج وبالتالي التطرف، في القطبية والنقيض بين ما يدعيه وما يفعله بالخفاء، وهذه اكبر مداخل انهيار الحصانة الداخلية فيما الحرية تحميها من الازدواج على الأقل، وتاليا من التطرف المحتمل.
وهنا لا أتناول الأخلاق بمدلولها الاجتماعي وحسب، إنما في إطار الثقافة السياسية التي أورثتنا ماضي الكبت والانحلال السري وشتى المفاسد المتآخية والمتوأمة بين الاجتماعي والسياسي، حيث جبريات التناغم والموازاة..ولعل ارث التصور العقائدي والإيديولوجي الأول، في أزمنة ما بعد الحقيقة، أصبح احد اكبر وظائف التضليل والخداع الدعوى والإعلامي، لأنه محكوم بحاجات وعلاقات مجتمع المعلوماتية والأزمنة الومضية، فيما يتصرف ويتعامل بأزمنة سرعة الخيول والاتصال اليدوي أو الميكانيكي، في ارقي صوره، كما تستخدم الأصولية وسائل البرق المعلوماتي لثقافة الخناجر والإطلال والخيمة وحداء حراك الأنعام، في الصحراء، خلال حفل تنكري مريع لا تبدو مسرحته ممكنة ومقبولة، حيث المكان والزمان ليسا ديكورا، ولا الدماء خدعة مسرحية أو سينمائية، إنما تمسرح فعل الحياة لتنقله من حراكه إلى ماضيه الميت فيكون الجرح ممسرحا مع انه مكان مؤلم.
ربما الوضع في عالمنا يتجه نحو تشاؤمية اكبر، وذلك إذا استقرانا هذه الأوضاع الجارية بما يقارنها مع شروط الأزمنة ومستلزمات التعرف عليها، خصوصا الثقافة السياسية المكتظة بثقافات أزمنة الخنجر والإبل والاتصال اليدوي، وهو يوظف شتى تقنيات العصر وامكاناته إلى ذلك المرتجع، مما يخلق تضادا وتصادما داخل الشطيرة الوجدانية، المنفلقة أصلا، لاسيما في سياق أنظمة التضليل والخداع الإعلامي، وهو يغطي لانفلات عملي وسري، كما يحدث في العلاقات الاجتماعية وسط مجتمعات التطرف والمحافظة، حين تكون مصدرا للخراب الروحي والعاطفي والأخلاقي والأمني!!حتى التطرف أصبح من الصناعات الإعلامية، لذا تجدر توسيع الدائرة القضائية حيال الأعلام، لأنه تحول إلى صناعة الجريمة، ومع إن الخيار مرير، لكن الحياة أكثر استحقاقا مما لو أعطيت الجريمة حق وجهة النظر، فلاعبي القمار اللغوي كثر، والعرافون أكثر وقد اتسعت رقعة حقوقهم في الشعوذة.
كل العقائد التي مرت في تاريخنا لم تحدث تناظرا وتوافقا بين خطابها وواقعها العملي والمعتقدي، فبقيت مجرد شكلا من إشكال الادعاء والتقيّة، وهي تضمر داخلها نقيضها، وهذا يسحبنا إلى قراءة تاريخ الفكر وقراءة تاريخ العقائد، لاسيما في زاوية تناظرها وتوافقها مع المؤمنين بها، أو مع الدساتير والأنظمة والكتل الاجتماعية المرتبطة بها، إذ لن تحدث هذه الأفكار أي خلخلة للماضي ولا تهدمه إنما طورت قدامته وماضيه، وجعلته أكثر ماضيا وقدامة، حين كيفته لشروط أزمنة ليست له ولا لقيمه وإغراضه، وقد يكون التفصيل والاستدلال في ذلك محرجا، لاسيما لمشاعر تخشى خسارة الوهم السعيد على تقبل الحقيقة، كندب في جبين متقيح وجريح!! وتعد تجربة اللاهوت المسيحي نوعا من الخلخلة الإيمانية، التي استندت حاجة التجربة بالاطراد ألإتمامي فانهارت ذاتيا، فيما الإسلام لم يصل اللاهوت عنده إلا في عصر الخمينية والطالبانية، لذا دفعنا ثمن هذا التأجيل، حتى صار الأقدم في عالمنا أكثر حداثة وتنويرا وانفتاحا من حداثتنا، بعلمانيتها ولاهوتها.
النظام السياسي لم يكن تناظريا مع الدعوات العقائدية إنما نفي لها، الاشتراكية خلقت إرثا للجوع والفقر والموت عطشا وذلا، الديانات دمرت الولاء الطوعي لمكارم الأخلاق، والوطنيات خربت العلاقة الفطرية بالأوطان والقوميات، وهي علاقة تعرفها الأسماك والطيور قبل الفلاسفة وعلماء الطبوغرافيا والجغرافيا، التوحيدات خلقت أبشع عناوين الفرقة والافتراق والعصبيات، والأحزاب جددت العصبية القبلية، حتى أصبح الحزب قبيلة معاصرة.. نجد أمما بمليارات الأفراد لديها مذهب واحد، أو شعوبا عظمى بحزبين أو ثلاثة، كيف ببلاد صغيرة كلبنان أو العراق بضع مئات من الأحزاب والمذاهب والفرق والولاءات والديانات والعصبيات القبلية؟ وكيف تقام قواعد الوطنية بهذا الانفلاق الوجداني الأول، بحيث لا تتشكل قواعده في التاريخ على أساس حسم الإجماع الوجداني الموروث، كي تقام حداثته من دون تدخل التاريخ الذي حسم لمذهب أو دين أو عقيدة، فأهمل هذا الجانب كمصير متروك ومعقود في اللاوعي، وصار الوعي والمقصود هو التنمية والرفاه والتطوير والتحديث، بينما نجد: أزمة أبجدية ووضوء، وبدء تكوينية ما تزال لم تحسم في عالمنا من مثل هل المرأة هي كائن بشري أم لا؟ هل الوجود قبل الفكرة أم بعدها؟ كيف نحاكم جريمة القتل؟ على هذه الطريقة أو تلك؟ هل القاضي يصلي أم كافر؟ أزمة وضوء وحجاب ولاهوت أو أزمة السكراب الفلسفي الذي عكسه الغرب علينا، فيما حسمه في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر أو بعد الحرب الثانية!!مات هيغل وديكارت وماركس ونيتشة ولم يصبحان بنظر الثقافة الغربية أئمة خالدين، فيما الحداثة تبحث عندنا عن أئمتها الخالدين، كما كانت الأمة الواحدة والخالدة، وكل في إبطه صنم الخالدة والواحدة!!حيث يصلي للوطن والتحديث علنا وصنمه العصبوي سرا.
فلو إن القبلية قد أنهاها الإسلام لما استحدثت قبيلة مقدسة استنسبت سلطانها لشرعية القرابة مع الرسول، وبهذا جرى تطوير القبلية بان انتقلت من الأرض للسماء، وفي جوارها وموازاتها أصبحت الاصطفافات القبلية مموهة بلاصطفافات الفقهية والمذهبية والفرقية، حتى أصبح النظام القبلي القديم، في مجال تنظيم العنف وردعه وجدانيا وقانونيا قد انهار، ليصبح شرع المزاج الإمبراطوري المستبد، قد استباح حتى المنظومة الأولى لعقود الأفراد الأمنية وحمايتهم من الاعتداءات !!وهذا من الممكن بحثه في تفصيل أوسع. إما أحلام ماركس فقد تبخرت في الأيام الأولى للبلشفية وموت سبعة ملايين من الناس جوعا، ثم ابادة وحشية لكتل اجتماعية هائلة، حقق مشهدها قفزة متطورة جدا في مجال التعذيب والابادة والاعتداء على الإنسانية، فيما لم يجد هتلر في هوسه الفيزياوي بالعرق الأعلى إلا من ينتج اخطر الأسلحة المبيدة للكوكب، ما جعل فيزياءه الغرقى هي أدنى من مسخ أو مشروع شيطان..هذه الثقافات الخردة والمعيبة في التاريخ البشري هي مجموعة القواعد الأولية للثقافة السياسية السائدة في عالمنا، أي استيراد الفشل والهزائم الفكرية والعقائدية والأخلاقية، وهي تتسيج بجانحة التحرير والاستقلال، كما لو إن الاستقلال هو توأم الاستبداد والطغاة، ناهيك عن تحولنا إلى بلدان مكبات فكرية وعقائدية، كما هي حال المواد الغذائية الفاسدة أو البالات العتيقة، وهذا طبعا ليس بسبب الخارج إنما جاء من أهل البلد أنفسهم، بحيث لا يمكن اتهام الاستعمار بأنه وراء الفكر اللاهوتي أو الماركسي أو القومي .. هذا فولكلور تعبوي يضلل الآخر بالتطهير الذاتي عند رجم الزانية والآخر، ولماذا ألذات تختار عبوديتها وتشوهها الإنساني، ذلك لأنها لم تجد نفسها طيلة هذا التاريخ، وحيث تجدها تقتلها، لأنها تخاف الخروج على حقيقتها المتخيلة، بسبب امتيازات عدة، ولعل منها متعة العبودية ومخافة حلول الحرية في ألذات، لذا تجدها في طاغية آخر.
حتى الآن لا يوجد حزب تناظر مع نصه أو تكيف مع مشروطية ادعائه الديمقراطية، فثمة أغراض أخرى هي الوصول للسلطة بشتى الالتباسات والاجماعات الخاطئة أساسا، لأنه لا يمكن جعل أفكار وعقائد الحرية محمولا لفلسفات وعقائد قائمة على نموذج الاستبداد والطغاة والتجارب المشينة، وان أصبح الأمر أمرا واقعا ..لنرى البعد العقلاني بهذا الواقع إن كان معقولا أم غير معقول؟
سنجعل القسط الخطر من هذه التجارب في قسم المخدوعات أو المغفل الساكت، لجهة مركزياتها النموذجية، في الهتلرية والستالينية والنيولاهوتية الخمينية الطالبانية، حيث كل هذه التيارات تشكل الهيكلية البنائية للثقافة السياسية في عالمنا، بل وتدخر تمننها النضالي كخزين ورأسمال للتشريع والشرعية القانونية والحكومية، على أساس أنها حاربت الاستبداد، ولكن تهمل النصف الأهم في تكوينها، وهو سؤال تصمّت بفعل الاسترهاب الأدبي والمنهج الطارئ، وهو بأي فكر أو فلسفة أو مشروع قاتلت الاستبداد والإرهاب؟ نحن هنا لسنا في سوق هرج أو أكداس خردة لنقبل بأي شيء لكل شيء، هذا إن كان الأمر يتطلب احترام ذاتنا والاتفاق على أنها ليست ذات خروف أو أضحية أو قطيع، إنما ذات عارفة ومعرّفة، إما هذه الملاذات البلاغية واللغوية والأمامية، في شتى ترميزاتها الحداثية، لم يعد بمقدورنا إيجاد بوصة صغيرة للاستغفال والخداع والوداعة الخنثية المعهودة، في الخيال السياسي:بين شعب حريم وشيخ ذكوري، والحريم مملوكة، والملكية تجيز ذبح العبد وتقرير حياته وموته من قبل الشيخ والذكر الباطش!!، فالملكية في عالمنا لا تختبر سطوتها إلا في حق قتل المملوك، كما يجري إسقاط فكرة الاستقلال والوطنية والشؤون الداخلية على شعوب بأكملها جراء هذه الثقافة البدائية والبربرية، وعيا ولا وعيا.إذن لنهمل هذا ونفترض تقبلنا خداع الفكر البطولي وفواتير النضال وقبض مدخرات ارث الشهداء والمعذبين في البورصة السياسية. العراق يستعيد ذاته الفرقية كما حدث في العصور الإسلامية، حيث جعل التعويم الفرقي والفقهي مشاعا، كي يفتت احتكارات الفقه القبلي لأسرة واحدة ويفتح ثغرة في مسيجات الإطلاق، وهكذا تعددت الفرق إلى ما فوق المئة طالما أن المنهج اللغوي والبلاغي هو الرابط الحضاري والعملي، فمن بمسك المعنى الدلالي في حدود؟ هذا ما لا تقدر على تحقيقه حتى الآلهة! كما هي الحال الحزبية الآن، الأمر الذي لا يدل على جدية الأفكار والعقائد إنما الانضواء حول باطنية السلطة والتسلط، بالشرعية الحزبية أو الفقهية في ظل الاحتكارات "المؤلفة قلوبها"، وهي احتكارات الشرعية الوطنية بمجموعة شروط تضليلية، نعتقد أنها وبوضوح خليع، تعلن استثمار الواجب والفضيلة لأغراض غير فاضلة، وهكذا كانت الأسماك والطيور والأشجار مناضلة ومعذبة إلى جانب إخوانها البشر، وربما الكلاب السائبة والقطط كانوا ضحايا ومناضلين حين تعرضت لابادة قانونية، كي يعرضوا بشاعة الحكام السابقين، فسلاح الضحية في قوة التشوه التي يتركها على الجلاد، وهكذا كانت الكلاب والقطط أكثر نضالا من البشر، فالتحقت بأحزانها الطيور والأسماك والنخيل والأنهار والهواء الملوث بفيروسات تخلف الرعيان في استخدام تكنولوجيا مضرة، إذ لا يتورع نيام سورة الكهف من ضرب قنبلة كيماوية على عشيرة مجاورة، لأنهم فقدوا الإحساس بالتاريخ، وتاليا معايشة أزمنة طويلة من التطور كي يعرفوا خطورة هذه الأسلحة على أنفسهم قبل غيرهم!!.
الأدب السائد في العراق اليوم، يتمركز حول فضيلة ارث النضال في الماضي، إلى حد صار يشبه لعبة مقامرة رابحة، وهذه الفضيلة التي لا تحظ بمجسمات للهندسة الاجتماعية أو التفصيل العملي، ما خلا لغتها البطولية ذات الفضل الفراغي، لاسيما وان المحررين قديما كان الشعب يدفع لهم الفدية القهرية والاذلالية تحت شعار:الثورة والتحرير والعدالة، وكل البالونية اللغوية، وكان على الشعب إن يقارن بين مساحة دهائه في حكم قيصر وفقدانها في أزمنة قياصرة الثورة والتحرير، أي حيلته على ابن ذوات وقصور وأثرياء، إلا انه يفقدها بين إحداث نعمة وصعاليك وفقراء وجياع الأمس حين أصبحوا حكاما، لأنهم خبروا حيلة الفقير على ممارسة الحرية وجني القوت، وكان صدام وستالين اكبر الأدلة على مقارنات بين قيصر الثري وأباطرة التحرير الوضعاء والفقراء، حيث احتلال الأسرار الشخصية، فيما قيصر مغفلا عنها...وهكذا فان التحرير الجديد أعفى العراقيين من الجزية القانونية، لان الغرباء حرروهم من قاتليهم، ولكن في الوسط الشعبي غير الحكومي، تسيطر هذه المفاضلة، وتتلبس سابق عهدها، متبرجة بالتاريخيات لمنع المستقبليات من حرمانها هذا الامتياز، كما تمنن كل قادة العالم الثالث، من قادة انقلابات، على شعوبهم فخنقوا الحياة كلها، ولم يسلم من طغيانهم حتى الكلاب السائبة، ذلك لان اخطر الطغاة من يكون من اصل عبد.
إن المفاضلة بإرث النضال سوف تخلط الأوراق وتكرس الحياة الأدبية الماضية، وهذا ما استشرت أثاره في استعادة الزلفى وقيم الولاء والتحزب الجديدة، في وقت يجب أن تقام حرب التاريخ والمستقبل، والتاريخ هو منظومة متعاضدة بين الأضداد فيما المستقبل هو خارج الأضداد تلك، وهذا يفرض مفاضلات جديدة ربما سيكون بها طبيبا كافرا أكثر فائدة من جراح مؤمن، أو قاض يميني اعدل من يساري، أي تسقيط قيم المفاضلات القديمة وجعلها مع السكراب الحروبي والعسكري القديم وتاليا مفاضلة تنظيف الشارع مع خطبة صلاة عن مكارم الأخلاق... فمكارم الأخلاق لا تعيش في عالم تتسخ شوارعه وتبيض أسنان خطبائه!! هكذا يجد الإرهاب أولياته في خطاب الآخر وهو يفاضل، أو تسيطر فيه نزعة المفاضلة بين مناضل وموالي وبين ثوري ومتفرج يدفع الضرائب الأدبية... إذن لابد من تسويق منظومة أدبية جديدة تحاط بشتى المعايب والاستحياءات، تقوم على تشخيص مصادر الاستلاب والاحتيال والتضليل، حيث لابد من شطب خطاب المفاضلة بين المحاربين ليحل بديله المفاضلة بين المسالمين، إذ لم يقدم التاريخ ولا مرة، بان حكومة المحاربين ستخلق عالما أمنا، بل ستبحث عن مقبلات فكرها البطولي وذلك مرتبط ببحثها الدائم عن أزمة وعن حرب وألا ستبقى عاطلة التصفيق والخوف والزلفى والتملق وكل ما حلمت به أزمنة الطامحين في مجتمع العبيد كي يحافظوا على ثنائية حاكم طاغية وعبد مطيع، وإلا لأحدثوا ثورة في ذاتهم، تطرد تاريخ الضحية لئلا يطالب فواتير عبوديته ليصبح جلادا أو طاغية جديد، لعله سر عملي في خطاب التذكير بإرث الضحية والنضال. لقد أكد ارث النضال والثورة بأنه ارث عبيد وطغاة وقتلة وخارجين عن الطور، وكل ما أبدعه الفساد والفاسدين، لهذا لا يتشكل مجتمع الديمقراطية والسلام إلا باختفاء آخر محارب يحاول تكريس شرعية تاريخ حروبه وماضيه، ذلك لأنه بلا رصيد بنائي وأعماري مستقبلي، ما خلا متاعبه المشكورة والبحاجة إلى استراحة محارب أبدية!!.
اذن المطلوب من الأحزاب المنفلقة والفرقية أن تقدم برامج واضحة عن أي وطن تتحدث، ماهي خططها، مواقفها الكونية الاعمق، وإذا كانت نظيرة لغيرها لماذا لا تتوحد معه إن لم تكن السلطة عنوانها وليس الوطن؟ لتبحث في ساكتها وتغلق مصوّتها ومعلنها.. نحن إمام حاجة لخطاب مشبع بهندسة لغوية متجسمة وتفصيلية، لقد دفن امرؤ القيس أطلاله، وغابت ديار عبس عن عنترة، فلو عاد الفرسان والقديسين والعظام إلى عالمنا من جديد لاعتذروا عن كل فضيلة أسسوها في وعينا المتوارث، لان الفضيلة صارت جريمة.