-1-

استعرضنا في مقالنا السابق (ما هي الثورة الملكية التي يحتاجها الأردن الآن؟) مظاهر الحداثة السياسية والاجتماعية لدى الملك الأردني عبد الله الثاني، وذكرنا بالشواهد وليس بالقصائد مظاهر الحداثة عند الملك الأردني. ووعدنا القراء بأن نبين لهم في مقال قادم طريق الثورة الملكية الأردنية.

فما هي طريق الثورة الملكية الأردنية في ظل تاريخ سياسي عربي طويل لم يعتد فيه الملوك أو الحكام على القيام بثورات على أنفسهم وعلى حكمهم، وانما ناموا ليلهم الطويل، وغرقوا في العسل الأبيض حيناً والأسود حيناً آخر، لكي يصحوا على صوت مدافع الثوار تدكُّ حصونهم، وتنتزعهم من أحضان محظياتهم، وتزيل مُلكهم. وقد سار على هذه الطريق من الثورات الدموية الحكام العرب منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى يومنا هذا. حيث كان الحاكم يبدأ من القصر وينتهي إلى القبر.

-2-

هناك عدة خطوت لما يُعتبر ثورة حقيقية اردنية يقوم بها ملك، فيما اعتدنا أن لا يقوم الملوك بالثورات، ولكن الثورات تقوم عليهم. ولكن الملك عبد الله وقبله والده الراحل، كانا مشاريع ثورية سياسية استثنائية، لم تتحقق لا لقصر هذه البرامج، ولكن لأن الأرضية التي أرادوا أن يحققوا عليها هذه البرامج لم تكن مهيأة التهيؤ اللازم.

والثورة الحقيقية التي يريدها الأردن هي ثورة عاجلة وسريعة ومخطط لها وعلمية وبعيداً عن المؤسسات الدينية، ذلك أن العائلة المالكة الأردنية أصبحت عائلة كبيرة العدد الآن، واصبحت تثقل كاهل دافع الضرائب الأردني، في ظل اقتصاد متدهور، وغلاء مستعر، وفقر منتشر. وهذا كله يجعل من العائلة المالكة الكثيرة العدد نسبياً عبئاً مالياً كبيراً على موازنة الدولة السنوية. ولو كان الأردن بلداً في الغرب لكان نصف مليون دولار سنوياً فقط يكفي لتعيين حاكم ممتاز منتخب، لبلد صغير كالأردن لا يحتاج لانفاق الملايين سنوياً على سُدة الحكم. ومن هنا، يريد الشعب الأردني من سُدة الحكم أو "أصحاب الوقت" كما يسميهم عبد الكريم الأمراني رئيس تحرير جريدة "الأحداث المغربية"، أن يقدموا له على قدر ما يأخذون منه.

-3-

الثورة الحقيقية المطلوبة في الأردن الآن لكي تتهياً الأرض لزراعة ناجحة للأفكار والخطط التي في رأس الملك عبد الله، تتطلب التالي:*

1- إن الملك الأردني الآن، وبموجب الدستور الحالي، وبعد مضي أكثر من ثمانية عقود على حكم الهاشميين للاردن، هو حاكم مطلق حقيقيةً بموجب المواد 30–36 من الدستور الحالي. والأردن الآن في مرحلة تستوجب أن يفوّض فيها الملك بعض صلاحياته للشعب، ويتحول الملك شيئاً فشيئاً من حاكم مطلق إلى حاكم يملك ولا يحكم. فعندما صدر الدستور الحالي الذي وهب الملك سلطة مطلقة في تعيين الوزراء وصرفهم متى شاء، وتحديد موعد الانتخابات متى شاء، وصرف مجلس النواب متى شاء، وتعيين مجلس الأعيان متى شاء، وصرفهم متى شاء، وتعيين القضاة متى شاء.. الخ. كانت الأمية بين الشعب الأردني تنتشر بنسبة 90 بالمائة، وكان التركيب الاجتماعي للشعب الأردني يتكون غالبيته من البدو والفلاحين. ولم تكن الطبقة الوسطى الحالية قد نشأت بفضل نكبة 1948 الفلسطينية.

2- اجراء تعديلات كثيرة وفورية في الدستور الأردني الذي وضع منذ أكثر من نصف قرن واجريت عليه تعديلات مختلفة ولكنها تعديلات روتينية غير جذرية، وأصبح يتوجب على المشرعين اعادة النظر فيه وتبديل أبرز مواده، ومنها أن يتمَّ حلّ مجلس الأمة عند انتهاء مدته القانونية فقط، فالشعب الذي ينتخب النواب هو فقط صاحب الحق في صرفهم، وليس الملك كما هي الحال الآن في الفقرة الثالثة من المادة 34 من الدستور الحالي، وأن يتم انتخاب مجلس الشيوخ (الأعيان) وليس تعيينهم كما تنص المادة 36 من الدستور الحالي وبعد مضي أكثر من نصف قرن على هذا النهج السياسي. وأن يتم انتخاب رئيس الوزراء مباشرة من قبل الشعب، وليس تعيينه من قبل الملك كما تنص المادة 35 من الدستور الحالي، وحتى لا يتحمل القصر مسؤولية فشل رئيس الوزراء في أداء مهامه المنوطة به من وقت لآخر كما هو الحال الآن، وكما كان النهج منذ أن تم تأسيس المملكة الأردنية الهاشمية، ومنذ عهد الأمارة في العام 1921، وحتى الآن.

3- تدخل الملك شخصياً وبقوة لتوحيد الأحزاب السياسية في حزبين رئيسيين: حزب يحكم وحزب في المعارضة. وانهاء الصبغة القبلية والعشائرية للأحزاب السياسية.

4- ايقاف منح تراخيص جديدة للمزيد من الأحزاب السياسية.

5- رفع الحصانة الدينية عن رجال المؤسسات الدينية السياسية. ومعاملة رجال الدين الذين يعملون بالسياسة كساسيين فقط وليس كرجال دين. وتحويل كافة العاملين بالسياسة من رجال دين إلى احزاب سياسية لها ما لها، وعليها ما عليها. ومنع رجال الدين من الازدواجية السياسية الدينية، والاختباء وراء عباءة الدين.

6- فصل الدين عن الدولة فصلاً تاماً واعتبار جبهة العمل الإسلامي وجماعة الإخوان المسلمين أحزباً سياسية لا غطاء دينياً لها بأي حال من الأحوال. وهذا ما دعا اليه إبراهيم غرايبة المفكر الإسلامي الأردني، وأحد أبرز المتخصصين في دراسة الحركات الإسلامية في الأردن وفي العالم العربي، حيث قال: "لقد كان الأجدى بجماعة الإخوان المسلمين هنا أن تبقى حركة إصلاحية تعمل في المجتمع والإصلاح، وتترك أتباعها وأبناءها والناس يشغلون في الأحزاب السياسية، لمن يرغب بذلك، في عملية فصل تام. ولو تُرك حزب جبهة العمل الإسلامي يشتغل بالعملية السياسية، يخطيء ويصيب، يتقدم ويتعثر، دون أن يرتبط ذلك بالإخوان، وتبقى هي حركة مجتمعية لا تتدخل في عمل الحزب، تدعمه أو لا تدعمه، يكون هناك تنوع في العمل الإسلامي، وثراء أكبر، ويكون فصل بين مشكلات العمل السياسي والعمل الإصلاحي، وتبقى جماعة الإخوان ذات مصداقية أكبر، بعيدة عن الخلافات السياسية، وتعد مرجعية للاتجاهات المختلفة، دون أن يجهض ذلك الإنجازات التي حصلتها الجماعة على المستوى الإصلاحي، لكن الذي حصل أن الجماعة تعاملت مع السياسة كمغنم، وأردنا أن نستثمر كل إمكانيات الإخوان من أجل مغانم سياسية، فاختزلنا العمل الدعوي والإصلاحي والتربوي والخيري والمسجدي لأجل مكاسب سياسية محدودة وهزيلة، وصار الناشط الإخواني أكبر همه النجاح في الانتخابات البرلمانية أو البلدية، واختزلنا العمل كله في عمل سياسي او نيابي".

فإما أن تكون هذه الجماعات دينية خالصة، واما أن تكون سياسية خالصة. فقد أدانت هذه الجماعات مثلاً لا حصراً دعوة مروان المعشر وزير الخارجية الأردني لمطالبته ادانة العمليات الانتحارية في فلسطين واعتبرتها عمليات استشهادية، خالطة بين الدين والسياسة خلطاً أحمق، ودعت "كل صوت حر شريف الى الاعلان عن رفض هذا النهج وادانته، قبل ان يحل بنا سخط الله وفقا لسنته التي لا تتبدل، وكما أفتى بها القرضاوي مؤخرا في لندن وأثار زوبعة سياسية هناك. كما عبرت هذه الجماعات عن "فجيعتها" في 10/3/2004 بوضع حجر الاساس لمركز تكنولوجي مشترك بين الحكومة الاردنية واسرائيل وبأن هذا المشروع مكافأة لاسرائيل على عدوانها .

7- القضاء على السحر والشعوذة وحكم الجان والأساطير التي يرويها رجال الدين ويوظفوها لأغراض سياسية معينة، ومنها قول الشيخ عبد المنعم ابو زنط النائب الحالي في البرلمان الأردني في 7/11/1999( انظر اسبوعية مجلة "شيحان") من أن الزلزال المدمر الذي حدث في تركيا في أغسطس 1999 هو قيام حفلة راقصة على شواطيء البحر كان موجوداً فيها ما يزيد على30 ضابطاً برتبة لواء من إسرائيل وجنرالات من أمريكا وتركيا!

8- القيام بتعديل المناهج ووضع سياسة تعليمية تحول الأردن إلى مصانع تعليمية. فمستقبل الأردن ليس بالصناعة حيث لا مال، ولا بالزراعة حيث لا ماء، ولكن بالتعليم. وعلى الأردن أن يطور مناهجه التعليمية بحيث يصبح مصنع العالم العربي التعليمي. وأن يبادر إلى دعوة الجامعات الأوروبية والأمريكية واليابانية وغيرها إلى فتح فروع لهذه الجامعات في الأردن للارتقاء بمستوى التعليم الأردني الذي ما زالت المؤسسات الدينية الإسلاموية تسيطر على جانب كبير منه.

-4-

إن أمام الهاشميين فرصة سياسية ذهبية ثمينة لكي يبقوا حكاماً للأردن مدى الحياة في ظروف عربية واقليمية وعالمية سياسية عصيبة. فالهاشميون كانوا أكثر الحكام العرب المعاصرين رأفة بمعارضيهم. لم يقتلوا من تآمر عليهم ومن قاد الانقلابات ضدهم في الخمسينات وما قبلها وما بعدها. بل على العكس من ذلك فقد أكرموا المعارضة كرماً إلى حد الابتذال (تعيين قادة الانقلابات العسكرية سفراء ووزراء، وايصال المعارض "صاحب الكوبون النفطي البلاتيني" ليث الشبيلات في سيارة ملكية يقودها الملك الراحل حسين بنفسه من السجن إلى بيت شبيلات مثالاً لا حصراً) ولم يعامل حكام في العالم العربي المعارضة بالمعروف والحسنى كما عامل الهاشميون معارضيهم. ومن هنا فإن سجل الهاشميين السياسي العربي والأردني أبيض تجاه المعارضة. وهم حيال ذلك مطالبون بأن يعيدوا النظر في كيفية حكم الشعب الأردني الذي تغير كثيراً منذ كان يحكمه المؤسس الملك عبد الله الأول (1882 – 1951). صحيح أن الشعب الأردني بتركيبته الاجتماعية والسياسية والثقافية الحالية ظالم نفسه كثيراً. فلم يستفد الشعب الأردني من حكم ملك حداثي كالملك حسين رغم أنه حكم الأردن مدة نصف قرن تقريباً (1953-1999) وهو غير مستفيد الآن من وجود ملك حداثي وليبرالي يطمح في تغييرات جذرية في الحياة الأردنية العامة، ولكن رغم ذلك يظل الشعب الأردني أكثر الشعوب العربية طموحاً نحو مزيد من الحريات ومزيد من علو السقف الديمقراطي، وهو ما يحاول عبد الله الثاني أن يفعله لو وجد الفرصة المناسبة محلياً واقليمياً ودولياً.

(تنشر بالتزامن مع جريدة "السياسة" الكويتية، و "المدى" العراقية، و"الأحداث المغربية")

[email protected].