بلغ عدد الضحايا من ميليشيات مقتدى الصدر (جيش المهدي) خلال اليومين الداميين 5 و 6 آب الجاري من جراء المعارك في مدينة النجف الأشرف وحدها بين 300- 400 قتيل، حسب تصريحات المسؤولين العراقيين والأمريكيين. وإذا أضفنا هذا العدد إلى عدد القتلى بسبب هذا "الجيش" منذ تحرير العراق في 9 نيسان 2003/ من نظام القتلة لحد الآن، يكون الرقم قد تجاوز ثلاثة آلاف على أقل تقدير. وعادة بكون عدد الجرحى ثلاثة أضعاف القتلى، ونسبة عالية منهم تكون جروحهم بليغة تؤدي بهم إلى الموت أو العوق مدى الحياة. وإذا عرفنا أن معظم هؤلاء هم من الشباب المغرر بهم وفي مقتبل حياتهم، لعرفنا حجم الخسائر البشرية التي يدفعها الشعب العراقي من أبنائه، ناهيك عن الخسائر المادية نتيجة لهذا الجنون.

من المسؤول؟

والسؤال الملح هو: من المسؤول عن حفلات رقص الموت الجنونية هذه؟

يعتقد البعض أن مقتدى الصدر هو المسؤول عن كل ذلك. لقد ذكرت في مقالة سابقة لي أن مقتدى هذا مسيَّر وليس مخيَّراً. والأحداث الدموية الأخيرة أثبتت صحة هذا الرأي إلى حد بعيد. فمقتدى ما هو إلا الواجهة والعنوان فقط لهذه العملية الجنونية. أما المسؤول الحقيقي فهو الجناح المتشدد في النظام الإسلامي في إيران والذي يمثله السيد علي خامنئي وهاشمي رفسنجاني اللذين يتحملان مسؤولية سفك دماء العراقيين. أما مقتدى هذا فهو مجرد دمية، ليس بإمكانه قيادة قطيع من الغنم، ولذلك فأنه بالتأكيد مقاد وليس قائداً.

لماذا اختارت إيران مقتدى؟

لقد لعبت القيادة الإيرانية الدينية ورقتها في الساحة العراقية بدهاء فاق دهاء عمرو بن العاص ومعاوية وماكيافيلي جميعاً. فاختارت إيران مقتدى الصدر ليقف كواجهة لها في خوض حرب النيابة عنها في العراق لما تتوفر فيه من مواصفات نادرة لا تتوفر في أي شخص آخر ليقوم بهذه اللعبة القذرة ضد شعبه. فهو أولاً، نجل رجل دين شيعي كبير أغتاله النظام الصدامي الساقط، وبذلك يمكن الإستفادة من سمعة عائلته الطيبة وتضحياتها في التأثير على أوساط الشيعة والتلاعب بمشاعرهم وخاصة الجهلة منهم. فأنصار الصدر فعلاً من الجهلة بامتياز، كما وصفهم مقتدى نفسه.

ثانياً، أن مقتدى الصدر ليست عنده الخبرة والتجربة والثقافة في السياسة والدين رغم أن له طموحات سياسية تفوق قدراته العقلية وإمكانياته الفكرية، لذا يسهل توجيهه كما تريد القيادة الإيرانية.

ثالثاً، عرف عن مقتدى أنه ذو شخصية غير متزنة ويعتقد الذين قابلوه، وخاصة من المتخصصين في علم النفس الإجتماعي، أنه مصاب بانفصام الشخصية (شيزوفرينيا). فأعراض هذا المرض واضحة عليه عندما يظهر على شاشات التلفزة مزيغاً بنظراته التائهة وهو يلقي خطب الجمعة التي يعتقد أنها تكتب له من قبل أعضاء في المخابرات الإيرانية يرافقونه طول الوقت. وأغلب هذه الخطب تحريضية ضد الحكومة العراقية والعهد الجديد، تدعو الشباب إلى العنف باسم الإسلام. فهناك فرق شاسع بين خطابات مقتدى المكتوبة وتصريحاته الشفوية عندما يظهر في بعض المقابلات التلفزيونية دون تحضير فيكشف بها عن جهله وعدم قدرته على التعبير وهو لا يعرف ماذا يقول.

ما هو الدليل على تورط إيران؟

أما الأدلة على تورط إيران في تأسيس وقيادة مليشيات الصدر وإثارة الفوضى في العراق فهي كالتالي:

1- خطابات وتصريحات المتشددين الإيرانيين باستمرار في تحريض الشعب العراقي على مقاومة قوات التحالف لخوض معركة خاسرة مع هذه القوات التي حررته من أسوأ نظام بربري عرفه التاريخ. والجدير بالذكر أن الإيرانيين يتكلمون بلغتين: لغة الإصلاحيين برئاسة السيد خاتمي، وهي لغة العقلانية الدبلوماسية الهادئة، يدعو فيها إلى دعم الحكومة العراقية ولإقامة أفضل العلاقات معها..الخ. ولغة تحريضية عنيفة غير رسمية يستخدمها التيار الديني المتشدد برئاسة مرشد الجمهورية السيد علي خامنئي، وهو الحاكم الفعلي,

2- الدعم المتواصل من قبل المتشددين الإيرانيين لمقتدى الصدر وميليشياته المعروفة بجيش المهدي.

3- تم إلقاء القبض على أعداد كبيرة من الإيرانيين المسلحين على الحدود وهم في طريقهم إلى العراق للقيام بالقتل والتخريب.

4- إلقاء القبض على شاحنات إيرانية تهرب الأسلحة إلى العراق.

5- وحسب ما صرح محافظ النجف: «لقد تمت الحيازة (خلال المعارك) على راجمة (منصة إطلاق صواريخ) إيرانية الصنع ولدينا معلومات ان 80 عنصرا ايرانيا دخلوا الى مقبرة وادي السلام». (الشرق الأوسط، 7/8/2004).

6- إن تصرفات جمهور الحضور في أوقات صلاة الجمعة في مسجد الكوفة بإمامة الصدر، وهتافاتهم وحركات أيديهم نسخة إيرانية طبق الأصل وهم يهتفون (الموت لأمريكا... الموت لإسرائيل).

7- كذلك هناك تقارير تفيد أن جيش المهدي يعمل بتنسيق مع جماعة الإرهابي أبو مصعب الزرقاوي في في الفلوجة والرمادي، وأغلب أعضاء هذه الجماعة دخلوا العراق عن طريق إيران وسوريا وبدعم منهما كما هو معروف.

وللأسباب أعلاه، أعتقد جازماً أن مقتدى الصدر هو عميل إيراني مسلوب الإرادة، لا يعرف ماذا يريد من كل هذه الفوضى التي يثيرها أتباعه في المدن الشيعية وما يقوم به ما هو إلا خدمة للأغراض الإيرانية وبتوجيه النظام الإيراني مباشرة. لذلك فشلت مع الصدر جميع محاولات المسؤولين في الحكومة العراقية الرامية إلى تهدئة الوضع معه وإقناعه في المشاركة في العملية السياسية، ودعوته لحضور المؤتمر الوطني العام، كما وسمحت الحكومة لجريدته (الحوزة الناطقة) بالصدور.. الخ. ولكن رغم كل هذه المحاولات السلمية من جانب الحكومة، سلك مقتدى العكس، حيث رفض هذه الدعوات وفسرها أنها علامات ضعف الحكومة فتمادى في غيه وازداد غلواً في إثارة الشغب والعبث بأمن المواطنين وسفك الدماء.

وحتى الهدنة التي أعلنت في حزيران الماضي بتوسط البيت الشيعي، كانت مؤقتة وانهيارها كان متوقعاً لأن مقتدى، كما أسلفنا، ليس سيد نفسه والأمور ليست بيده بل بيد أسياده الإيرانيين.

أما إيران فقد تبنت مع حليفتها، سوريا، ستراتيجية واضحة الأهداف والمعالم وبعيدة المدى وهي إغراق الشعب العراقي في المزيد من الفوضى العارمة وعدم الإستقرار وذلك عن طريق دعم الإرهابيين من منظمة القاعدة وفلول النظام الساقط وجيش المهدي للإكثار من الضحايا في الجيش الأمريكي وبالتالي إثارة قلقل الشعب الأمريكي و سخطه على إدارة الرئيس بوش فيرغمونه على الانسحاب من العراق وبذلك يلحقون الهزيمة بأمريكا وإفشال مشروعها في دمقرطة العراق والمنطقة. وقد قلنا هذا الكلام مراراً وتكراراً، ونعيده الآن عسى أن تنفع الذكرى، حيث أثبتت أحداث الأيام الدامية الأخيرة صحة ما قلناه سابقاً. أما التصريحات التي يطلقها قادة سوريا وإيران بين حين وآخر بأنهم يريدون الخير الشعب العراقي واستقراره، فهذا مجرد كلام لا يكلفهم شيئاً، القصد منه ذر الرماد في العيون وللاستهلاك المحلي وخدع الرأي العام العالمي، أما الواقع العملي المرير فهو خلاف لما يعلنون.

المطلوب من الحكومة العراقية:

1- الكف عن مغازلة مقتدى الصدر ووقف جميع المحاولات لاسترضائه، فكلما أبدت الحكومة سياسة اللين معه، تمادى الرجل أكثر فأكثر في إثارة الفوضى وأمعن في المزيد من سفك الدماء وفسر هذا الاسترضاء دليل ضعف الحكومة. وقد استغربت من تصريحات السيد رئيس الوزراء في بيانه للصحفيين مساء أمس 7/8، بمناسبة إعلانه العفو العام، [ إنه يأمل أن يرى الشخص (مقتدى الصدر)، "الذي يتهمه غالبية الناس بالوقوف وراء هذه الاضطرابات، أكثر انخراطا في العملية السياسية في العراق". إذ نؤكد مرة أحرى أن مقتدى لا تفيد معه هذه اللغة، ودليلنا على ذلك هو المحاولات المماثلة السابقة، كما وسرعان ما رد أنصاره إن قرار العفو "تافه ولا أهمية له".

2- عدم الانزلاق في مخاطر أنصاف الحلول كما حصل في الهدنة مع الصدر في حزيران (يونيو) الماضي وكذلك مع الإرهابيين في الفلوجة في شهر نيسان من هذا العام، إذ كانت النتائج كارثية، حيث استثمر المجرمون فترة الهدنة لتجميع قواهم والحصول على المزيد من الأسلحة والذخيرة لمعارك قادمة.

3- تطبيق قرار وزارة الداخلية العراقية باعتبار جيش المهدي منظمة إرهابية وأنها «تنظيم من الخارجين عن القانون وانه يجب الوقوف بوجهه بقوة وإحالة من يقبض عليه إلى الجهات القانونية». وإذا كان الأمر كذلك، فما الفرق بين جيش المهدي والقاعدة، أو بين مقتدى الصدر والزرقاوي؟ فكلاهما ينشران الرعب والقتل في ربوع البلاد.

وبناءً على ما تقدم، نرى أنه من مسؤولية الحكومة عدم التهاون في تصفية الإرهاب. لأن العراق يمر الآن في حالة خطيرة جداً من تاريخه الدامي، فإما أن ينتصر الإرهاب وبذلك يتمزق شعبنا شذر مذر ونقرأ على الدولة العراقية السلام، أو أن ينتصر الشعب على الإرهاب ويلحق به الهزيمة إلى الأبد ويعيش كغيره من الشعوب في أمان ويستعيد عافيته وينهض لتضميد جراحه وبناء وطنه واقتصاده ويستعيد مكانته اللائقة بين الأمم.