نشرت العديد من الصحف العربية، بعد أحداث آذار الماضي، مجموعة من المقالات، لكتاب ومثقفين سوريين، يطرحون رؤيتهم لحل مشكلة (التعددية القومية والثقافية) في سوريا، ويحذر هؤلاء الكتاب من مخاطر استمرار السلطات السورية في تجاهل الأسباب الحقيقية لما حدث والتعاطي مع المشكلة، من خلال الإجراءات الأمنية وحدها. وقبل أسابيع كتب الأستاذ (ميشيل كيلو) مقالاً، حول ذات الموضوع، بعنوان( كم أمة يوجد في سوريا) في جريدة النهار اللبنانية بتاريخ 16-تموز2004. معترضاً على توصيفي للمجتمع السوري بانه متعدد القوميات، وقد حذر،الاستاذ ميشيل، من مخاطر الجمع والخلط بين الحقوق القومية والحقوق الديمقراطية التي تطالب بها الأحزاب (الكردية) لأن، وبحسب رأيه، الحقوق القومية تنطوي على نزعة انفصالية، تعطي اصحاب الاتجاه الأمني المتحكم في سوريا، الذي يأخذ من ورقة الوحدة الوطنية حجة وذريعة للاستمرار في محاربة الديمقراطية والحريات والعدالة الاجتماعية.وأكد الأستاذ ميشيل، على ضرورة اجراء حوار وطني ديمقراطي صريح وجريء، حول مفهوم الحقوق القومية وحقوق المواطنة وارتباطها بالحقوق الديمقراطية.
لقد سبق لنا (الكاتب)أن نبهنا الى حالة التمزق الحاصل في هويتنا الوطنية السورية، بسبب الغلو في التعصب القومي والديني، كما حذرنا من المخاطر التي ستنجم من تحول الكيانات القومية و والاجتماعية والثقافية السورية إلى كيانات سياسية متميزة، داخل الكيان السياسي للدولة السورية. ذلك في محاضرة بعنوان(اشكالية الهوية الوطنية) ألقيناها بدعوة من (المنظمة الآشورية الديمقراطية) في مدينة القامشلي، في كانون الثاني الماضي، أي قبل أحداث آذار بشهرين،حضرتها نخبة من المهتمين والمثقفين، مثلت مختلف الطيف الثقافي والقومي والسياسي في محافظة الحسكة.ومن جملة التصورات والحلول التي طرحناها، للخروج من هذا المأزق، حل جميع الأحزاب والحركات القومية( العربية والكردية والآشورية) وغيرها، بما فيها حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، وإلغاء كل (التسميات القومية) من القاموس السياسي السوري والاكتفاء بالتسمية السورية، وإعادة تأسيس الأحزاب في سوريا، على أسس ومفاهيم وطنية عصرية جديدة.
وعن أهمية ايجاد وتبني حلول جريئة لمسالة التنظيم القومي لحزب البعث وتحوله لحزب وطني. كتب الدكتور(مهدي دخل الله) رئيس تحرير صحيفة(البعث) – الناطقة باسم حزب البعث العربي الاشتراكي- في افتتاحية (ملحق حوار) بتاريخ 2-8-2004، تحت عنوان( مسألة التنظيم القومي، لا بد من حلول جريئة). جاء فيها: ((البعث يرى في الوحدة العربية نفياً كاملاً للدولة القطرية في العالم العربي ... كما أكد على أهمية : استقلالية تنظيمات البعث في الدول العربية، اعترافاً تاماً)).وقد أثارت هذه الافتتاحية ،بحسب ما نشرته نشرة (كلنا شركاء) الإلكترونية في عددها 7-8-2004، التي يصدرها المهندس أيمن عبد النور.ردود فعل غاضبة كبيرة جداً لدى القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وقد توقعت النشرة أن يتم نقل الدكتور دخل الله من منصبه على خلفية هذه الافتتاحية.
ما أكتبه اليوم ليس رداً على الأستاذ (ميشيل كيلو)، بقدر ما هو حواراً معه، ومع كل من نختلف معه في توصيف حالة التنوع التي يتميز بها المجتمع السوري.ولكي يستقيم هذا الحوار الوطني، ويحقق المتوخى منه، يفترض أن يكون هناك قراءة، لماضي وتاريخ سوريا، وفق أسس موضوعية، بعيدة عن الأهواء الخاصة وعن الأفكار والإيديولوجيات القومية والدينية المتحجرة والمتعصبة، قراءة متحررة من المواقف السياسية المسبقة، تنطلق من حقيقة كون (تاريخ سوريا لم يبدأ مع العرب)،ولا أظن أنه سينتهي عندهم، إذا كنا حقاً نؤمن بحركة التاريخ.فحضارة سوريا- بحدودها التاريخية الثقافية، التي تتخطى الحدود السياسية للدولة السورية القائمة ، كان غالبية شعبها سريان آراميين يتحدثون السريانية،قبل مجيء العرب المسلمين في القرن السابع الميلادي-أغنى وأكبر من أن تنسب لشعب معين دون غيره، فهي ثمرة جهود شعوب وأقوام كثيرة، عاشت في سوريا منهم، الفينيقيين والكنعانيين والعبرانيين والأكاديين والآشوريين(السريان) والآراميين والعرب، وثنيين و يهود، مسيحيين ومسلمين، وغيرهم ممن لم يكتشف علماء الآثار أثرهم بعد.ونتيجة التمازج والتزاوج بين كل هذه الشعوب، والتحولات الاجتماعية والدينية والتبدلات السياسية والثقافية التي حصلت في المنطقة عبر تاريخها الطويل، خاصة بعد مجيء الديانات الكبرى، وبفعل الحروب الطويلة بين الامبراطوريات التي غزت سوريا، بات من الخطأ جداً أن ننظر الى العرب والأكراد والآشوريين(سريان/كلدان) وغيرهم من التكوينات والمجموعات اللغوية والثقافية التي يتكون منها الشعب السوري اليوم على أنها قوميات أو أقوام بالمعنى الإثني أو العرقي(الجنس)، وإنما هي مجموعات بشرية وفضاءات ثقافية لغوية اجتماعية تشكلت في سياقات تاريخية معينة، هي قوميات بالمعنى الثقافي والاجتماعي وليس العرقي أو الإثني، كما أنها ليست بـ(قوميات سياسية)، بمعنى لا تشكل كل من هذه المجموعات، (أمة) بذاتها. خاصة بالنسبة للعرب، حيث كان للإسلام الأثر الحاسم، في تكوينهم الثقافي والسياسي،إذ أن غالبية الشعوب التي تنضوي اليوم تحت لواء العروبة، خارج الجزيرة العربية، تنحدر من أصول غير عربية.لكن بسبب قصور الفكر السياسي العربي والنظرة الرومانسية للقومية العربية، ينظر (القوميين العرب)الى جميع الشعوب الناطقة بالعربية، على انها تؤلف (قومية)أمة عربية واحدة، وهم يطرحون مشروع (الدولة القومية) لتضم جميع هذه الشعوب، ويبرر (القوميين العرب) جميع هزائمهم السياسية والعسكرية بتجزئة الأمة العربية الى كيانات قطرية ضعيفة،وكأن العرب كانوا دولة واحدة جاء من جزئها، ويرى القوميين العرب أن تحقيق النهضة العربية مرهونة بقيام الدولة العربية الواحدة. فسوريا، بنظرهم، كيان قطري عاجز عن التقدم والتطور، لا حياة له، إلا في اندماجه في دولة قومية، مع بقية الأجزاء(الأقطار) العربية.لكن بعد نصف قرن من الاستقلال الوطني،المليء بالإخفاقات العسكرية والسياسية، وإذا بالقوميين العرب فجأة يكتشفون أن مشاريعهم القومية وخرائطهم السياسية، تصطدم بمشاريع قومية وخرائط سياسية لقوميات ومجموعات بشرية ثقافية أخرى لها امتداداتها الديمغرافية خارج حدود الدول القائمة، في المغرب العربي ومشرقه وبدءوا يخشون على وحدة هذه الكيانات العربية، وعلى أثر هذه الإخفاقات المتواصلة بدأت بعض النخب الليبرالية في سورية وفي بعض الدول العربية الأخرى تطرح التخلي عن مشروع (الدولة القومية)، والعودة الى فكرة (الدولة الوطنية) التي حققتها الكثير من الشعوب الأوربية في العصر الحديث.
وبسبب هذا القصور في (الفكر السياسي العربي)، تعامل،القوميين العرب،مع مفهوم(الهوية الوطنية) كشيء منجز بشكله النهائي واعتبروا (العروبة) هوية بديهية ووحيدة، مسلم بها، للمجتمع السوري،ودون أن يعيروا أي اهتمام أو احترام لحالة التنوع الثقافي واللغوي والديني، مع ممارسة شيء من الاستبداد القومي والسياسي والثقافي على القوميات الأخرى، مما سبب خلل عميق وشرخ كبير في الرابطة الوطنية، بين مختلف فئات المجتمع السوري.و بدلاً من أن تتحول حالة التنوع هذه الى عامل غنى وثراء وطني،أصبحت عامل تمزق للهوية السورية ومهدد لوحدتها الوطنية،حيث دفعت بالإنسان السوري ليبحث عن ذاته وهويته خارج الفضاء السوري،فالعربي السوري يشعر بأن العربي في اليمن والسعودية اقرب اليه من الآشوري أو الكردي أو الأرمني السوري، والإسلامي يشعر بأن المسلم الباكستاني أقرب اليه من المسيحي السوري. وبالمقابل الآشوري أو الكردي أو الأرمني ، يشعر كل منهما بان الآشوري والكردي والأرمني في أي بقعة من العالم أقرب اليه من جاره العربي السوري وهكذا بالنسبة للتركماني والشركسي. إن تصحيح هذا الخلل في العلاقة ومعالجة النقص الكبير في الاندماج الوطني، بين فئات المجتمع السوري وتعزيز الوحدة الوطنية، يتطلب إعادة تركيب وتعريف الهوية الثقافية والحضارية لسوريا،كي تعبر عن جميع ألوان الطيف السوري(العربي والآشوري والكردي والأرمني والتركماني والشركسي، المسلم والمسيحي). ولكي نجنب سوريا والمنطقة من مخاطر الانزلاق الى صراعات إثنية عرقية وحروب قومية ومذهبية، التي بدأ نذيرها في العراق، على الجميع أن يتخلوا عن مشاريعهم القومية، لصالح مشروع (الدولة الوطنية)،لا دولة القوميات والإثنيات والطوائف، المنغلقة على ذاتها والمتصارعة فيما بينها. دولة وطنية، تتحول الى وطن حقيقي ونهائي للجميع، نستقوي به لا نستقوي عليه،تندمج فيه القوميات والمجموعات الثقافية وتذوب فيه طوعاً لا قسراً. دولة تقوم على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وتحترم حقوق المواطنة، دون تمييز أو تفضيل على أساس الانتماء القومي أو الدين أو السياسي.
ولتبيان حجم القصور في الفكر السياسي العربي، مقارنة مع طبيعة تفكير وذهنية الشعوب التي تعشق الحرية، نورد هذه الواقعة التاريخية السياسية، عن نشأة وقيام (الولايات المتحدة الأمريكية)، التي هي اليوم أقوى وأعظم دولة في العالم: نشأت بداية من 13 ولاية، كانت مستعمرات بريطانية، مع أن معظم سكانها ينحدرون من أصول بريطانية ويتحدثون الإنكليزية، لكنهم لم ينظروا لأنفسهم على أنهم جزء من(أمة بريطانية أو انكليزية)، وإنما هذه الولايات قاومت الاستعمار البريطاني، حتى اعترفت بريطانية 1782 باستقلالها.في حين كادت أن تضيع الدولة السورية، وتزول من الخريطة السياسية للعالم، بسبب الأوهام والأحلام القومية للقوميين العرب اللذين تخلوا عنها لمصر، التي لا رابط تاريخي حضاري بينهما ، قبل الإسلام، وهم يتباكون اليوم ، على ثلاث سنوات الوحدة، تحولت خلالها سوريا، الى شبه مستعمرة مصرية.

الكاتب آشوري سوري مهتم بحقوق الأقليات
[email protected]