لست مع إسكات أي صوت حر، ولا الى العودة الى سياسات الرقابة والمنع، ولا الى اعطاء ادوار للتواقين الى الشمولية ، بل وحرّي بالعراقيين والعرب عموما الدفاع الآن عن أي صوت حر، مستقل، باحث عن الحقيقة يبث قيم الحوار والرأي والرأي الآخر ، فهذا مطلب الجميع. ولكن هل تنطبق هذه المعايير على الجزيرة المملوكة قطريا والمؤدلجة إخوانيا؟

اتفق مع الشطر الثاني من تصريح وزير اعلام لبنان ميشيل سماحة الذي وصف القرار بأنه اعتداء على حق العالم في المعرفة وعلى مهنية الجزيرة في تغطية أحداث العراق ، فهو اعتداء على مهنية الجزيرة بالتأكيد، ولكنني اختلف معه في الشطر الأول حول حق العالم في المعرفة، فهو يعرف أكثر منا جميعا-بحكم منصبه- أية معرفة تنقلها الجزيرة الى العالم. وسيأتي بالتأكيد يوم تصبح فيه بلاده ذاتها لقمة على مائدة الجزيرة عندما تتقاطع المصالح بينها وبين من يقف وراء تلك القناة مالئة الدنيا وشاغلة الناس.
ولنلقي نظرة على ما حدث بعد اعلان القرار، فقد تناقلت الاخبار بأن العاملين في مكتب الجزيرة ببغداد اعتصموا احتجاجا على قرار الحكومة العراقية المؤقتة إغلاق المكتب لمدة شهر. وشارك في الاعتصام صحفيون عراقيون وممثلون لعدد من القنوات العربية والتنظيمات السياسية والاجتماعية في العاصمة، ورفع المعتصمون لافتات تندد بما وصفوه بسياسة تكميم الأفواه التي تتبعها الحكومة. وأعربت نقابة الصحفيين العراقيين عن استغرابها للإجراء, ودعت في بيان لها إلى الكف عن سياسة الإغلاق والعقاب والعمل بحرية حقيقية. وعبر مجلس نقابة الصحفيين المصريين عن استنكاره الشديد لإغلاق مكتب قناة الجزيرة والتضييق على بعض وسائل الإعلام الأخرى، واصفا هذا الإجراء بأنه حجب للحقيقة ومنع معرفة ما يجري على الساحة العراقية من جرائم وأحداث. كما اعتبرت نقابة الصحفيين الفلسطينيين الإجراء بأنه قمعي ويشكل عدوانا سافرا على وسائل الإعلام, وقالت إنه تحد خطير لكل أشكال الحريات. وأعربت منظمة مراسلون بلا حدود عن قلقها الشديد من حالات الرقابة المتكررة في العراق, ووصفت الإغلاق بأنه انتهاك خطير لحرية الصحافة ودعت السلطات العراقية إلى الإسراع في شرح أسبابه..
كل هذا جميل، ولكن لنعد قليلا الى الوراء، عندما كان الاعتصام والاستنكار لتقييد الحريات اساطير يسمعها العراقيون في حكايات عن العالم الاخر، ولنتخيل ان هذا قد حدث في عهد صدام والبعث، ولنتخيل من يمكن له ان يعتصم ويستنكر وما سيحل به.. أليس هذا تغييرا في واقع عربي اعتبر لعقود من المسلمات؟ أما نقابات العرب فلا محل لها في هذا الجدل، فسجلها في الدفاع عن الحقوق والحريات في العراق لم يبدأ الا بعد التاسع من نيسان.
إن الديموقراطية عقد اجتماعي يتطلب اتفاق جميع الاطراف على احترام قواعدها، ولا ديموقراطية لمن يدعوالى تقويضها، والتعبير الحر أحد أهم اسسها. وفي بلدان كثيرة من العالم يعتبر اعتراض طريق شخص في الشارع بمجرد الوقوف بشكل تحريضي جرما يعاقب عليه القانون، فكيف بالرؤوس المقطوعة والدعوات الى القتل واثارة النعرات الطائفية ونعت طوائف كاملة من الشعوب بالخيانة والعمالة؟

الجزيرة قطعا لا تنقل الحقيقة من كل أوجهها المتاحة.. ولكنها تنقل ما يريد المستنكرون أن يسمعونه، فما احلى على اسماع الشعب المخدر، المهزوم ، المقموع داخليا وخارجيا من اساطير البطولات الوهمية والانتصارات الساحقة الماحقة على الصليبيين والصهاينة. كما انها ليست مستقلة ، الأمر الذي لا ينكره الا المكابرون أو الجاهلون ، بل هي قناة مسيسة بشكل كامل، يقودها تيار سياسي واضح المعالم تمثل الجزيرة بالاضافة الى شبكة ضخمة من وسائل الاعلام المطبوعة والمرئية والاثيرية رأس حربته، له سياسة واضحة المعالم اسفر عنها منذ زمن ليس بالقصير، وله أهداف معروفة ومشروع سياسي معلن منذ أن أعلن حسن البنا قبل أكثر من سبعين عاما بأن "اعادة الخلافة الاسلامية فرض عين على كل مسلم".. لقد لعبت الجزيرة على الوتر الحساس في وجدان المتلقي البسيط، تحقنه يوميا بحبوب الهلوسة الاعلامية فيعيش في الخدر اللذيذ بالانتصار على الشاشة كما حدث في العراق وفي افغانستان قبله، فتعد الجمهور لما هوآت، إن أتى..

هل من الخطأ ان يكون للاخوان المسلمين قناة تتحدث باسمهم؟ بالقطع لا..فلهم كما لغيرهم الحق في استخدام ما يريدون من وسائل لتحقيق مشروعهم السياسي، ولكن عندما يتجاوز أي طرف خط التعبير الى منطقة التحريض والتدخل المباشر في الشؤون الداخلية (كالتنسيق مع المجموعات المسلحة، وعقد الاجتماعات في منازل المراسلين، ورشوة البسطاء لالقاء نوع معين من التصريحات) فإن ذلك نشاط سياسي ربما كان مشروعا ومفهوما لابناء الوطن مهما اختلف المرء معهم، ولكنه بالتأكيد ليس مشروعا لقناة حكومية لدولة أخرى ولتيار سياسي له أهداف محددة في العراق وغير العراق.

ان العداء المزعوم لأمريكا وأسرائيل ليس محوريا في سياسة هذه القناة، والا لأنتحر مراسلوها ومذيعوها خجلا من حجم الوجود الأميركي في بلدها ألأم، ناهيك عن "مكتب التمثيل الاسرائيلي".
ان المحور هو المشروع السياسي للاخوان المسلمين وتفرعاتهم وواجهاتهم المختلفة مرورا بالتكفير والهجرة والحركات الوهابية الحديثة وعبدالله عزام وأسامة بن لادن والظواهري والزرقاوي وملثمي العراق.. مشروع حاول ان يحقق ذاته في اليمن والسودان بالتحالف مع العسكر ولم ينجح، وحاول في مصر فلم يفلح، وأشهر السيوف في الجزائر ولم يتحقق ما اراد، وانتفض في سوريا والعراق وتونس والمغرب بدرجات مختلفة فقمع من قبل الانظمة ، وانفجر في السعودية وها هويحارب الان معركة تبدوخاسرة، ويحاول اعادة اعتباره في انحاء مختلفة من الخليج من الأسفل الى الأعلى، بعد ان انقلب عليه القابعون على الكراسي.

وقد يقول قائل بأن هذه الحركات لا تمثل تيار الإخوان المتسامح في خطابه الخارجي، وأقول قد خرجوا جميعا من تحت نفس العباءة والهدف النهائي واحد..

نعم.. اغلاق مكتب الجزيرة (ولو مؤقتا) له مبررات سياسية وجيهة، ولا علاقة له بتكميم الأفواه والديموقراطية وحرية التعبير..ولو كانت مستقلة، لوقفنا جميعا دفاعا عنها، وإن اختلفنا.

خاطرة للأخوة السعوديين الباحثين عن "اسباب العنف والتطرف"

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة)

قال العلماء رحمة الله عليهم : إن هذه الآية ناسخة لجميع الآيات التي فيها الصفح والكف عن المشركين والتي فيها الكف عن قتال من لم يقاتل قالوا : فهذه آية السيف هي آية القتال ، آية الجهاد ، آية التشمير عن ساعد الجد وعن المال والنفس لقتال أعداء الله حتى يدخلوا في دين الله وحتى يتوبوا من شركهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام .. (من مقالات عبد العزيز بن باز)..


و" للعربية " و"العالم" و"المنار" حديث آخر..