في يوم اتصل بي الراحل صلاح خلف (ابو إياد) وهو لمن لا يتذكره كان عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وعضو اللجنة المركزية لحركة (فتح) التي تتحكم بشقها العرفاتي في مصير فلسطين راهنا، وكانت مكالمة أبو إياد آتية عبر الهاتف من تونس ليرد فيها على بعض التقارير انه كان متورطا في اغتيال الفنان المبدع ناجي العلي في لندن وقال لي الآتي "أنتم في جريدة الشرق الأوسط تورطتم كما غيركم بتأويل معلومات أنني وراء اغتيال ناجي العلي، أرجوك أن تدافع عني ولو بجملة بسيطة في جريدتكم أنني بريء من ذلك الفعل، فغيري متورط به وليس أنا".

وأضاف الراحل أبو إياد القول "لا مصلحة للنضال الفلسطيني الحقيقي في اغتيال مبدع مثل ناجي العلي، رغم اختلافه معنا"، وكلام أبو إياد هذا منشور في يوم أحد من بعد اغتيال ناجي، حيث عرضته على رئيس التحرير آنذاك الزميل عرفان نظام الدين وصرح بنشره، ليس دفاعا عن أبو إياد ولكن لتقرير الوقائع وأرشفتها.

ومن غريب الصدف أن أبو إياد نفسه، وهو الرجل القوي ورئيس قيادة أمن الثورة اغتيل في حادث مأساوي مع (قدري) سميح ابو كويك، ولم تعلن تفاصيل اغتيالهما بعد على الملأ الفلسطيني بعد، كيف ولماذا؟؟. وساعتها اتهمت قيادة عرفات ، الموساد الإسرائيلي، كما اتهمت ذات الموساد باغتيال عديد من القادة الشباب في النضال الفلسطيني في السبعينيات والثمانينات الفائتة من القرن الماضين ولا أحد ينكر دور جهاز الاستخبارات الإسرائيلي في اغتيال الرجل الثاني في حركة (فتح) خليل الوزير (أبو جهاد) في غارة استهدفته من دون حذر من جانب استخبارات في سلطة عرفات التي كانت غارقة في غيها في تونس البلد الثالث لسلطتها في الشتات المريح.

وما دام الشيء بالشيء يذكر، فإنني سأمر في عجالة على حادث اغتيال أصدقاء ثلاثة، كانوا في مواقع متقدمة من النضال المرن الليبرالي في عواصم غربية ثلاث، وأولهم سعيد حمامي، المفكر والأديب الذي نسيته، كل أدبيات النضال في صحف فلسطين العرفاتية الراهنة كما نسيت شهداء عملية الفردان البيروتية العام 1972 وعلى رأسهم كمال ناصر.

اغتيل حمامي في العام 1976 في لندن، حيث كان ممثلا لمنظمة التحرير، وبكيناه جميعا، ليس كمناضل وحسب بل أخا حميما وصديق عزيزا، وكنا لا نتعامل معه كرفيق نضال، بل بتلك الصفات الإنسانية التي لم يتميز بها أحد لا من قبل ولا من بعد في مسيرة النضال الفلسطيني، وهذا باعتراف كثيرين، وإن نسوا سعيد حمامي الآن كما سينسون إدوارد سعيد بعد اشهر، أن لم يكونوا قد نسوه سلفا، رغم كل التراث الثقافي الكبير الذي تركه من قبل أعوام قبل الداء الكارثي الذي أودى بحياته.

وإذ كنت أمارس مهماتي الصحافية مراسلا لجريدة (الرأي) الأردنية، في مهمة لتغطية أخبار أول لقاء برلماني عربي أوروبي في دوقية لوكسمبورغ، العام 1978 ، هنالك عرفني الراحل المعتدل الفلسطيني المفكر خالد الحسن حيث كان رئيس وفد فلسطين المراقب للاجتماع البرلماني على اثنين من الشباب الفلسطيني، هما نعيم خضر وكان موفد فلسطين في العاصمة البلجيكية بروكسل وعز الدين القلق وكان ممثل المنظمة في باريس.

وتشاء الصدف أنني انتقلت إلى بروكسل، من لوكسمبورغ بعد انتهاء الاجتماع البرلماني الذي قدم فيه وفد برلماني بريطاني أول وثيقة من اجل إحلال السلام في الشرق الوسط وسرب تفاصيلها غلي الراحل خالد الحسن لنشرها في جريدة (الرأي) الأردنية.

وفي بروكسل التقيت ثانية في فندق ما، مع نعيم خضر وعز الدين القلق، وكانت تلك الأيام، بدايات التفاهم الأردني الفلسطيني عبر كل المعتدلين في العمل الفلسطيني، ومن بينهم خضر والقلق. وفي جلسة مع الإثنين خضر والقلق ، على بركة السباحة في الفندق إياه، بادرني الراحل نعيم خضر بالقول ، ودهشت من جانبي لمبادرته في الكلام، حيث قال الآتي "اسمع نصر المجالي، لي رجاء عندك؟"، أجبته تفضل "نحن إخوة وأحبة وأصدقاء"، قال "رجائي هو أن تساعد أسرتي في أية محاولة لدفني في عمان أو فلسطين إن تم اغتيالي في وقت قريب، فأنا أرى نفسي أنني الهدف الآتي من بعد سعيد حمامي".

قلت له اطمئن، لن تدفن إلا في عمان أو فلسطين إن قتلت، والتفت على عزالدين القلق، فقلت وماذا بشأنك يادكتور فهل أنت جاهز للاغتيال مثل نعيم، ضحك عز الدين، وقال كلنا جاهزون، ولكن "نأمل أن لا نكون ضحايا داخلنا، فالموساد يطاردنا، هذه حقيقة، ولكنني أخشى على نفسي من نفسي؟؟". وضحكنا، ومرت المهمة وعدت إلى عمان، وبعد أسبوعين فقط جاء الخبر الصاعق باغتيال نعيم خضر ؟ وفعلا جاء جثمانه على عمان ودفن في مقبرة سحاب تنفيذا لوصيته.

بعد عام من ذلك الحدث المأسوي في اغتيال نعيم خضر، كنت مبتعثا في مهمة دراسية على لندن في العام 1978 ،وفي من بعد اليوم الدراسي كنت خارجا من الكلية بعد انتهاء المحاضرات، ذهبت على مكتبتي المفضلة في شارع بيكاديللي الشهير في العاصمة لندن، وهناك واجهت فاجعة أخرى. وهي تمثلت بأنني رأيت صورة عز الدين القلق تحتل الصفحة الأولى كاملة من الصحيفة التي تصدر بعد الظهر (ايفنينغ ستاندر) وكان اسمها آنذاك (إيفنينغ نيوز)، وكان مانشيتها العريض فوق الصورة يقول PLO MAN ASSASSENATED ، وحاولت التدقيق في الخبر والصورة، فاقتنعت أن عز الدين القلق أيضا اغتيل في باريس، حيث كان في كتب المنظمة حين وجهت إليه رصاصات لم يعرف مصدرها بعد، ولكن المنظمة آنذاك قالت أن الموساد الإسرائيلي وراء العمل الإرهابي الجبان.

ومع ذهاب هؤلاء من الصفوة الفلسطينية عبر اغتيالات اتهم بها جهاز الموساد الإسرائيلي، الذي كان له الحق في مطاردة كل ناشط فلسطيني في الخارج سواء في صفته الشخصية أو مهماته الرسمية فلسطينيا في عواصم غربية، فإن هؤلاء الشهداء لا يحتفل بهم في اللحظة الراهنة، على صعيد الاحتفالات الوطنية الفلسطينية، حالهم حال كمال ناصر وأبو يوسف النجار وغسان كنفاني الذين صاروا نسيا منسيا في التاريخ الفلسطيني، وغيرهم الكثير من الرجالات الذين ضحوا بأرواحهم وعلى رأسهم على سبيل المثال لا الحصر أبو جهاد وأبو إياد وسميح كويك واللواء سعد صايل، وغيرهم الكثير من المناضلين الحقيقيين سواء في الأردن أو تونس أو لبنان أو داخل الأرض المحتلة؟؟ هذا فضلا عن المناضلين الذين اغتيلوا معنويا ولا يزالون على قيد الحياة يترجون "غودو الجبار" ليس من ديكتاتورية جنرالات إسرائيل وقمعهم الدموي للشعب الفلسطيني، بل إنصافهم بتاريخهم النضالي الذي استباحته سلطة عرفات المحاصرة، فيما يعتقد أن العدو الإسرائيلي يكن لهم جميعا احتراما كبيرا لنهم كانوا كبار. .

وأخيرا، الدم يستسقي الدم، وهو درس لسلطة عرفات، فيما تتهم به من اغتيالات لشباب وقيادات الثورة، من أجل دولة لن تقوم، "ما دامت حالتهم هذي الحالة". والله الموفق، وهو الهادي ونعم الرشيد والمرشد إلى حق سواء.