ليس هناك أي عراقي ينكر دور الدكتور أحمد الجلبي، رئيس المؤتمر الوطني العراقي، في إسقاط النظام البعثي الصدامي وخلاص الشعب العراقي من شروره. ولا أحداً ينكر ما تعرض له الدكتور الجلبي وأهله وأصدقائه وأنصاره من حملات تسقيطية مغرضة من أعداء العراق وحماة النظام الساقط من القومجيية وأصحاب الكوبونات النفطية من سراق أموال الشعب العراقي. والسؤال هو: لماذا هذه الاتهامات ضد الجلبي ومن يقف وراءها وما هي الغاية منها؟ ومن المستفيد والمتضرر منها؟

الحملة ضد الجلبي ليست جديدة وليست بنت الساعة، بل بدأت في نهاية الثمانينات عندما سطت المخابرات العسكرية الأردنية وبإيعاز من أخطبوط المخابرات الصدامية على مصرف البتراء في عمان وصادرته والذي أسسه الدكتور الجلبي وحقق نجاحاً منقطع النظير، وذلك لأنه رفض استخدام بنكه لتقديم خدمات مصرفية في تمويل حروب صدام حسين. وما تلا ذلك من مساعي محمومة من قبل الحكومة الأردنية وأتباع صدام لتشويه سمعة الجلبي ومهزلة محاكمته وإدانته غيابياً من قبل محكمة عسكرية باتت معروفة.

فقد أطلق صدام أيدي الأردنيين في نهب الثروات العراقية، لا سيما إمداد الأردن بالنفط مجاناً والذي يقدر بما قيمته 300 مليون دولار سنوياًً إضافة إلى بناء آلاف الأميال من الطرق وعشرات المشاريع العمرانية الأخرى. وبسقوط النظام وصعود دور الجلبي في العهد الجديد، عرف الأردنيون أن عصرهم الذهبي في نهب العراقيين قد ولىّ ولذلك واصلوا حملتهم ضده بما فيه محاولة إقناع الإدارة الأمريكية للتخلص منه بشتى الطرق.

وتصاعدت الحملة ضد الدكتور الجلبي بعد انخراطه في العمل السياسي المعارض لصدام ونظامه، في أوائل التسعينات حيث نجح مع غيره من المناضلين العراقيين في تعبئة المعارضة العراقية في الداخل والخارج وتأسيس المؤتمر الوطني العراقي عام 1992. ونشاطات هذا المؤتمر ودوره معروف في كسب أمريكا وبريطانيا والرأي العام العالمي لصالح الشعب العراقي إلى أن تكللت الجهود بإسقاط النظام الفاشي. لذلك لا غرابة أن يشكل أحمد الجلبي شوكة في خاصرة أيتام النظام الساقط وأتباعه من القومجية، سواء في داخل العراق أو خارجه. وهؤلاء، بما لهم من خبرة تاريخية في عمليات التسقيط السياسي واستحواذهم على أموال وفيرة سرقوها من قوت الشعب وتمتعهم بإمكانيات إعلامية ونفوذ وقدرتهم على التلون والتسلل في مؤسسات العراق الجديد..، لذا بذلوا الجهود في استثمار مواقعهم وامكانيتاهم للانتقام من عدوهم الأول، الجلبي.

كذلك خلق الجلبي لنفسه أعداء جدد كثيرين عندما أصر وبدوافع وطنية، على انتزاع حقوق العراقيين من الأموال العراقية المنهوبة من خلال برنامج الأمم المتحدة (النفط مقابل الغذاء) وتقدر هذه الأموال بعشرات المليارات ويعتقد أن موظفين كبار في الأمم المتحدة أو من أقاربهم مثل ابن كوفي عنان وآخرين من خارج الأمم المتحدة، متورطين في عملية النهب. ولذلك تمت مصادرة جميع الوثائق والأقراص المدمجة التي تخص هذه القضية وغيرها إثناء الهجوم على بيت الجلبي في بغداد قبل أشهر.

كما وقاد الدكتور أحمد الجلبي (مشروع اجتثاث البعث)، الذي أثار ضغينة القومجية العرب، حيث عملوا على تشويه المشروع وصوروه عن قصد أنه يعني إبادة البعثيين البالغ عددهم مليوني عراقي تقريباً، والحقيقة ليست كذلك، إذ ساعدت (لجنة اجتثاث البعث) برئاسة الجلبي عشرات الألوف من البعثيين وأعادتهم إلى وظائفهم ودمجهم في المجتمع. فالمقصود بالاجتثاث هو القضاء على الأفكار الشوفينية العنصرية لحزب البعث وإعادة تثقيف المغرر بهم من البعثيين وتأهيلهم إلى مواطنين صالحين لخدمة شعبهم. وهذا الذي يجري الآن.

لهذه الأسباب صار الدكتور أحمد الجلبي مستهدفاً من قبل عدة جهات تنوي تصفيته وإزاحته عن الطريق. (قبل الإنتهاء من كتابة هذه المقالة، وصلتني أنباء أن السلطات العراقية بدأت بإغلاق مكاتب اجتثاث البعث، بدأتها في الموصل وربما تشمل المدن العراقية الأخرى).

الاتهامات

لقد تعددت الاتهامات الموجهة ضد الجلبي، ومنها أنه مرَّر شفرات استخباراتية من البنتاغون إلى إيران وأنه خدع الإدارة الأمريكية عن أسلحة الدمار الشامل فورطها في حرب غير مبررة. أما التهمة الأخيرة التي طالب القاضي بإلقاء القبض عليه فهي تهمة تزوير دنانير عراقية!!

التهمة الأولى بائسة ولن يصدقها أي عاقل. فكيف لشخص من خارج الإستخبارات الأمريكية العملاقة أن يحصل على تلك الشفرة؟ أما التهمة الثانية، فهي سخيفة ولا تصمد أمام أبسط مناقشة. فهل يعقل أن مؤسسة إستخباراتية بحجم ال سي آي أيه، ميزانيتها تقدر بأربعين مليار دولار سنوياً، ولها القدرة على تبديل حكومات في العالم، تذهب ضحية معلومات خاطئة من شخص عراقي وتصدقه دون تدقيق على كل ما يقول؟ أين بقية أجهزتها المخابراتية وأين عمليات التدقيق في صحة المعلومات ؟ فالمبدأ الإستخباراتي الذي لا يمكن التهاون فيه هو التدقيق عن صحة المعلومة من المصادر الأخرى وعدم الإعتماد على مصدر واحد. وأخيراً، صرح الرئيس بوش قبل أيام أنه كان يشن حربه ضد صدام على أي حال، حتى ولو كانت عنده المعلومات بنسختها الحالية. وبذلك فشن الحرب على النظام لم يكن بسبب المعلومات "الخاطئة" التي "ضلل" بها الجلبي الإدارة الأمريكية كما يزعمون. ومن هنا نعرف أن الحملة الأمريكية ضد الجلبي هي جزء من الصراع بين مختلف الأجنحة في الإدارة ذاتها.

أما التهمة الأخيرة حول تزوير العملة، فهي حقاً مثيرة للضحك. فالدكتور الجلبي هو رئيس اللجنة في تدقيق المالية. وقامت هذه اللجنة بجمع الدنانير المزورة، ونظراً لموقعه كمسؤول اللجنة، بقيت عنده ثلاثة آلاف دينار عراقي أي ما يعادل (دولارين) جميعها مختومة بالختم الأحمر من البنك المركزي أنها مزورة وعديمة القيمة وغير قابلة للتداول. وهو المبلغ الذي تم العثور عليه عند تفتيش بيت الجلبي. كذلك صرح محافظ البنك المركزي الدكتور سنان الشبيبي لأسوشيتد برس أن "البنك لم يقدم أي شكوى ضد أي فرد فيما يخص تزوير العملة ولم يطلب مقاضاة أحد". كذلك سمعنا أن الدكتور الجلبي استلم تطمينات من الرئيس الياور ورئيس الوزراء أياد علاوي على عدم توقيفه عند وصوله إلى بغداد وكل منهم أنكر علمه بهذه الإتهامات.

من هو القاضي زهير المالكي؟

تفيد الأخبار أنه تخرج من كلية الحقوق حديثاُ، وخبرته العملية في القضاء محدودة وبعد سقوط النظام تم تعيًنه مترجماً في مكتب السفير بول بريمر رئيس الإدارة المدنية لقوات التحالف في العراق، ومن ثم عينه السيد بريمر قاضياً في محكمة جنائية في بغداد. وقد استُخدم المالكي لإصدار أوامر بتفتيش بيت الجلبي ومصادرة الكومبيوترات والوثائق، كما ذكرنا أعلاه. كما أصدر سابقاً أوامر بإلقاء القبض على سياسيين بارزين لهم دورهم في محاربة النظام البائد مثل السيد عبدالكريم المحمداوي.

وقد " كشفت مصادر عراقية موثق بها قريبة من مكتب وزير العدل العراقي الدكتور مالك دوهان الحسن ان مذكرة رفعها وزير العدل العراقي الى مجلس الوزراء العراقي يطالب فيها اجهزة الدولة كافة باحترام القضاء العراقي وطرد القاضي زهير المالكي من منصبه" وهدد بالإستقالة في حالة عدم الاستجابة لطلبه.

إذن، ما الغاية من هذه التهم؟

الغاية واضحة وهي حملة لها دوافع سياسية، القصد منها تشويه سمعة الجلبي وإنهائه سياسياً كقائد سياسي يتمتع بذكاء وإمكانيات جيدة ومنعه من أي دور سياسي في مستقبل العراق. وبذلك يسهل على أعداء الشعب العراقي مواصلة نهب أموال العراقيين كما كانوا في عهد صدام حسين. والذين فبركوا هذه التهم يعلمون جيداً أنها كاذبة ومن السهولة دحضها، ولكن مجرد إطلاقها على الخصم يكفي لتشويه سمعته. "التهمة تفيد وإن كانت باطلة" كما قال لينين.

أما التهمة ضد القاضي سالم الجلبي بضلوعه بمقتل مدير عام في وزارة المالية، فلها أبعاد خطيرة، وأهمها تشويه سمعته والتشكيك بمصداقيته كقاض ورجل قانون بارز يترأس المحكمة الخاصة لمحاكمة صدام حسين وأعوانه من المجرمين البعثيين الكبار. فقد بدأت الحملة ضده من قبل الفضائيات العربية منذ مدة على أن له علاقة بإسرائيل ومصالح مع شركات إسرائيلية.. الخ التهمة التي أدمن عليها العربان في محاربة كل من يختلف معهم. وتطورت الإتهامات إلى أن تكللت بتوجيه تهمة ضلوعه في مقتل مدير عام في وزارة المالية. فهناك العشرات من العراقيين اغتيلوا على أدي المجرمين البعثيين، فهل هذا يعني أن بإمكان القاضي زهير المالكي توجيه هكذا تهمة لكل مسؤول عراقي حسب الطلب والمزاج وكيفما يريد؟ أعتقد أن القاضي زهير المالكي قد تجاوز صلاحياته وأساء منصبه وهذا هو الإرهاب بعينه. فمن الواضح إن التهمة ضد السيد سالم الجلبي هي بدوافع سياسية الغرض منها تسقيطه وتنحيته عن محاكمة صدام وأعوانه وربما حتى تصفيته جسدياً. وتحقيق هذا الهدف يعد نصراً لصدام حسين، المتهم الأول وحزب البعث الذي يحلم بالعودة للحكم من جديد.

كذلك يجب تحذير السياسيين العراقيين من منافسي الجلبي على قيادة العراق أن لا يفرحوا ويشمتوا بالجلبي، فاليوم ضد الجلبي وغداً ضدهم والفلك دوار...!! لذا عليهم أن يقفوا صفاً واحداً و يشدوا من أزر بعضهم البعض ويدينوا الممارسات الخاطئة في توزيع الاهامات الاعتباطية على الناس بشكل عشوائي بغية تصفية الخصوم السياسيين. لأن القصد منها ليس الجلبي وحده بل جميع السياسيين العراقيين الحريصين على الوطنية العراقية وعلى مصلحة الشعب العراقي.