أن تتصرف ميليشيا وكأنها حكومة فتحظر التجول في بغداد، و أن يعلن موظف صغير في محافظة استقلال كل جنوب العراق و أن يؤيده مسؤولون بحجم نائب محافظ أو محافظ، لهو أمر جلل بالتأكيد، فالمسألة لم تعد مقاومة لاحتلال أو احتى اختلاف في وجهات النظر، و إنما مشروع سياسي طائفي يجري فرضه على الأرض في ظل تخلخل مفهوم الوطن و الانتماء..

لا توجد ديموقراطية أو ديكتاتورية أو حتى جمهورية موز في العالم تسمح بأن تفرض عليها ميليشيا مسلحة مهما كانت المسميات قوانينها، فالسابقة تتبعها ملاحق، فاليوم الجنوب و غدا الوسط و الغرب و بعده الشمال. فإن سمحت للماء بالتسرب بين قدميك مرة، فسيستمر في التسرب حتى يغرقك..

لقد اثبتت العديد من الفعاليات السياسية العراقية التي قدمت نفسها سابقا كمعارضة لنظام البعث البائد بأن الانتهازية السياسية و الاخلاقية جزء أساسي من التكوين النفسي للسياسي العراقي فأخذت تتحدث عن " حوار "، و هي تعلم علم اليقين بأن الحوار في هذه الحالة بالتحديد يعني اعطاء الشرعية لحمل السلاح في وجه السلطة، فلا هي تملك الشجاعة في اعلان عدم اعترافها بالسلطة القائمة في ظل الطمع بالمكاسب من جهة و الخوف من العصا الاميركية من جهة أخرى، و لا هي تملك الشجاعة للوقوف في وجه من رفع السلاح لحسابات مستقبلية نفعية في حال اختلاف الموازين.

من يرى مظاهرات اتباع مقتدى الصدر في بغداد قبل أشهر منددين بالفدرالية و متهمين الاكراد بنوايا الانفصال عن "العراق الواحد" ، لا يصدق اعلانهم اليوم "استقلال الجنوب"، على طريقة فتية صدام حسين "الذين آمنوا بربهم" و شكلوا الحكومة الكويتية المؤقتة ثم طلبوا الاندماج مع العراق في تلك المسرحية سيئة الصيت قبل أكثر من عقد من الزمان، الا ان التسميات اختلفت، فالاصل اليوم هو "جمهوري اسلامي ايران" و الفرع هو اقليم جنوبي عيراق"..

قد يسخر العراقيون اليوم من مشائخ معممين أغرار بأسماء غريبة مثل مثال و رائد و أوس و قيس ، و لكنهم قد يبكون غدا عند اكتشافهم ما فعل هؤلاء على الارض في مدن جنوب الوطن و اقضيته و قراه..

عندما يتفوق المذهبي و الديني و الطائفي على الوطني بهذه السهولة، فإن هنالك خلل كبير في بناء الشخصية الوطنية و الاجتماعية، و عندما لا يغير ازالة النظام الدكتاتوري هذه الانحرافات بل يوقظها فإن هنالك خلل أكبر متعلق بقيم الوطن و المواطنة.. فالواقع لا يشير الى نضال ضد الاحتلال كما يحلو للبعض أن يصوره، و إنما يشير الى دم عراقي يراق يوميا لتحقيق مشاريع اقليمية و طائفية و ظلامية و فاشية.

لا أزال، كما كتبت بألم مرة، أخال الدكتاتور يضحك في سره من زنزانته المعزولة.. فلا ينفك عراقيون يوميا عن محاولة اثبات نظريته بأن بقاءه كان ضمانا لوحدة الوطن..

مبروك لسياسيي العراق القدامى و الجدد جمهورية الجنوب الاسلامية، و جمهورية الفلوجة البعثية-الوهابية-الزرقاوية، و جمهورية بغداد الانتقالية، و جمهورية كردستان الشمالية، و مبروك لهم اعتقال احمد الجلبي و اعادة البعث الى السلطة.