الوضع الناشب اليوم في العراق شبيه بالوضع الروسي الذي تحدث عنه الاديب والمفكر الكبير الكسندر سولجينيتسن حينما عاد من منفاه لموسكو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بعامين، واعلن امام الجماهير التي احتشدت لاستقباله عقب ان تجول في انحاء روسيا: " لقد كنت اعرف ان تداعيات كثيرة ستنجم عن انهيار النظام الشيوعي، لكني لم اتوقع بانها ستكون بهذه الفداحة، انه الانهيار.
ان القوى العراقية المهزومة التي لم تفارقها احلام عودة هيكل النظام المقبور، او شبيه لصورته، والصغيرة التي ليس لها حجم سياسي نافذ، القوى التي شعرت بانها ستكون الخاسرة في حالة التطور السلمي والطبيعي للوضع في العراق في الفترة القادمة، هي التي تبادر بتفجيره بين فينة واخرى. ان تلك القوى الممثلة اليوم بتيار الصدر والمسميات الاخرى في الفلوجة والموصل، التي تختفى وراء الاقنعة دون ان نتعرف على برامجها واغراضها، تدرك جيدا انها كالخفافيش لايمكن ان تحلق الا في الظلمة، في ظلمة الجهل، والامية والتخلف، ظلمة المفاهيم البالية التي لاتخدم مصلحة الشعب العراقي والامه التي هو جزء منها. ان الجامع بين تلك القوى تفويت الفرصة على حدوث انعطاف في التاريخ والوعي العراقي، وبناء دولة ومجتمع على اسس انسانية. ان تلك القوى ظلت متمسكة بواحد من اخطر موروثات المجتمع العراقي، المتمثل بحل الخلافات السياسية والاجتماعية بطريق العنف. وكانت الامال معقوده على انه ومع انهيار النظام الدكتاتوري، فان التجربة التاريخية المريرة قد انضجت الوعي الجمعي العراقي، لكي بفترق للابد مع العنف كوسيلة لتحقيق الاهداف السياسية.
واعتمدت تلك القوى في تحقيق طموحاتها واغراضها السياسية في الاغلب على شرائح المهمشين اجتماعيا، الذين وجدوا انفسهم على قارعة طريق الاحداث العاصفة دون ان بكسبوا منها شيئا سريعا، فراحوا لقمة سائغة للشعارات الطنانة والوعود العسلية وخاصة بعد استلموا الار بي جي والرشاشات والبنادق، ودست دولارات في جيوبيهم ، وركبهم شعور استلام السلطة دون منازع. ان هذه الشرائح على مسار التاريخ وفي كل مكان، كانت دائما حطب الثورات والانعطافات الكبرى، والفدية التي يتبرع بها القادة في سبيل تحقيق اغراضهم. فالمغامرون تاريخيا يستغلون وضعها وخيبة الامال التي تعاني منها، ويجرونها للمعارك الخاسرة مثل المعارك الدائرة اليوم في النجف الاشرف والبصرة والعمارة والكوت وغيرها من تلك المدن التي ربما لاتنطبق عليه بالكامل تسمية المدن، وكان على الذين يزعمون بانهم قيادات تحرير من الاحتلال العمل على اعادة الحياة لهذه المدن لا المضي بتدميرها وتحويلها الى انقاض. انها تتخذ من تلك الشرائح وسيلة في الصراع السياسي الذي تخوضه. ان ابسط قواعد فنون القتال، ترشد الى تجنب المواجهة المباشرة مع الخصم الاكثر قوة وعدة، فما بالك بالالة العسكرية الامريكية، ومن الابعاد الخطرة السياسية لخروج قوات التحالف من العراق. اضافة الى بذاك فان المليشات التي سيطرت خلال الفترة الماضية على شوارع المدن الجنوبية، تصرفت بهوس وانفلات دون وازع، واشاعت قانون الغاب، فكمت الافواه والعقول، ومنعت حتىممارسة الفرح، على انه خيطئة يحرمها الاسلام، وفق قراءتهم. ان الدين، الذين يحمل في تعاليمه اسمى القيم، مازال يستخدم ورقة رابحة لكل كذاب ومغامر وخطيب ماكر.
ان خطاب تلك القوى يقوم اساسا على الشعار السياسي المبسط الذي يغزو العقول الرافضة للتحليل، وادراك التعقيد وتعددية مسار التطور المحلي والوضع الدولي. وليس من قبيل الصدفة ان تتخذ المراجع العلمية الاخرى في النجف اضافة الى العديد من الاحزاب والشخصيات التي لايمكن الطعن في وطنيتها الاشرف مواقف مغايرة لموقف الصدر وجماعته، فثمة ادراك بان المرحلة لها متطلبات اخرى. ان هناك خيار مازال متاحة امام هذه القيادة يتمثل يالعزوف عن مبدأ التحاور مع الاخر واليد ممدودة على زناد البندقية والتخلي عن نزعة العنف وفرض الارادة على الاخر، وان تسارع للاندماج بالعملية السياسة وتطويرها، والاجتهاد في اطارها لكسب شعبية وانصار،للوصول الى مؤسسات السلطة بشكل شرعي. واذا كان الهدف و مقاومة الاحتلال ( وهناك شكوك بهذا) فان هناك اساليب ناجعة وفعالة، غير المواجهة العسكرية من موقف ضعيف.