"كنتُ انتظر دينا خِلْتُهُ خلاصا للناس والأرض بملائكة ما زالوا يرتادون الأرض بوحيٍّ ضاع منا نبيه، ولكني وعيتُ بعد حين أن النبي ضاعت ملائكته"

***

"كل الحروف مريضة حتى الألف أُقيمُها فتنحرف"(النِفري)

"إن نقده للأخلاق الفلسفية والدينية كان لأخذه أمرين عليها..الأول؛أنها تحالفت مع الكذب، والثاني أنها لا تهيأ الإنسان لان يكون شخصية.. وهو في هذا لا يقول الا ما كان يجب ان يقال منذ زمن بعيد."(ألبرت اشفيتسر في نيتشه)


إذا اردت ان تكتب لاهوتا بحق، فعليك ان تؤنسن حتى الله.!!..لا، اياك ان تجعله إنسانا.. فقط اجعله للانسان.
صحيح انه لم يجمع الجماعات بتلك الشدة غير الدين، ولكن ايضا لم يفرق الشعوب بتلك الشدة غير الدين.
ان يجلب لك الدين الما، غيره ان يجلب لك شرا. فبين الم الرمال في صحراء مكة وبين شر الصخور في تورا بورا..مخالب كلمة وشهقة ريح.
ان تتهم القدر الماً،غير ان تتهم الالم شرا.
....وان ترى الحياة الماً ضدنا، غيره ان ترى الالم حياةً لنا.
ان يحسبوا سخطك على عدل الحياة كفرا، غيره ان يسخطوا من فكرك في الحياة.
اذا اردت ان تكون نبيلا مع الحقيقة، فعليك ان تشق اثوابها، وتفضح صدرها وكل مافيها،بل ان تقاربها على مراى من المارة...دون ذلك لن تولد القافلة.

***

في انطولوجية اللاهوت؛ الشر وإعادة تسمية.

(من العجب ؛ كيف للقدر ان يسمح بهكذا اشياء في العالم).. هذه الكلمة لطالما رددها الانسان داخليا مذ كان، لحظة ارتداد الحياة معه وجماعته على خلاف وجهة الطبيعة.. كلمة لطالما مخرت عباب التاريخ الفلسفي واللاهوتي، لتجد نفسها ازمة مع الذات المؤمنة قبل غيرها وبكافة مستوياتها المعرفية، جاهلة كانت او عالمة.
كونها ازمة حياة على مستوى الشعور والمعاناة، او الحاجة والعاطفة في العلاقة مع الله..
ازمة اكدت قلقا وجوديا مع الانسان المؤمن، بعد ان تاهت بين يديه فلسفة الوجود ولغزها تحت خيمة الايمان.
داعي ذلك؛ ما يراه من تضاد يصول امامه بين رحمة السماء من جهة ايمانه وبين قساوة الارض من جهة واقعه.. يفهمها بشكل اخر ينزو على ايمانه بشدة؛ انه تضاد بين عدالة الخالق وظلم الخليقة؛ ضلم الحياة في اقدارها،كيف ولمن تعطي وممن تاخذ،كيف تجري دروبها، الخطاء والغبن في كل تصرفات ذلك القدر طالما انه يجري تحت قبضة إلهه..اقلها حقوقه لدى سلطة القدر، اذ الحياة كثيرا ما( تسلبك محاسن نفسك، و تمنحك محاسن غيرك) كما وجد الامام علي ذلك... أفي ذلك عدل؟

حيرة الانسان واندهاشه من دور العدالة الالهية امام هذا الغبن، وبالتالي امام الشر في الحياة، لانه ما ان يذرع المكان والزمان الا وقاس ذلك بالشر، شر يتصل باخر الى نهاية الارض ومنذ بداية التاريخ.
كيف للقدر ان يسمح بذلك ؟؟؟.. هذه هي المشكلة الميتافيزيقية الكبرى التي شكلت لدى الانسان قلقا واضطرابا عنيفا لم تنجح معها شتى النزعات والاتجاهات الفلسفية واللاهوتية في تهدئته.
وعلى طريق هذه الاشكالية مع القدر شعر الانسان انه الاحجية الوحيدة الذي تتحدى وعيه.

لا باس ؛ اللاهوت كلما كان اكثر جراة في حق الناسوت، كلما كان الانسان اكثر حقا / اجدر في الوهيته.
هكذا بدا ابراهيم..
اذ ما اجدى معه عقله شيئا، ولا أي منطق ما ورائي صرف، لبدئ صيرورته في النبوة، مع ان المنطق كان صارما فيما دار في حديث الشمس والقمر بمنهج خلف التكوين، سيما بتداول ذلك مع السماء مباشرة ( وحيا كان او باطنيا ) لارباك نسبه التاريخي.
عموما لم يجدِ ذلك لديه، ولم يصل به الى ايمان النبوه في كمالها، لذا طالب باكثر في الحاحه؛ (أرني...)
.. كان يريد للمجال الوجداني ان ياخذ حظه في الشعور،كونه يعي ان الاساس في حركة الانسان ( شعور + شوق = ارادة ).. والا لن يستطيع ابراهيم ان يكون قدر مهام النبوه.. كان يعي ان الوجدان هو منطقة الوجود الحقيقي للانسان، كحياة وصيروره وغاية.
بقي ملحا... او لم تومن ؛( بلى، ولكن ليطمئن قلبي). فالاخير لا عقله من سيحمل ارادته وعشقه وهمه.
الاقتناع المعرفي غيره الاعتناق القلبي.. هنا مدار الحاح ابراهيم، رغم كل ريع النبوه، ( ربي ارني كيف تحيي الموتى ).. رغبة في تماس قلبي.
أي ان صيرورة ابراهيم باتجاه النبوه كانت لصيرورة القلب في جهة استقراره الشعوري مع الاشياء وليس مع قبوله العقلي.
اذن هناك جدل قراني للانبياء في طريق اللاهوت يبتغي وجها وجدانيا شعوريا لا يحتكم الى أي من اسئلة الفلاسفة ولا الى آلياتهم.. وهم عموما لم يكونوا فلاسفة بالمعنى التاريخ ابدا ولم يحملوا لغتهم ولامنهجهم..
لذا من العجب كيف كان الفلاسفة بهذا النسق مع انهم تاسسوا في زمن قريب من النبوات.. وهي ازمان كان القلب اكثر وجودا فيها من العقل..بالتاكيد هنالك بنية تاريخية، ابرز تاريخيتها،ماتشيه الضاهرة اليونانية في شكل الحياة الارستقراطية للفلاسفة، بعد ان توفرت كل سبل الحياة بين ايديهم، فلم تعد هناك أي معاناة لتكون الفلسفة اشبه بهواية ونوع من التسلية للذات.بعيدا عن الحياة الحقيقية في الشوارع والازقة والمزارع.. وصراع النفس وسط الالام التي تجر بها تلك الازقة عموما في الجوع والحرية والحب والهزيمة والتشرد..وغيرها من مفاهيم الحياة التي دون لايمكن ان تسمى حياة ابدا. ثم دخل على ذلك البعد المدرسي ومحنة الشخصنة،بل وشخصنة الاليات، لتمتد في تجريديتها الى يومنا هذا، وفي الشرق خصوصا مع المؤسسة الدينية وبعضا من المؤسسة التعليمية.
اذن هناك في علاقة الانسان بالوجود منطق؛ تسميته الواقعية هي منطق (الارتباط) بالاشياء، وليس منطق معرفة الاشياء.اذ ارتباط الانسان بالاشياء هي مسالة وجودية نفسية قبل ان تكون عقلية.
فلم تلتقي العقول كثيرا مع عبقرياتها في التاريخ الا على الخلاف، حتى مع قربها الجغرافي. بينما كثيرا ما كان ذلك مع القلوب فيما يحزنها وما يسرها في الظلم والعدل، البخل والكرم، الغدر والوفاء..في الحسن والقبح عموما ضمن منظومة القيم. بل ان اللغات كل على حده وضعت لهذه السجايا كلماتها بتوافق تام في تصنيف تلك السجايا بين الحسن والقبح.الا في الاعراف الشاذة. كاستثناء يؤكد القاعدة.
بينما العقل لم يجد كلماته عينها في اللغات. لذا كان لابد من فتح مفهوم الاصطلاح والتبيئة والتعريب ومعادله.

هنا الذات تبحث في اللاهوت عن حاجة وجودية تمس الحياة تتعلق بتحديد علاقة الله بالانسان امام فوضى الرماد في الحياة..فليس ثمة انسان لم تقلقه مشكلة الشر..لان حياته قنطرة معاناة ليس الا سيما المؤمن بالزاماته القيمية التي تفضي كيفما كان بالمعاناة. ليس الامر هنا بالنسبة للانسان المؤمن اشكالا معرفيا يرهق ذهنه بقدر ماهو اشكال وجودي يؤرق حياته كشعور وعاطفة، كطريق وموقف.
تسال الذات كيف ينساب الغيب في الحياة..ماهي واقعية ايمانها.
مايظهر للذات هو ان؛ القدر لايملك أي بعد تصحيحي لاحداثه، لايضع الاشياء موضعها.يترك للغني ان يجول في جوع الفقير والظالم في حسرة المظلوم.الاشلاء الدمار. لاانسجام في الحياة. التراكم هو الصفة الابرز في خيوطها.
تذكرت كلمة علي؛ اضرب بطرفك حيث شئت فهل تجد الا فقيرا يكابد فقرا او غنيا بدل نعمة الله كفرا..
قربي اوراق تحمل كلمة انجيلية، اعتقدها لصاحب المزمور تقول؛ (ثم رجعت ورايت كل المضالم، التي تجري تحت الشمس،فهي ذا الدموع للمظلومين ولامعزي لهم..فغبطت ان الاموات الذين ماتوا منذ زمن.)
خرجب الى الشارع حدقت في كل زواياه واطراف الحياة التي تشي بها قارعته ؛ الناس تحت الشمس في قلب الظلام. لم اجد كلمة للشمس اينما حدقت.
كيف للقدر ان يسمح بذلك ؛
...يكدح صاحبي 14 عاما من اجل المبادئ في وطنه، بغربة يعرى ويجوع دون أم او حبيبة تركها وراءه او شارع يؤنس همه، بكل مايخلفه المهاجر في ارضه.. رغم هذا يغدو بعد عودته منبوذا دون وطن او سكن او حياة.. لم تمنحه المبادئ شيئا بعد ان منحها كل شيء.
..لا يجد ولو شبرا لاحلامه....اذن لمن هذا العراق؟...ينادي؛ كيف للقدر ان يسمح بهذا.
يرجع من جديد الى منفاه طوعا ليكتب؛ (مازال الوقت منفى).
واخر يعود بمداس اجنبي داسه قبل ان يدوسه، بعد ملهى من الزمن الى نفس الوطن الذي تاجر به في بورصة النذالة، فيقتطع بمداسه اطراف دجلة؛ مياهه ونخيله وقصوره ونسائه.
..يقف هناك بمداسه ليكتب؛ (مازال الوطن ملهى).

الاخر اودعه القدر في السجن12 عاما من اجل الدين. فتذهب زوجته مع الظروف الى طريق الطين، وتتيه ابنته وراءها دون مدرسة او عائلة او اهل او من يقبل ان يتقدم اليها. يمنح الحياة شرفا فيؤخذ شرفه.
اين الشرطية السننية في القيمة الاخلاقية في الوجود الجماعي..كما يُنتهى اليه من اكثر النظم القيمية في التاريخ.
الأخر بكل نبله وتشرده ونضاله من اجل الانسان، كان وحيدا دون انسان... يجمعه القدر مع فتاة يلم بها شتات وجوده ووجودها بعد ان تحملا في كل صدق الطبيعة وختم الالوهية حرقة الشتات في العشق. ولكن القدرعلى حين غرة يعود لياخذها منه الى نفس لم تعرف من هشيم ذلك الشتات الا جسد فتاته.
يدخل احدهم الى المؤسسة الدينية كي يحمل في جعبته الحقيقة ولكنه يجدها قد غادرت منذ زمن، دون ان يفصحوا بذلك، يفضحهم كالانبياء..يكفر بدينهم كي يؤمن بالله. يردد امامهم كلمة سقراط؛ (يايها الاثينيون،اني مؤمن، ولكن لاككل الذين يتهمونني).. يغدوا صاحبنا كافرا مهما حدثه الله، طالما ان العمامة لاتحدثه.

هل يعادي القدر الانسان حينما يكون انسانا. سؤال يحير الانسان مذ كان.؟؟!!!
اهكذا هي الحياة دائما؟، لذلك كانت كل تلك اليوتوبيات والمدن الفاضلة على طول الطريق الفلسفي الروائي بالذات، انقاذا للنفس من صراخ الواقع الى موسيقى الخيال.
تذكرت كلمة جبران خليل جبران - وهو اوعى واجدى للحياة من ابن سينا واصحابه،فيما تركه وفيما غيّره وفيما وصله وماصنعه من الاجيال بكلماته - وسط هذه الاسئلة لعلي اجرُّ بها وجها آخر امامي من القدر غير مااشعر به ساخطا... تذكرت مايقوله؛ كيف اشك بعدالة الحياة وانا اعرف ان احلام الاغنياء في قصورهم ليس بافضل من احلام الفقراء في اكواخهم.
لم اعد اقبلها كما كنت اول صباي، سيما كنت امنحها اية اخرى مع ايليا ابو ماضي في قصيدة الانسان ؛ قمر واحد يطل علينا، وعلى الكوخ والبناء الموطد.
هل ان الله في عدله اقتضى ان يكون القدر هكذا ضمن غائية ابعد في فلسفة الوجود لم ندركها بعد، ام ان الامر غير ذلك في قصة القدر وسط الحياة المتخمة بالشر.
هنا حيرتي بين جدلية الغيب والانسان. هل دائما على المرء ان يصاب بخيبة امل خلال بحثه عن الحقيقة كما يقال ام العكس هو الصحيح؟، او كما يسميها شوبنهور بـ(الدهشة الاليمة)،ربما فقط يكون طريق الخيبات طويلا،والنشوة لاتكون الا في آخره، الا اننا فقط مازلنا لم نصله بعد.

عدت استذكر اللاهوت المسيحي المعاصر كونه يثير اشكاليات اكثر جدة من اللاهوت الاسلامي بتجريدية الاخير، وابتعاده عن الانسان تماما،اضافة الى خيوط تكفيره، باحتصاره الشرقي الذي لا يقبل وجهة اخرى في فلسفته الانتكاسية، مهما تاه الانسان في ايمانه دون غيب قيلت عنه وعودا ووعودا.

تذكرت كلمة في هذا اللاهوت توجه اكبر همومه اشكاليا ؛( آلهي اين انت حينما اعاني؟). وتذكرت ما ينسب لعيسى قبل ان يجر صليبه من اورشليم الى الجلجلة ؛ (آلهي لماذا تخليت عني / انا الانسان..) سيما ان التوثيق اللاهوتي لهذه الكلمة يكاد يضاهي منهجيا ماكان من نقدية سبينوزا المطرود من حومة الدين وقتها زنديقا بمنهجه ذاك. علما ان اللاهوت المعاصر ما تناول هذه الكلمة لولا استشعاره بخجلها فيما تشيه من ضعف لايواءم شخصية عيسى.
إذن يبقى الشر في الحياة اكبر اشكالية في اللاهوت المسيحي والاسلامي، ورغم عمر الاشكالية معه الا انه لم يصل الى نتيجة مرضية في توجيه ذلك، متوقفا ساعة مع حدود العقل، او بتبرير اجمالي هو؛ ان اختبار الخير في الحياة يفضي الى ايجاد سبب كاف بان يسمح الله للشر وسطه...أو ان شأن الخير هو ان يقوم دائما بالتعويض عما في الحياة من آلام وشرور. وكلاهما لايجدي،اضافة الى مايقترب منهما من حلول.
قد يكون هنالك ماهو أجراء، بما كان مع اللاهوتي الالماني (ديتريش بونهوفر)، سيما ان الرجل عاش المسالة حضوريا في الشعور والمعاناة بعد اعتقاله من هتلر وسجنه ومن ثم اعدامه..بقي طوال السجن يبحث في الاشكالية بعيدا عن مقولات اللاهوت، وهو في قمة احتدامه الشعوري في خذلان القدر للانسان، بهذا الشر العارم للحرب العالمية الثانية، وبخذلان الكنيسة للناس والدين الى جوار هتلر..انتهى هناك بعد معاناة وجودية في المسألة الى؛ ( ان الايمان الحقيقي ليس الايمان الذي يتحدث عن آله يرعى حياتنا كليا بل هو يتحدث عن اله اختار ان يجعلنا ننمو وننضج اقوياء واحرارا من خلال اعطاءه ايانا المساحة وتراجعه من حيز مساحة اتكالنا واعتمادنا عليه.)
الحل ناقص كثيرا. وان كانت الكلمة تصلح في جانب اخر من فلسفة الوجود ضمن مفهوم السنن في فلسفة التاريخ، وشرطية الفعل مع مدخلية الغيب، في زاوبة منها تمثل حضور الله، مع ان حضوره بعين سننه وبعين الانسان المتأله، دينيا كان او غير ديني..حينما يكون قيميا.

اعود امر اقفز على كلمات القدامى اجمالا في مانتهت اليه مدارسهم في الفلسفة التقليدية سيما انها افردت للاشكالية بابا..ولكنها ابدا لم تمنح الشعور هداءة للتضاد الداخلي بين الايمان والواقع في شره..ذلك لتجريديتها وابتعادها عن الواقع الملموس.اي عن واقع الاشكالية.. كمعاناة حياة.سيما ان (فلسفة الحياة)كمنهج للمدارس الوجودية والواقعية مطلقا لاتدخل في آلياتها ابدا..بل هي من ابرز معايب الفلسفة التقليدية،اذا تخلت عن الكلي الى الجزئي.. ومايزرى به شانها بين الفلاسفة.ولكن هذا عينه ماجعلهم رزية الدهر.بل موضع ازراءه. وماجعلهم مع السطح بعيدا عن الاعماق،وحقائق الاشياء.

لذا عدت الى مرتكز الشك لدي في التاريخ مع ثنائية (السطح والاعماق) في المفاهيم، و (ترحيل الكلمات) واغتيالها وقرصنتها التي اخذت الريادة الاشكالية في ضياع الملائكة والزور الاساس في التاريخ.بمعنى ان المشكلة دائما مع المعنى بين السطح والاعماق من جهة.ومن جهة اخرى خذلان الكلمات وقرصنتها وتزويرها.ولنرى مساحته في هذه الاشكالية في الشر.

الشر كلمة ايضا، بل هي الكلمة الاكثر مركزية في جدل التاريخ... لعل هنالك قرصنة معها، ربما في بعض الازمنه رُحِّلت قسرا الى اشياء اخرى ليس من الشر بشيء، بسلطة مذهب او دين او حاكم او تاجر او سلطة جهل..القراصنة كثر.
(الأشياء حاضرة دائما في اسمائها)... من الضرورة ان تؤخذ هذه الجملة كقاعدة – نحتت منا كانتزاع عن لوازم نظرية الحسن والقبح الذاتيين ليس مجاله هنا- يمكن ان تعاد بها الكلمات بعد تيهها او ترحيلها الى اشياءها.والعكس ايضا باعادة منح الاشياء غير ماسميت به من اسمها الحقيقي.

وهكذا الامر تماما مع الشر، قد لايكون هذا الاتجاه لحل المسالة بآلية اعادة الكلمة لمحلها مجديا للشعور مع قناعتي العقلية الكبرى في هذا المنطق من جهة ان هذا الشيء حقا وليس الحق كما قيل ..ولكن النفس في واقعها غيره مع ارسالات عقلها.
ولكن لا باس ان كنت احتال على الذات في هذه الخطوة المعرفية فاحيانا هنالك خدع جميلة نقوم بها مع النفس..خدع يحبذها الله والناس كما يقول علي شريعتي... حينما احتاجها يوما، مع قلق وجودي داهمه وسط الرماد ليكتب ذلك في دفاتر رمادية.
سافترش كل هذا الرماد من القدر وساحتال على اقدامي بان انسيها ملمسه كما كان (موباسان) يدفء صغيرة قصته باعواد الكبريت.
كل هذا التيه معرفيا في اللاهوت والفلسفة في الشر الناخر للوجود هو ان الفلاسفة التقليدين استبدلوا الالام بكل اشكالها في الحياة بمفردة الشر، او بالاحرى انهم بابتعادهم عن الحياة واعماقها ابتعدوا عن الكلمات ودلالاتها لذلك لم يفهموا الالام الا شرا، مع انهم يدعون في تعريف الفلسفة انها البحث عن حقائق الاشياء، لكنهم يقعون دائما في ازمة السطح.

مفردة الشر تقع في دلالاتها حصريا ضمن صيغ من قبيل السيئ والقبيح والدنس ومالى ذلك، وهذا ما يفارق الالام كثيرا في الدلالة، اذ انها لا تنتمي الى الشر الا في مجال محدود ظاهري وهو الايذاء، كما انه يمكن تعريف الالام في جهة النقيض منطقيا، او الضد اللغوي بانها خلاف الراحة دون ان تكون خلاف السعادة او الخير مطلقا. وهذا ملايجعاها شرا طالما انها ليست نقيضا للخير.
وتاكيد اشارة الفلاسفة للالام باسم الشر هو عطفهم المشهور في مباحثهم بباب؛ الشرور والالام.
يمكن ان يتوضح الامر قرانيا في ( عسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى ان تحبوا شيئا وهو شرا لكم )،اذ بتفكيك لغوي مفاهيمي للاية نجد ان الكره والحب جاء في ميزان الراحة والاذية. لترى الاية ان هذين ليسا من الخير والشر بشيء. وبالتالي فالالام لاتمت الى الشر باي لازم وجودي، وانما هو لازم لغوي في القرصنة للكلمات تاكد تاريخيا، بل قد تكون في كفة الخير اكثر مما في الشر.المهم ان لا لازم بين الالام والشر كما هو في العطف الفلسفي والكلامي.

اذن تغدوا المواجهة اللاهوتية للاشكالية محصورة مع مفردة الالام كحالة غالبة على الحياة دون مفردة الشر التي جعلت جدل المسالة في غير ارضه مزروعا. لذا كانت هذه الزحزحة المفاهيمية هي الشرط الاساس للحل اللاهوتي والفلسفي، شرط ان يتبنى المنهج الوجودي في اعتماد فلسفة الحياة كواقع محسوس في فهم الالام بين الخير والشر..والى ايهما تجري ولو غالبا. والا عقليا سنعود الى نفس الاشكالية. اذ مازالت مشكلة الغالب والسائد في الحياة باقيا في جهة البديل(الالام).

باعتماد حيوات الماضين سيما مايعود منها الى صانعي التاريخ، كونها تمثل ابلغ شريط استقرائي لهذه المفاهيم، توضح اثر الالام في الحياة سلبا وايجابا..بما نجده من دورها في تلوين الشخصية وتشكيلها..بمعنى اخر هو تفحص اثرها الوجودي عليهم، بما قالوه فيها..بالاضافة الى البحث عن المفهوم في السِيَّر وواقعيات الحياة للمفهوم، بما سيتجاوز المسلمات او المقولات التجريدية في الالام الموسسة على اسس لاترتكز الا على كليات معرفية لاتمت الى الواقع بصلة.

اقتصر باقرب ماهو لدي من رموز مفهوم (الالم) وشخصياته، سيما فيمن ينتمون لمدارس تتخذ فلسفة الحياة المنهج الاساس في مقولاتها،دون أي حاجة لجهد استقراءي وفتح باب الاسطورة واليات اخرى في المفهوم..اي بمعنى اخذ انثربولوجيا المفاهيم في كل الياتها..لاحاجة لهذا لما يستغرقه الامر بحثا وترشيدا وتفكيكا..
لنقف مثلا مع جبران خليل جبران، فلهذا المتالم مسيرة فلسفية مع المفهوم طالت معظم كتاباته بل تميزت بها. فمما انتهى اليه من فلسفة الالم في الحياة؛ ان الكابة لو تحدثت لكانت اكثر حلاوة من الغبطة......
يقول في اثر الالم في وجوده شخصيا، خلال حياته ونكساتها،ان ؛ المصائب فتحت بصيرتي، والدموع جلت بصري، والحزن علمني لغة القلوب.
وله في ذلك الكثير يمنح به مفهوم الالم فلسفة جوهرية للصيورة،لايمكن ان تكون الا خيرا، بل ضرورة في تحقق الوجودالانساني بصورته الالهية.
كيركجارد الذي اتفق عليه مؤرخي الفلسفة بان حياته كانت الاكثر ايلاما قاطبة بين الفلاسفة، بل هي اختصارا لكلمة الالم.. كان يقول: اصبحت كاتبا بسبب كآبتي وبريجينا(حبيبته التي اهداها للقدر)، وكلاهما كان قمة الالم في الحياة. وكأنه يريد ان يقول ان صيرورته عبقريا لم يكن الا بالالم في هذين الوجهين من الحياة. علما ان كتاباته هي يوميات ذاتية لا غير (فلسفة الحياة) من الداخل دون أي نقل عن ظواهر تفصله عنها مجسات نفسية، كما هي في معاناته الخاصة. وبهذا (في تمرده على الفلسفة العقلية) غدا ابو الوجودية بجدارة.
انتهى (تينس وليامز) في مسرحيته؛ عربة ترام اسمها الرغبة بقوله : ارني شخصا لم يعرف الحزن وانا ابرهن لك على انه ضحل وسطحي.
كما ان هنالك نص انطولوجي بالغ الروعة للنبي محمد يصف به حياته الشخصية، يقول في احد جمله: والحزن رفيقي.
من جهة اخرى دوَّن ناظم حكمت الكاتب التركي الكبير كل الالام والانهيارات والانكسارات ؛ الموت، الفراق، المرض، الاضطهاد، السجن، الاعدام، لرفاقه في طريقه النضالي.. ولكنه لم يختر عنوانا لهذا التدوين في روايته الا ؛ (الحياة جميلة ياصاحبي).
مات انكيدو فكان جلجامش.
ابعدت ليلى فكان قيس.
ذلت الحرية فكان سبارتوكس.
زوِّر الاسلام فكان ابوذر.
...وهلم جرا مع الكثير..كل لهم زاويته من الالم، بما لايمكن معهم ان نجد شخصية اثرت حقا في التارخ دون ان تتالم في جهة ما من وجودها..ضمن تناسب طردي مع ما يسمى بـ(الحساسية الوجودية).
بل في الجانب الديني استشف من التاريخ ان الانسان الديني سيجد ان الحياة تاخذ معناها من المعاناة تحديدا.
بل يغدوا الالم هو حراك الصيرورة، وجمرة النفس.. وكأنه هنا جدلية بين (الروح والالم) في التاريخ تصطف في جانب القطب الالهي من الانسان في صراعه مع الظلمة كيف كانت متجسدة في انسانها المرفه على حساب الاخر.
لذا يمكن ان نرى ان ماتشيه معظم المقولات الدائرة في تحليل الشخصية الانسانية وسط الحياة خلال التاريخ؛ ان الانسان المعذَّب والمتألم هو محور الحياة ومقياس الاستمرارية فيها..بل جوهر الوجود الديني هو في المعاناة.. وانها تاخذ بالانسان دوما الى الانسان المتاله..الانسان الجميل..النبيل.

لااعرف كم يبقى للنفس من تنهيدتها المتكررة دوما؛ كيف للقدر ان يسمح بذلك.؟
ربما نكون استظلنا ببعض اجنحة الملائكة وان لم نرها. لااعرف؟؟


[email protected]