الآن عرف شهداء جيش المهدي، وهم بجوار خالقهم، أنهم دافعوا عن القنبلة النووية الايرانية حتى آخر قطرة دم.
صار واضحاً أن لقاء السيّد مقتدى الصدر بالشيخ هاشمي رفسنجاني العام الماضي شكّل انعطافاً حاسماً ليس في حياة هذا الشاب الذي وجد فجأة أن له أتباعاً أكبر بكثير من أيّ جيش من الجيوش التي تملأ العراق، بل في حياة العراقيين ووطنهم أيضاً.

حين ذهب مقتدى إلى إيران لغرض علاج والدته المريضة كان أتباعه يلهجون بعبارات الكراهية لإيران ولمواقفها ضدّ التيار الصدريّ، وكانت أنباء محاصرة السيّد جعفر الصدر والتضييق على زائريه في قمّ، مثلها مثل أنباء منع السلطات الايرانية تظاهرات العراقيين المنددة باغتيال السيد محمد صادق الصدر، كما أنباء امتلاء سجون قمّ بكل من وُجد في بيته كتاب للشهيد الصدر، قد فعلتْ فعلها في تأجيج كراهية الصدريين لإيران، تلك الكراهية الموجودة أصلاً بسبب هيمنة العنصر الفارسيّ في الحوزة النجفيّة والذي صنّفه الصدريون باعتباره ممثلاً للـ(حوزة النائمة).
بعد تلك الزيارة "التأريخية" عاد مقتدى الصدر أكثر ثقة بنفسه وبـ"مستقبله السياسيّ"، وابتدأ سيل تصريحاته الناريّة التي حملتْ كثيراً من الخطاب الإيرانيّ الذي بات مضحكاً حتى في بلد المنشأ، واختفتْ من بين حشود الصدريين نبرة معادية للنظام الإيرانيّ، بل بدا أن الصدر كثير الحماس للذبّ عن إيران اذا لزم الأمر، فحين صرّح أحد أخلص أتباعه(ممن لم يدركهم بعدُ انقلاب الوجدان الصدري حيال إيران) بأن الجمهورية الإسلامية تلعب لعبة قذرة في العراق بترويجها المخدرات وضخّ السلاح ومحاولتها زرع فتنة طائفية، انبرى مقتدى له واصفاً أتباعه بالجهلة، قائلاً قولته التي استعارها من الامام عليّ (لقد ملأتم قلبي قيحاً). ولقد قرأت أنباء غير مؤكدة أن هذا الشيخ الذي انتقد إيران وملأ قلب السيّد الصغير قيحاً قد ابتلعته خمس إطلاقاتٍ مجهولة المصدر!
من يجرؤ بعد ذلك على أن يملأ قلب القائد العام لجيش المهدي بالقيح، بعد أن امتلأ ثقة بالغد المشرق وهو يرى في الداخل حشود المهمّشين (الذين سمّاهم هو نفسه بالجهلة) تهتف له كما هتفت من قبل لقاتل أبيه، ومن الخارج تأتي إليه الأموال وشاحنات العتاد وضباط الإطلاعات وخبراء حزب الله، وبعد أن صارت صوره تضاهي عدداً صور صدام حسين في أيام مجده، وقيلت في مدحه القصائد، وغنّى المغنون له: (شَمْرة الوالد ... مقتدى، بس هو قائد ... مقتدى)، والأهازيج التي ذهب فيها قائلوها إلى أقصى التطرّف : ( من بعد إذنك يا علي ، مقتدى هو الولي)، حتى ان بعضهم توقّع قريباً، إذا أمدّ الله في عمر السيّد وجيش "الجهلة"، أن تُطلَق الأهزوجة التاليّة: (من بعد أذنج يا البتول ... مقتدى هو الرسول).

ليس عسيراً التنبؤ بمادار في لقاء السيّد مقتدى الصدر بالشيخ الرفسنجانيّ، لقاء شابّ لا علميّة له ولا حنكة سياسيّة ذي مزاج متقلب وسريع الإنفعال، مع ثعلب إيران الذي نجا من زلازل عصفت بكل رموز الثورة وأبقته شاهداً على أن الثورات لا تأكل جميع أبنائها، بل المخلصين منهم فقط.

السياسة الإيرانيّة يلخّصها شخص رفسنجاني خير تلخيص، فإيران ليست صديقة لأحد، ليست عدوّة لأحد، تترك مسافة بينها وبين أصدقائها مساوية للمسافة بينها وبين أعدائها، تبدو متعالية على الحدث لكنها في الصميم منه، ولهذا فهي منذ انتهاء حربها مع العراق في هدنة طويلة ـ وربما أبديّةـ مع العالم (لا حرب ولاسلام).
وهذه كلّها بصمات رفسنجاني الذي خلق له منصباً لا يمكن أن يملأه أحد إلا هو (رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام!) بانتظار اختبار مدى امكانية أن يكون رئيس الجمهوريّة القادم.
من عرف رفسنجاني عرف إيران، لكنْ ... من يعرف رفسنجاني؟!
هو ليس إصلاحياً ولا محافظاً، من بقايا الثوريين لكنه مجدّد وليست لديه ثوابت الثوّار، ليس فقيهاً بالكامل، ما ان وضع السلاح بعد انتهاء حربه مع العراق حتى راح يتاجر هو وابنه بالنفط العراقيّ مع عدي صدام حسين، كثيرون يرون أنه ـ بميزاته هذه ـ وحده القادر على التأثير في قرارات المرشد، وتوجيه المحافظين والإصلاحيين على السواء، فالمسافة نفسها التي تضعها إيران بينها والعالم، هي المسافة التي بين رفسنجاني والآخرين.
ليس الرجل أسطورة، لكنّ الدهاء الإيرانيّ الذي يعبّر عنه مَثَلهم الشهير (اذبحْ البعير بقطنة)، تجمّع في شخص ثعلب رفسنجان العجوز.
وحين التقى بمقتدى الصدر لم يحتج هذا الرجل إلا إلى ساعتين فقط لجعل الشابّ المعمم يجد طريقة مثلى يستثمر بها رأسماله الرمزي المتعاظم الذي لم يكن يعرف كيف يصرفه.
لم يأتِ رفسنجاني بأمرٍ لا يفهمه مقتدى، بالعكس فقد أعطاه ما يتناغم وروحيّة شابّ لم يرَ لا هو ولا أتباعه سوى الهياج المولّد للعنف سبيلاً للقوة، منحه القدرة على رؤية أن كلّ ما ينقص مقتدى (المكانة العلمية والخبرة، والفهم السياسيّ) ليست كثيرة الأهميّة الآن، بل لا أهميّة لها، اذ بمستطاعه توجيه هذه الحشود الهاتفة باسمه بما تيسّر له من شعاراتٍ هي بين بين دائماً: إسلامية (نحن اليد الضاربة لأحمد ياسين ولحماس)، عربيّة (مطالبته الدول العربية بالاشراف على الانتخابات المقبلة)، وشيعيّة طبعاً (المهدي هو من أسس هذا الجيش ولا أستطيع حلّه)، وشعارات وطنية من ذلك الصنف القويّ هذه الأيام والذي يرى في كل من كان خارج العراق منقوص الوطنية.
بهذا التلفيق تمكّن مقتدى الصدر من سدّ الثغرات الكثيرة التي يحفل بها شخصه وتياره، بالشعار الذي يضمن له توجيه الهيجان الى أية وجهة يريد مادام هذا الشعار لا ينقض المسلّمة التي حُفرت عميقاً في وجدان أغلب العراقيين الآن: السلاح عند كل أمر مُشْكِلٍ. واذا كانت شعارات صدام لم تزل تفجر براكينها في غرب العراق، وشعارات ابن تيمية تفجر براكين أُخرى هنا وهناك، فلم لا يكون لشعارات الثورة الاسلامية منسوخة ومعدّلة حصة في هذه الحفلة الكبرى؟
ويخطئ من يقول أن عدم وجود مشروع سياسيّ واضح للصدر علامة ضعف له. إنها قوّته كلّها التي تجعله في حلّ من المساءلة عما حقق وعمّا يريد وعن أهدافه. لا يحتاج الصدر الى مشروع سياسيّ، بل الى حضور قويّ وبضعة هتافات تستثمر سخط أتباعه "الجهلة" على كلّ شيء: على الأميركان واسرائيل والحوزة النائمة وعراقيي الخارج، وعلى فقرهم وتعاستهم وجهلهم الذي لم نعد بحاجة الى اعتراف مقتدى به لإثباته.
لعلّ الصدريين يعرفون أن العراق حارب إيران نيابة عن أميركا ثمانية أعوام وكان وقود تلك الحرب شيعة العراق، لكنهم لا يعلمون ان إيران تحارب أميركا الآن بهم، أو لعلّهم يعلمون لكنهم يخشون من قول ذلك لئلّا يملأوا قلب قائدهم قيحاً، فالكلام عن إيران محرّم الآن.
الشهداء من جيش المهدي وحدهم يعرفون ذلك الآن، يعرفون أنهم دافعوا عن المشروع النووي الإيرانيّ إلى آخر "جاهل" منهم.
لن يندموا ولن يحزنوا إذْ لا ندم ولا حزن في "جنان الخلد" على ما يشاع.
لكننا نحن العراقيين الذين لم نزل نسكن الأرض، نحن الذين لا رغبة لنا "الآن على الأقلّ" في دخول الجنّة، سوف نبكي عليهم.
ومن أجلهم، من أجل دمهم المسفوح رخيصاً سيطول بنا الحزن.


http://aqwas.com